أعمال أدبية أرّخت القضية الفلسطينية
“الروايات الأدبية أكثر صدقا من كتب التاريخ”. هذا ما قاله الأديب المصري د. محمد المنسي قنديل في إحدى اللقاءات التي جمعت بينه وبين شباب القراء قُبيل ثورة يناير العظيمة. وقتها سأله أحد الحضور -الذين كنت من بينهم- عن مدى صدق الأحداث التي سردها في روايته الأخيرة – آنذاك- يوم غائم في البر الغربيّ، وكيف أنها تُخالف ما ذُكر في كتب التاريخ. ليرد المنسي قنديل بجملته المذكورة آنفا، مشددا على أن التاريخ يكتبه المنتصرون، لذا نرى أن الرواية أو العمل الأدبي بوجه عام، أكثر صدقا من كُتب التاريخ.
ولأن الاحتلال الصهيوني، يفعل ما في وسعه من أجل طمس الهوية الفلسطينية، وتغييب القضية الفلسطينية، فإن كتابة الروايات والقصص القصيرة من أجل تأريخ النكبة والمقاومة، يظل حائط الصد الأخير أمام معاول الاحتلال.
فكتابة ما حدث وذِكر المذابح المقترفة، و تدوين أسماء القرى المهدمة والمدن التي هُجّر أهلها قسرا من أجل بناء المستوطنات، وتخليد رموز المقاومة والأسرى الأبطال، بالتوازي مع “أنسنة” الشعب الفلسطيني، ونزع الهالة الأسطورية المنزهة عن الوهن والضعف عنهم، بسبب مقاومتهم الاحتلال، يُعد واجبا تاريخيا، وفرض كفاية على الأدباء الفلسطينين وعلى الأدباء المهتمين بالقضية الفلسطينية.
مفتاح بيت الست خديجة حجو في بلدة الجورة الأصلية، والتي تحتفظ به منذ عام 1948.
وذلك من أجل الإبقاء على القضية حية، ولتعريف الأجيال الجديدة بها، وبتضحيات الشعب الفلسطيني الموجود بالداخل، والتأكيد على حق اللاجئين -الذين أُجبروا على الشتات- في العودة، ومن أجل إذكاء نيران القضية في القلوب، كي لا تنطفئ ويُصبح الاحتلال فعلا عاديا، ويُصبح المحتل الغاصب، جارا و رب عمل وزميل دراسة.
في هذا المقال، نرشح لكم قائمة قراءة قصيرة لبعض الروايات التي تؤرخ للقضية الفلسطينية، وتستعرض ويلات النكبة وأثر الشتات، سواء كان كاتب هذه الروايات؛ فلسطيني الهوية أو فلسطيني الهوى..
الطنطورية – رضوى عاشور
غلاف الطبعة الأولى من رواية الطنطورية لرضوى عاشور
“كيف احتملنا و عشنا و انزلقت شربة الماء من الحلق دون أن نشرق بها و نختنق؟”
صدرت هذه الرواية الملحمية عن دار الشروق في عام 2010. تتبعت فيها الأديبة المصرية العظيمة رضوى عاشور، خطوات “رقية الطنطورية” منذ أن سقطت قريتها الطنطورة عام 1948، في يد العصابات الصهيونية، وعمرها آنذاك ثلاثة عشر عاما، واقترفوا فيها المذبحة البشعة التي تماثل مذبحة دير ياسين في الحجم والبشاعة، وراح ضحيتها والد رقية وأخواها، وعدد كبير من شباب القرية، ثم رَحّل الجنود الصهاينة نساء القرية وأطفالها وبعض الشيوخ إلى قرية قريبة هي الفرديس ومن الفرديس إلى الخليل ثم توزعوا في المنافي والشتات و دُمرت الطنطورة تماما ولم يتبق منها إلى ما حمله اللاجئون في ذاكرتهم.
تتبع رضوى خطوات “رقية”، وتؤرخ لما حدث بالتفصيل، دون أن تُسقط اسم مدينة مهجرة أو قرية مهدمة. تحمل على عاتقها في هذه الرواية، عبء التأريخ للنكبة، وتوثيق المجازر البشعة التي ارتكبها الاحتلال الغاصب، لتترك لنا ولمن سيجئ بعدنا عبر فصول هذه الرواية، وثائق تاريخية صادقة، لا تشوبها شائبة زيف أو موالسة، عن النكبة وحرب الـ 48 وما تبعها من ويلات وتشتت. وثائق قادرة على أن تعرفنا على التاريخ الحقيقي، وتقف أمام التدليس والتزوير والشائعات التي روجها الاحتلال ونشرتها وسائل الإعلام.
الروائية المصرية العظيمة رضوى عاشور
تُضفّر “رضوى” في هذه الرواية، التاريخي بالمتخيل، فشخصيات الرواية مُتخيلة، لكن القرية والمذبحة واللجوء إلى لبنان والمخيمات وصبرا وشاتيلا والحرب الأهلية في لبنان واجتياح لبنان عام 1982، وقائع تاريخية.
يتجلى لنا في هذه الرواية، ما قاله جابرييل ماركيز من أن “الزمن لا يسير إلى الأمام بل يرتد إلى الخلف في حركة دائرية”. فضياع الأندلس، يتكرر مع فلسطين. فكما سقطت عمورية سقطت حيفا، و كما سقطت إنطاكية سقطت اللِّد، وكما اغتصبت غرناطة، هُتِك عرض يافا. وعرب 48 في فلسطين هم المدّجنون الأسبان، أما اللاجئون الفلسطينيون في مخيّمات عين الحلوة و بنت جبيل و طولكرم، فهم النازحون الأندلسييون الذين أُخرجوا كرها، فتشتتوا في أمريكا اللاتينية و تركيا والشام.
صورة نادرة لأطفال ونساء قرية الطنطورة أثناء تهجيرهم قسريا بعد ارتكاب المذبحة
حتى المدد الذي انتظره الأندلسييون من السلطان العثماني و من جيش مصر، هو نفس المدد الذي منّى الفلسطينيون به أنفسهم، قبل أن يخرجوا ليلا من ديارهم ليخوضوا في دم أبنائهم و أزواجهم و جيرانهم ليلة 17 مايو عام 48.
كتبت رضوى عاشور هذه الرواية، وكأنها رقيّة الطنطورية، كتبتها وكأنها عايشت النكبة و سارت في هذه المسارات و حطت أثقالها في البيوت السبع كما فعلت رقيّة. كتبت 60 سنة فلم تُسقط تفصيلة و لم تنسى يوم، لتمنحنا وثيقة تاريخية صادقة، نضعها نصب عيوننا ونحن ندافع عن القضية الفلسطينية.
رجال في الشمس – غسان كنفاني
غلاف رواية رجال في الشمس
“لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟”
تعد هذه الرواية القصيرة من أوائل الروايات الفلسطينية التي كُتبت عن الشتات والموت والحيرة. صدرت الطبعة الأولى منها في بيروت سنة 1963، وتحكي عن قصة ثلاثة فلسطينيين -الشيخ أبي قيس والشاب أسعد والصغير مروان-، الذين تجمعهم غاية واحدة، وهي الهرب إلى الكويت حيث النفط والثروة، بعدما ضاقت بهم أرض الوطن المسلوب.
فأبا قيس يحلم ببناء غرفة في مكان ما خارج المخيم، وأسعد يحلم بدينارات الكويت وبدء حياة جديدة والوفاء بوعد زواج لم يقطعه، ومروان الصغير يحاول أن يتغلب على مأساته العائلية، فوالده ترك أمه ليتزوج امرأة تملك بيتًا، وأخيه في الكويت تزوج وتركهم دون عائل، ليصبح مروان عائل الأسرة الوحيد، وعليه أن يصل إلى الكويت.
الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني
ولأن السفر الشرعي غير متاح ولأن المهربين كُثّر، ولا أحد يهتم بمعاناة أحد، يضطر الثلاثة إلى السفر هربا في خزان شاحنة يقودها أبو الخيزران -بعد مساومات بشعة واستغلال لحاجتهم الماسة إلى السفر، ورغبتهم في البحث عن مخرج-، وفي نقطة الحدود يتأخر السائق عليهم، فيموت الثلاثة اختناقا بفعل لهيب شمس أغسطس الحارقة وجنهم المستعرة داخل خزان المياه الفارغ. يموتون دون أن يقرعوا جدار الخزان أو أن يرفعوا أصواتهم بالصراخ، لأنهم -ولأخر لحظة- أَمِلوا أن المأساة التي يدورون في فلكها، قد قاربت على الانتهاء، وأن العون سيئين وأن الوصول إلى بر النجاة، قد آن.
رواية “رجال في الشمس”، والتي كتبها الأديب الشهيد غسان كنفاني، ما هي صراخا فلسطينيا في وجه العالم، صوت عالٍ بُحّ وهو يختنق داخل عربة مياه فارغة، يقودها خَصي، هُزِم في حرب الـ 48، وتعذّب “عشر سنوات طِوال، وهو يُحاول أن يقبل الأمور، ولكنْ أيّة أمور؟ أنْ يعترف ببساطةٍ بأنّه قد ضيّعَ رجولَتَه في سبيل الوطن؟ وما النّفع؟ لقد ضاعتْ رُجولتُه وضاعَ الوطن، وتَبًّا لكلّ شيءٍ في هذا الكون المَلعون“. وتركت سؤالا لا زال يتردد صداه حتى الآن، لماذا لم يدق الثلاثة جدار الخزان عندما تجلّى لهم الموت؟
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية تم تحويلها لفيلم سنة 1972، يحمل اسم ” المخدوعون”، وتم تصنيفه ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العربية، وهو واحد من الأفلام القليلة التي التزم فيها السيناريست بأغلب النصوص الحوارية في الرواية.
السيدة من تل أبيب – ربعي المدهون
غلاف رواية السيدة من تل أبيب لربعي المدهون
“كلما هاجر يهودي ما، من بلد ما إلى إسرائيل، انتقل فلسطيني و ربما عشرة إلى مهجر جديد. تسقط مهاجركم لتبدأ منافينا”
صدرت هذه الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 2010، وترشحت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في نفس العام. كتبها الأديب الفلسطيني “ربعي المدهون”، ابن مجدل عسقلان، المهجّر داخليًّا إلى غزة بعد النكبة، والمُهجّر -فيما بعد- خارجيًّا إلى بريطانيا، بعدما كفّ عن السياسة على -حد قوله-، عن تجربته الشخصية في العودة لفلسطين، بعد 38 سنة من الاستقرار في الشتات.
كتب “المدهون” هذه الرواية، بصورة قد تبدو صادمة ومزعجة ومتمردة على الشكل المعهود للأدب الفلسطيني. حيث يرى الأديب، أن ما أنتجته القضية الفلسطينية من أدب عظيم باقٍ، لم يعد يصلُح أو يُعبّر عن الوضع الحالي، فلا يجوز -وِفقًا لرأيه- أن تتم معالجة القضية أدبيًا، بنفس بالنظرة، أو من الزاوية ذاتها التي عالج بها “غسان كنفاني” رجاله في الشمس، حيث أن هؤلاء الرجال دقّوا الخزان، واستقروا الآن في المنافي والشتات.
الروائي الفلسطيني ربعي المدهون
فالكاتب استخدم في هذه الرواية أسلوب “التجريد” كتقنية أساسية في هذه الرواية، حيث دلف إلى داخل الجوهر الإنساني، وهو يحكي لنا عن جيرة راكبان في طائرة مُحلّقة في السماء، إن سقطت سيموتان معًا، دون النظر إلى الصراع الكبير الذي يحكمهما على الأرض. لكن التخلّص من الخلفيات التي تحكم البشر، ليست بهذه السهولة. فـ ” أنا الآخر. أنا الذات التي تقلق وجودها، وهي الوجود الذي يقلق ذاتي. لسنا بعضنا لكي نهدئ بعضنا. بل نحن نحنان، نحن تحتل نحنًا، و هي من نحنِهِم لا من نحنِنَا. هي إسرائيلية كما تؤكد لهجتها.
و لابد أن تكون قد أدت خدمتها في الجيش. و ربما أمضتها في الأراضي الفلسطينية، فأطلقت النار على فلسطيني ما، أو شاركت في قتل فلاح ابن نصر الدين ابن خالي. و قد تكون قد وقفت على حاجز تتلقف القادمين، تنشف ريق عجوز فلسطينية، أو تعرقل مرور أخرى حامل في طريقها إلى مستشفى للولادة، و تتسبب في وضعها وليدها عند الحاجز، تعيقها بدل أن تكون قابلتها وهي امرأة مثلها. قد تكون جارتي كل هذا أو بعضه”.
وبالرغم من الانتقادات التي وُجِّهت إلى الرواية، والادّعاء بأنها تحمل في طياتها دعوة إلى التطبيع، إلا أن “المدهون” يرى أن هذه الرواية وكل ما كُتب على شاكلتها، يُعد إدانة للجانب الإسرائيلي. حيث أن الأديب -وإن كانت نفسه تطمح للسلام- إلا أنه يرفض سلام الجبناء، بل ويؤكد على أن التعايش والقبول بالوضع الحالي الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين لا يُعد تعايشًا، بل هو تفريط واستسلام للاحتلال. فدولة قائمة على ارتكاب المجازر وطمس الهوية الفلسطينية وتهجير أهل الأرض الأصليين قسرًا، لا تسمح بأي نوع من أنواع التعايش.
كما أنه ارتكز في روايته على تفنيد ادعاءات الاحتلال الصهيوني التي تنفي الوجود الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة قبل النكبة وبعدها، وأسطورة: “أرض بلا شعب”. وعلى تصوير الجندي المحتل الوقح السافل الذي يقف على أي معبر/حاجز ليُحول حياة الفلسطينيين إلى جحيم، مما يجعل من فكرة ترجمة هذه الرواية إلى العبرية أمرًا يكاد يكون مستحيلاً.
رأيت رام الله – مريد البرغوثي
“لا غائب يعود كاملا، لا شيء يستعاد كما هو”
مقاطع من سيرة ذاتي، تقطر ألما صافيا يوجع القارئين. كتبها الشاعر الفلسطيني العظيم مريد البرغوثي ليوثق فيها رحلة العودة إلى رام الله، بعد ثلاثين عاما من الشتات والاغتراب بفعل نكسة 67. صدرت عام 1997، وفازت في نفس العام بجائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي.
يبدأ المشهد الأول فوق جسر نهر الأدرن، عام 1996، ليذكر البرغوثي أن آخر مرة مشى فوقه، كان قبل ثلاثين سنة، في طريقه من رام الله إلى عمان، ومنها إلى مصر، لاسئناف دراسته في جامعة القاهرة. حيث عامه الرابع والأخير، عام تخرجه المنتظر، وعهده الذي قطعه لأخيه العزيز منيف، وأمنية والدته التي لطالما رغبت في ولد جامعي من أولادها، لكن الحرب قامت، ووفى مريد بعهده، وحصل على شهادة جامعية، لكنه فشل في الحصول على جدار يعلق عليه شهادته.
“عبرت الجسر المحرم علينا، وفجأة، انحنيت ألملم شتاتي، كما ألم جهتي معطفي إلى بعضهما البعض في يوم من الصقيع والتلهف. أو كما يلملم تلميذا أوراقه التي بعثرها هواء الحقل وهو عائد من بعيد“.
الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي
ثم يتوالى السرد القاتل، لننتقل مع البرغوثي بين الماضي والحاضر، بين الوجع الذي يُكابده فسطينيو الداخل كل يوم مع الاحتلال الغاصب الذي لم يكتفِ باحتلال الأرض، بل امتدت أياديه ليحتل كل تفصيلة يومية عادية، وبين غصة الاغتراب ووجع الشتات الذي يعانيه فلسطينيو الخارج، “وهل تسع الأرض قسوة أن تصنع الأم فنجان قهوتها مفردا في صباح الشتات ؟!، وحلم العودة الذي يزرعونه في أبنائهم، على أمل أن يحصدوه ذات يوما، ويعودون زُمرا.
هذا العمل الأدبي، تحفة فنية متكاملة الوجع، من حيث اللغة وسلاسة انتقال المشهد بين الماضي والحاضر، الداخل والخارج. وكان أكثر ما يميزه، أن البرغوثي نزع الهالة الأسطورية عن فلسطيني الداخل، و”أنسنهم” بكل ما تحمله الإنسانية من نقائص و زلات وصفات لا تُغتفر.