“لبصير عليهم بصير علينا”.. بهذه الكلمات رد صاحب محل الأحذية أبو صالح الكائن في الشارع الفوقاني لمخيم عين الحلوة، على سؤال “لماذا لم تترك المخيم حتى اليوم؟”، يتابع: “أنا هنا منذ أكثر من 10 سنوات، أسّسنا المحل في السوق وذقنا الحلو والمر مثلنا مثل الفلسطيني، وليس من السهل علينا المغادة مرة أخرى”.
ما زالت أجواء مخيم عين الحلوة متوترة، هدوء حذر وتهديدات من هنا وهناك وعائلات تغادر وأخرى لجأت إلى المدارس المجاورة، ورغم هذا يصرّ السوري على البقاء داخل المخيم الذي صار على ما يبدو وطنه البديل، بعد أن تعثرت عليه العودة إلى سوريا.
اختلط الدم الفلسطيني بالسوري داخل المخيم، حتى باتت مغادرته غربة عند السوري والفلسطيني على حد سواء، لكن الخطر وعدم الأمان في عين الحلوة يلاحقان الطرفَين، ولا أحد يعلم متى ينطلق فتيل الاشتباكات لجولة ثالثة، خاصة أن سبب الاقتتال السابق لم يعالَج بعد ولم يتم تسليم المطلوبين.
يتابع أبو صالح: “الحمد لله حالة متجري أفضل من غيري، الأضرار فقط عند الواجهة، الزجاج تطاير وكذلك البوابة، لكن الحريق لم يمس المحل والبضاعة ما زالت سليمة”.
يلملم آخر قطعة زجاج ويباشر في تنظيف البضاعة التي أكلها الغبار، فالمحل كان مغلقًا طوال فترة الاشتباكات التي دامت لأسبوع كامل، فما الذي دفع السوري الهارب من الحرب إلى اللجوء داخل مخيم للفلسطينيين؟ وما سبب تمسكه بعين الحلوة رغم وجود معارك متواصلة؟
النزوح السوري إلى المخيم
يقدَّر عدد النازحين السوريين داخل مخيم عين الحلوة بما بين 250 و300 عائلة سورية الأصل بحسب إحصاء اللجان الشعبية في المخيم، هو نزوح عنوانه لجوء على لجوء، بعضهم من السوريين والبعض الآخر فلسطيني سوري وُلد بسوريا وسكن فيها أو داخل مخيماتها، لكنه تأثر بالحرب وفرَّ نتيجة الأزمة شأنه شأن السوري، وفي النهاية كانت النتيجة واحدة: لجوء في مخيم عين الحلوة.
أثناء الثورة السورية عام 2011، لجأ أكثر من مليون سوري بحسب مفوضية الأمم المتحدة إلى لبنان، ورغم وجود مخيمات سورية في مناطق لبنانية عديدة، كان لافتًا اختيار بعض السوريين مخيم عين الحلوة، ليكون ملجأهم رغم صعوبة العيش داخله وازدحامه السكاني.
هناك عدة أسباب دفعت بالسوريين لاختيار مخيم عين الحلوة للعيش والعمل، البعض جاء إلى المخيم، خاصة الفلسطيني السوري، لصلته بعائلات وأقارب أو حتى أصدقاء في المخيم، فسكنوا فيه واستقروا حتى اليوم.
أما بالنسبة إلى السوري الذي لا توجد قرابة بينه وبين الفلسطيني، فيدرك أن مخيم عين الحلوة معروف بأنه مضياف وله تاريخ وباع في استقبال النازحين واللاجئين، حيث سبق أن استضاف النازح اللبناني أثناء حرب تموز 2006، خاصة اللبنانيين الفارّين من الجنوب والقرى الحدودية مع “إسرائيل”.
لم تغلق أبواب المخيم في وجه أي متضرر لجأ إليها بحسب أهالي المخيم، حيث إنه فتح أبوابه للسوريين جميعًا، ومن المعروف أن الفارّ إليهم قبل تواصله مع جمعيات إغاثية، يساعده الناس بالمواد الأولية والطعام مثل الفرش والحرامات والملابس، وهذا ما حصل في حرب تموز وأثناء الثورة السورية، وبحسب أهل المخيم امتنع الكثير من الأهالي عن أخذ إجارات البيوت من النازحين خلال الأزمة السورية، وتؤكد إحدى النسوة التي تسكن المخيم أن عين الحلوة مفتوح للقريب والبعيد.
الحركة التجارية داخل المخيم جعلته بيئة جاذبة للسوريين، خاصة العائلات المتعففة منهم، فمصاريف المخيم محدودة ويمكن أن يجد الشاب مهنة يقتات منها خاصة
قبل شرح الأسباب الاقتصادية، بداية يجب علينا أن نعرف أن المخيم لديه اقتصاد خاص به بعيدًا عن الأسواق اللبنانية، ولديه قواعده الخاصة، فمن المعروف أنه لا يوجد ضريبة على البضائع، لأن البضائع أغلبها تصنع داخل المخيم، ويشبّه البعض المخيم بالمدينة المنفصلة.
فرغم صغر مساحته يوجد في مخيم عين الحلوة معامل أجبان وألبان، ومعامل المثلجات، وكذلك مصانع خياطة وحلويات، كل شيء متوفر تقريبًا، واستغل السوري هذه الأجواء ليفتح محلات ومصانع مثل الفلسطيني، واستفاد من هذه البيئة التي تعدّ أسهل من بيئة العمل اللبنانية التي تفرض عليه شروطًا صارمة.
ومن الجدير بالذكر أن أغلب المحلات والتجار لا يعمل عندهم عمال أجانب، العمال والتجار هم من أهل المخيم أو حتى من العائلة نفسها، فتجد أن محل البقالة يديره الأب والأولاد على سبيل المثال، وهذا يوفر تكلفة الإقامات والمعاملات ما جعلها بيئة لجذب السوريين، خاصة أن البيت يمكن أن يستأجره السوري مع محل في أسفله بثمن بخس.
من الطبيعي أن كل ما ذكرناه جعل من أسعار المخيم أرخص بكثير من السوق اللبناني الذي ربما يبعد عنه أقل من كيلومتر، فالأسعار منخفضة خاصة على البضائع والمأكولات والإيجارات، فعلى سبيل المثال بعض العملات التي أضحت بلا قيمة خارج أسوار المخيم، لديها قيمة في المخيم ويمكن استخدامها في الشراء والبيع.
الحركة التجارية داخل المخيم وسهولة فتح المصالح جعلاها بيئة جاذبة للسوريين، خاصة العائلات المتعفّفة منهم، فمصاريف المخيم محدودة ويمكن أن يجد الشاب مهنة يقتات منها خاصة مع الحاضنة الاجتماعية، والتي تعدّ أكثر تقبّلًا من المجتمع اللبناني.
اندماج مع اللاجئين الفلسطينيين
تقبّل المجتمع الفلسطيني داخل المخيم النزوح السوري بل وقف إلى جانبه، فكان حاضنة آمنة له لم تشعره بالغربة، وكانت مميزة الروابط العائلية التي جمعتهم، حيث تزوج الفلسطيني بالسورية والسوري بالفلسطينية، فأهل المخيم غير متكلفين في تقاليد الزواج واحتياجاته التي تقف عائقًا أمام الشاب السوري في دول اللجوء.
أهل المخيم لا يمانعون تنظيم أعراسهم داخل المنازل أو الأساطيح حتى، ويعفون الرجل من شراء المنزل والذهب المبالغ فيه، أفراحهم بسيطة جدًّا وتقاليدهم سلسة ويسهّلون أمر الزواج، لذلك كان لافتًا حدوث زيجات بين الطرف الفلسطيني والسوري على حد سواء.
بعد تسجيل الزواج، يحصل السوري المتزوج من فلسطينية أو حتى العكس على معاملة الفلسطيني تمامًا، فيستفيد هو وأبناؤه من المساعدات المالية وكذلك الطبابة المجانية في المستوصفات، أو حتى التعليم في المدارس التابعة للأونروا والتي تنتشر في المخيم، وبدورها تغطي أيضًا كلفة كتب التلاميذ وحتى القرطاسية، ومن المعروف أن الطالب يصل إلى مدرسته بسهولة سيرًا على الأقدام دون الحاجة إلى تكلفة المواصلات.
بمقارنة سريعة مع المدارس خارج المخيم، يدرس السوريون في المدارس الرسمية اللبنانية منفصلين عن اللبنانيين وبدوام مسائي، ولا تغطي الأمم دائمًا القرطاسية والمواصلات التي أصبحت باهظة في لبنان، في المقابل المساعدات التي يتلقاها السوري من الأمم في لبنان يستفيد منها الزوج أو الزوجة والأبناء، كلها أسباب جعلت الزواج بين الفلسطيني والسوري أسهل من الطرف اللبناني الذي ظلت الروابط بينه وبين السوري طفيفة، خاصة أن المرأة اللبنانية حقوقها محدودة تجاه الزوج الأجنبي والأبناء.
فتحت أغلب العائلات السورية مصالحها بكل أريحية داخل المخيم، وتجمعت في سوق المخيم الذي ضمَّ تجارًا سوريين استأجروا أو اشتروا بالقرب من مصالحهم، وجمعتهم لجنة تجار تتحدث باسمهم وتنظّم أعمالهم، فاشتغلوا في الأفران والملاحم ومحلات الدجاج، ناهيك عن الستائر والملابس وغيرها من البضائع، ودخل آخرون في شراكة مع الفلسطيني، ومن الجدير بالذكر عدم تسجيل اشتباكات أو إطلاق نار وحتى إشكال بين الفلسطيني والسوري طوال السنوات الماضية، على عكس بيئات ودول أخرى، هذا رغم انتشار السلاح وسهولة الحصول عليه.
معاناة السوري في الاشتباكات
رغم البيئة الحاضنة في المخيم، إلا أن الاقتتال والاشتباكات المسلحة لاحقت السوري داخل عين الحلوة، في ظل عدم وجود مرجعية للمخيم وانتشار الفصائل الفلسطينية والجماعات المتشددة والوضع الأمني المتزعزع، تكرر الاقتتال وسقط ضحايا، وتهجّر الناس ودُمّرت بيوت ومحال.
تهرب أغلب العائلات السورية خارج المخيم وتلجأ إلى معارفها وأصدقائها أثناء حدوث القتال، وحين يتوقف تعود إلى بيوتها وتجارتها وكأن شيئًا لم يكن، وكأن الاقتتال صار من روتينهم السنوي واعتادوا عليه.
وفي حال عدم وجود أقارب لهم خارج المخيم، تُفتح أبواب المدارس والكليات والجوامع داخل المخيم ليختبئوا فيها، شأنهم شأن الفلسطيني الذي هرب إلى المدارس أيضًا، وقد تجمّع السوريون في اشتباكات الشهر الماضي في كل من جامع الموصلي ومدارس الأونروا، كمدرسة رفيديا ومدرسة نابلس وكلية سبلين.
ومن الجدير بالذكر أن في المخيم لجانًا عاملة مثل لجنة أبناء المخيم وغيرها، تسارع بتوزيع المساعدات على المتضررين والمهجّرين من بيوتهم من أموال وحتى حصص تموينية، ولا يتم استثناء السوري من تلك المساعدات، فكل من يسكن في المخيم وتضرر يأخذ حصة مهما كانت جنسيته.
تنشط الجماعات المتشددة والإرهابية داخل المخيم بوجوههم الغريبة غير المعروفة لدى السكان، ما يزيد الوضع تعقيدًا والجميع يسأل من هم هؤلاء ومن يدعمهم، ومن الجدير بالذكر أن أغلب الاشتباكات يفتعلها هؤلاء ولأسباب غير معروفة.
لا يتبع السوريون جهات وفصيلًا سياسيًّا محددًا في المخيم، لكن من الملاحظ أن الفلسطيني السوري والذي كان منظمًا في سوريا على سبيل المثال، كان تابعًا لمنظمة التحرير العاملة في مخيم اليرموك، ونقل أوراقه إلى منظمة التحرير الناشطة والعاملة في مخيم عين الحلوة.
هكذا هي الأقدار تجمع أبناء اللجوء بعد انقطاع السبل بهم، لتوصلهم إلى مخيمات يتمنّون فيها الأمان الذي يعاندهم أين ما سكنوا وحلوا، ويضحي الاشتباك يومًا عاديًّا في حياة لاجىء سوري لم ترحمه حتى أزقة المخيم.