“وزارة الخارجية السودانية دعت أطرافا تشمل وزارات العدل والداخلية والخارجية ودار الوثائق القومية واللجنة الفنية لترسيم الحدود إلى تجميع أعمال اللجان السابقة حول حلايب وتحديث نتائجها..” بهذا التصريح الصادر عن رئيس اللجنة الفنية لترسيم الحدود بالسودان، عبد الله الصادق، عادت قضية “حلايب وشلاتين” (الواقعة على الطرف الإفريقي للبحر الأحمر) لتفجر الصراع مجددًا بين القاهرة والخرطوم.
التصريح السوداني في هذه القضية ليس الأول من نوعه، إلا أنه حمل بين ثناياه تطورًا غير مسبوقًا هذه المرة، خاصة فيما يتعلق ببحث الخرطوم كيفية إخراج المصريين من هذه المنطقة، وهو ما يعد نقلة نوعية في الموقف السوداني الذي يعزف ما بين الحين والآخر على وتر خضوع حلايب وشلاتين لسيادته.. ما يدفع للتساؤل حول دوافع تصعيد هذه المسألة مؤخرًا، وهل من الممكن أن يقود إلى صدام بين القاهرة والخرطوم؟
الخرطوم تبحث تهجير المصريين
في مفاجأة غير متوقعة سواء من حيث التوقيت أو المضمون، اتخذ السودان بعض الخطوات التي من شأنها تصعيد قضية حلايب وشلاتين، وذلك حين أعلن عن “تكوين لجنة تضم كافة الجهات ذات الصلة” لحسم قضية منطقة مثلث حلايب وأبو رماد وشلاتين الحدودية، والتي تبلغ مساحتها قرابة 22 ألف كيلومتر مربع، في محاولة لما أسماه “إخراج” المصريين منها بالطرق الدبلوماسية.
عبدالله الصادق، رئيس اللجنة الفنية لترسيم الحدود بالسودان في تصريحات له أشار إلى اجتماع عقدته اللجنة تمهيدًا لوضع محددات العمل، كذا وضع خارطة طريق بشأن المنطقة، وكيفية إخراج المصريين منها، ملفتًا أن بلاده تمتلك وثائق تثبت سودانية حلايب، وأنها تسعى إلى تحريك الملف مرة أخرى، وهو ما دفع وزارة الخارجية السودانية إلى دعوة عدة أطراف شملت وزارات العدل والداخلية والخارجية ودار الوثائق القومية واللجنة الفنية لترسيم الحدود إلى تجميع أعمال اللجان السابقة حول حلايب وتحديث نتائجها.
عبدالله الصادق: نمتلك وثائق تثبت سودانية حلايب ونسعى إلى تحريك الملف مرة أخرى.
جدير بالذكر أن التصعيد السوداني لقضية حلايب وشلاتين ليس الأول من نوعه، ففي يناير الماضي تقدمت الخرطوم بشكوى لدى مجلس الأمن الدولي بشأن الحدود مع مصر والتأكيد على خضوع “مثلث حلايب” للسيادة السودانية، وهو ما رفضته القاهرة بشدة، مؤكدة أنها أراضي مصرية خالصة ولا يمكن لأحد السيطرة عليها.
ويعود النزاع بين القاهرة والخرطوم حول هذا المثلث إلى عام 1956 حين تم إعلان استقلال السودان عن مصر، إلا أنه منذ هذا التاريخ لم يؤثر النزاع على حركة التجارة والأفراد بين البلدين دون قيود، حتى عام 1995 حين فرض الجيش المصري سيطرته عليه، ومن هنا دخل الصراع بين الجارتين نفقًا جديدًا من المواجهات.
لقاءات السيسي والبشير لا تخفي حجم التوتر في العلاقات بين القاهرة والخرطوم
القاهرة والخرطوم.. مزيد من التوتر
العلاقات المصرية السودانية شهدت خلال الأشهر القليلة الماضية موجات من التوتر والاضطراب الواضح والذي كشف عنه التراشق الإعلامي والسياسي المتبادل بين الجارتين خلال الآونة الأخيرة، وبالرغم من وصف الرئيس السوداني عمر البشير علاقته بمصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي بـ”الممتازة” إلا أن هناك شواهد ثلاث – خلاف التصعيد الأخير – خلال الشهرين الأخيرين تكشف حجم التوتر بين البلدين
صراع الحضارات
سخرية بعض وسائل الإعلام المصرية من زيارة الشيخه موزه والدة أمير دولة قطر للسودان وتفقدها أهرامات البجراوية السودانية، وإشادتها بحضارة وتاريخ السودان أثارت استفزاز بعض المسئولين في الخرطوم، وهو ما دعا وزير الإعلام المتحدث باسم الحكومة السودانية، أحمد بلال عثمان، إلى وصف تعليقات الإعلام المصري بشأن حضارة وآثار السودان بـ “المسيئة”، مؤكدًا أن الخرطوم ستتعامل معها بكل جدية وحسم.
وقال عثمان: “بعض وسائل الإعلام الخارجية تعمدت الإساءة إلى الحضارة السودانية”، معتبرا ذلك “إهانة مباشرة للشعب السوداني بكل قيمه وموروثه”، ملفتًا إلى أن عددا من أساتذة التاريخ في السودانيين عاكفون على تنقيح الكتب التاريخية من “الأخطاء التي وردت فيها” لإثبات أن الحضارة السودانية ضاربة في القدم، وأن “أهرامات البجراوية “أقدم من الأهرامات المصرية بألفي عام، متعهدًا “هذا ما سنعمل على توضيحه للعالم” على حد تعبيره.
وزير الإعلام السوداني: تعليقات الإعلام المصري بشأن حضارة السودان “مسيئة” وأهرامات البجراوية أقدم من الأهرامات المصرية بألفي عام.
منع الاستيراد من مصر
قبل أيام أيضًا، وبزعم مخاوف تتعلق بالسلامة والصحة العامة، قررت الحكومة السودانية منع استيراد مزيد من المنتجات الزراعية المصنعة في مصر، حسبما جاء في بيان أصدرته وزارة التجارة الخارجية السودانية أنه قد تقرر وقف استيراد الأسماك المعلبة والمربى والصلصة والكاتشب من مصر، بناء على طلب وزير الصناعة السوداني منع استيراد سلع مصرية بدعوى استخدام مدخلات إنتاج ملوثة في تصنيعها.
قرار السودان بوقف استيراد بعض المنتجات المصرية ليس الأول هو الآخر، حيث وقفت وزارة التجارة السودانية العام الماضي استيراد الخضر والفاكهة والأسماك من مصر مؤقتا اعتبارا من 20 سبتمبر الماضي لحين اكتمال فحوصات معملية.
الاتهام بدعم جوبا
في فبراير الماضي، وخلال زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة، اتهم الرئيس السوداني عمر البشير الحكومة المصرية بدعم حكومة دولة جنوب السودان بالأسلحة والذخائر، قائلا خلال حوار صحفي مع عدد من رؤساء تحرير الصحف السودانية المرافقين له: “إن لدى إدارته معلومات تفيد بأن القاهرة تدعم حكومة جنوب السودان”، مشيرا إلى أن الحكومة المصرية لا تقاتل في جنوب السودان لكنها تمد حكومتها بالأسلحة.
البشير جدد مرة أخرى خلال هذا اللقاء تصريحاته السابقة بأن هناك مؤسسات في مصر تتعامل مع السودان بعدائية، متهما جهات لم يسمّها داخل هذه المؤسسات بأنها تقود هذا الاتجاه.
استعراض السيادة
التساؤل حول دوافع الخرطوم لتصعيد هذه المسالة إعلاميًا وسياسيًا في هذا التوقيت دفع بالبعض إلى الذهاب إلى أن القضية في الأساس هي “استغلال سياسي” متبادل بين النخبة السياسية السودانية والنظام الحاكم بقيادة الرئيس عمر البشير، حيث تسعى النخبة – وهي تعلم جيدًا أن مسألة حلايب وشلاتين لا يمكن بأي حال أن تحل من جانب واحد-، إلى استخدامها كورقة ضغط سياسية ضد النظام الحاكم بهدف إحراجه أمام الشعب السوداني.
وفي المقابل يرد النظام على هذه المساعي بإشعال القضية وتأزيمها وتصعيدها مابين الحين والأخر، من خلال تجميع كافة الأحزاب والقوى السياسية والشعبية تحت عباءته في خندق واحد باعتبارها قضية وطنية تستدعي تضافر كافة الجهود، دون النظر إلى ما يمكن أن يسفر عنه هذا الابتزاز المتبادل بين النخبة والنظام.
فريق يرى أن حلايب وشلاتين ورقة ضغط سياسية تستخدمها النخب في السودان ضد نظام البشير في محاولة للضغط عليه وإحراجه أمام السودانيين
هربًا من الضغوط الداخلية
فريق آخر ذهب في تفسيره لتصعيد اللهجة السودانية ضد القاهرة في مسألة حلايب إلى أنه نوع من أنواع الهروب السياسي الذكي، حيث يسعى النظام وحكومته إلى محاولة لفت أنظار الشعب عن الأوضاع الداخلية المتردية، والتي باتت محل استنكار لدى قطاع كبير من السودانيين، بخلق قضية فرعية تلهي الشعب عن الوضع المتأزم.
كما ساهم هذا الوضع المتردي على المستوى الاقتصادي والأمني والسياسي، في ظل تصاعد التهديدات المتبادلة بين النظام وفصائل المعارضة من جانب، والتهديدات بينه وبين الدولة الجنوبية من جانب آخر، في فرض المزيد من الضغوط على البشير وحكومته، ما دفعه إلى محاولة كسب المزيد من الوقت عبر تغيير دفة اهتمامات الرأي العام الداخلي بقضية يسعى إعلامه إلى تسويقها كقضية وطنية تتطلب تجاهل كافة الأزمات الداخلية من أجل توحيد الكلمة حيالها.
مغازلة أطراف خليجية
فريق ثالث ذهب إلى أن التحركات السودانية تهدف في الأساس إلى مغازلة أطراف خليجية بهدف الحصول على الدعم المادي واللوجيستي، في إشارة للمملكة العربية السعودية وقطر، حسبما أشار صلاح أبو سرة المعارض السياسي السوداني.
أبو سرة في تصريحات له رأى أن البشير يعمل لصالح الدول الضاغطة على مصر في مقدمتها السعودية، متسائلا: إذا كانت هناك مشكلة حول الحدود فهناك قضية مرفوعة تنتظر التحكيم الدولي الطبيعي، فلماذا لا ينتظر النظام السوداني البت في القضية قبل التصعيد؟.
المعارض السوداني صلاح أبو سرة: التحركات السودانية تهدف في الأساس إلى مغازلة أطراف خليجية بهدف الحصول على الدعم المادي واللوجيستي
سخرية الإعلام المصري من زيارة الشيخة موزة للخرطوم أثارت استفزاز السودانيين
“حلايب” و” تيران وصنافير”
البعض ربط بين قضية حلايب وشلاتين من جهة، وقضية تيران وصنافير من جهة أخرى، فبحسب بعض المصادر السودانية التي طالما عزفت على وتر “سودانية” المنطقة الواقعة على البحر الأحمر على الحدود بين السودان ومصر، فإن تحركات الخرطوم لاسترداد تلك المنطقة سيأتي في نفس السياق الذي سعت في السعودية لفرض سيادتها على الجزيرتين.
ولعل هذا ما يفسر الدعوات التي طالما نادت بها بعض المصادر السياسية والإعلامية السودانية بضرورة إعادة ترسيم الحدود مع مصر أسوة بالاتفاقية المبرمة مع السعودية، وهو ما أشار إليه موقع “النيلين” والذي جاء في تقرير له تحت عنوان” مصر تعيد جزيرتين محتلتين للسعودية .. فهل تعيد مثلث حلايب للسودان ؟ مطالبة الدبلوماسية السودانية بالتحرك نحو إثبات سودانية “حلايب” كما فعلت السعودية.
البعض يرى أن الخطوات السودانية الأخيرة بشأن مثلث “حلايب” استجابة واضحة للضغوط الإثيوبية المفروضة عليها من أجل فرض المزيد من الضغط على القاهرة
الضغط على القاهرة
الخطوات السودانية الأخيرة بشأن مثلث “حلايب” قد تكون استجابة للضغوط الإثيوبية المفروضة عليها من أجل فرض المزيد من الضغط على القاهرة، حيث نجحت أديس أبابا في استقطاب الخرطوم في السنوات الأخيرة، واستخدامها كورقة ضغط على القاهرة في محاولة لتمرير مشروع سد النهضة، في مقابل العديد من الامتيازات التي ستحصل عليها الخرطوم من إثيوبيا.
وما حدث لا يعدو كونه محاولة لإشغال مصر عن قضية السد الأساسية من خلال بعض المسائل والقضايا الفرعية التي منها مسألة حلايب وشلاتين، ملفتًا أن الخرطوم لا تجرؤ على اللجوء إلى تدويل القضية أمام المحاكم الدولية إلا بموافقة القاهرة وهذا ما ترفضه الأخيرة بصورة معلنة.
وهكذا وبصرف النظر عن الدوافع الحقيقية وراء التصعيد السوداني لمسألة “مثلث حلايب” في هذا التوقيت، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي، إلا أن هذا التصعيد لن يكون الأخير، وستظل هذه القضية ساحة لاستعراض السيادة هنا وهناك، وورقة تلجأ إليها الخرطوم ما بين الحين والآخر.