ترجمة حفصة جودة
منذ بداية العام، ازدادت أعداد الفارين بالقوراب من شمال أفريقيا إلى الاتحاد الأوروبي بشكل بارز، ورغم أن أغلبهم قادمون من أفريقيا جنوب الصحراء ويستخدمون دولًا مثل مصر وتونس وليبيا كنقطة عبور، إلا أنه يرافقهم الآن عدد من السكان المحليين الذين ضاق بهم الحال في بلادهم.
يسعى الاتحاد الأوروبي جاهدًا لمنع دخول الناس عبر البحر المتوسط بتشديد المراقبة وعسكرة الحدود البحرية الجنوبية، لكنه اتجه أيضًا إلى التواصل مع الحكومات الإقليمية لتساعده في وقف الهجرة.
في حالة تونس، وقّع الرئيس التونسي قيس سعيّد والاتحاد الأوروبي صفقة باسم “مجموعة الشراكة الشاملة”، ففي مقابل وقف تدفق اللاجئين ومنعهم من عبور البحر المتوسط إلى أوروبا، تحصل تونس على 255 مليون يورو على هيئة معدّات وتدريب ودعم مالي.
وربما ستحصل أيضًا على 900 مليون يورو أخرى عند توصلها إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لأجل الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، بما في ذلك خفض برنامج الدعم الغذائي المثير للجدل.
فيما يتعلق بالعناصر التجارية للصفقة، فإن الخطوط الأساسية لمذكرة التفاهم تخطط -ضمن أمور أخرى- للاستثمار في الزراعة والطاقة الخضراء والتحول الرقمي، وبينما لم يتضح بعد شكل مذكرة التفاهم تلك، إلا أنه يمكن ترجمتها كاستمرار لسياسات التجارة في الاتحاد الأوروبي تجاه جيرانه في الجنوب، والتي تعرضت لانتقاد بسبب إضرارها الممنهج بالمشاريع التونسية الصغيرة والمتوسطة.
مقابل تلك الخلفية، من غير المرجّح أن تساهم صفقة الهجرة في تحسين وضع التونسيين، خاصة سكان المناطق الريفية الذين يحاولون الهجرة من البلاد بشكل جماعي، في الحقيقة؛ سياسات الاتحاد الأوروبي التجارية السابقة والحالية تجاه تونس، هي السبب بشكل كبير في مأساة صغار المزارعين والعمال الزراعيين.
هذا التبادل الاقتصادي غير المتكافئ في العلاقات التجارية الزراعية بين تونس والاتحاد الأوروبي يبدو جليًّا في تجارة زيت الزيتون.
وبينما تدفقت شركات الاتحاد الأوروبي إلى الأسواق التونسية بمنتجات مصنوعة في الاتحاد الأوروبي، يكافح المزارعون في تونس لمنافسة نظرائهم الأوروبيين، نظرًا إلى الطرق التي يواصل بها الاتحاد الأوروبي حماية قطاعه الزراعي المحلي.
في بعض الأحيان، تتخذ سياسات الحماية الأوروبية هيئة أشياء صغيرة محبطة، مثل حقيقة أن الفترات التي يسمح فيها بدخول المنتجات التونسية إلى سوق الاتحاد الأوروبي، وفقًا لاتفاقات الحصص الجمركية، لا تتزامن مع دورة الإنتاج في تونس.
على سبيل المثال، في حالة البطيخ، فإن موسم الإنتاج يقع بين يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول، لكن الاتحاد الأوروبي يمنح واردات البطيخ إعفاءً من الجمارك في الفترة بين نوفمبر/ تشرين الثاني ومايو/ أيار.
هذا التبادل الاقتصادي غير المتكافئ في العلاقات التجارية الزراعية بين تونس والاتحاد الأوروبي يبدو جليًّا في تجارة زيت الزيتون، أحد أهم صادرات تونس.
ينمو الزيتون في أراضٍ زراعية مروية ذات جودة عالية في مزارع كبيرة أحادية، ويصدَّر حوالي 80% من زيت الزيتون الناتج من تلك الزراعة غالبًا في شكله الخام إلى إسبانيا وإيطاليا، حيث يكرر ويباع للمستهلكين الأوروبيين، في تلك العملية تخسر تونس القيمة المضافة بشكل كبير.
في الوقت نفسه، ارتفاع أسعار الغذاء في البلاد يعني أن استهلاك زيت الزيتون أصبح خارج قدرات المواطن التونسي العادي، فما زال الغذاء يمثل أكبر جزء من استهلاك الأسر التونسية، حيث يكلفهم أكثر من السكن والكهرباء والمياه بما يمثل 30% من الإنفاق السنوي للأسر التونسية، ويرتفع إلى 40% بين الأسر الأقل دخلًا.
تتضمّن زراعة الزيتون التقليدية -والتي تختلف عن البساتين الصناعية- أشجارًا أقدم على مسافات متباعدة والتي تستهلك مياهًا أقل، وبالتالي هي أكثر ملاءمة للمناخ الجاف، هذه الممارسات الزراعية التي يستخدمها صغار المزاعين للإنتاج لأجل الأسواق المحلية، تبدو غير ناجحة الآن نظرًا إلى نقص الدعم الحكومي.
في أثناء ورشة عمل لسياسات الزراعة والتجارة نظّمها المعهد الوطني والمنصة التونسية للبدائل، قال المزراع عبد الكريم: “تعيش أشجار الزيتون التقليدية 150 عامًا، يبلغ دعم زراعة الزيتون 2 دينار للشجرة، بينما تصل تكلفة الإنتاج إلى ما بين 15 و20 دينارًا للشجرة، إننا بحاجة لدعم المياه والجرّارات، لكن في غياب هذا الدعم فإن أشجار الزيتون ستجف وتموت”.
وبغض النظر عن الزيتون، تضطر تونس إلى زراعة منتجات زراعية أخرى لتصديرها إلى الاتحاد الأوروبي مثل الخضروات والفواكه الحمضية، بعضها يحتاج إلى مياه وفيرة أيضًا، وهو أمر غير منطقي في بلد يعاني من نقص المياه والجفاف وحرائق الغابات.
دخلت تونس بالفعل عامها الرابع من الجفاف بينما تصل درجات الحرارة إلى 50 درجة حرارة مئوية، لذا في يوليو/ تموز سيزداد وضع المزارعين التونسيين سوءًا، ويشير المشروع التونسي لتنبؤات المخاطر الجوية إلى أنه من المرجّح أن ترتفع الدرجة القصوى السنوية بزيادة ما بين 1.9 درجة حرارة مئوية إلى 3.8 درجات حرارة مئوية بحلول عام 2050، بينما تقل مستويات الأمطار بحوالي 22%.
استجابة لذلك، بدأت الحكومة التونسية بسلسلة من الإجراءات للحدّ من استخدام المياه، بما في ذلك الحد من الري الزراعي وحظر ضخّ المياه الجوفية بأقل من 50 مترًا.
وبينما تبدو هذه الإجراءات منطقية، فقد تسبّبت في معاناة المزارعين التونسيين، فقلة مياه الأمطار تعني لجوء المزارعين إلى موارد المياه الجوفية لري المحاصيل والأشجار وتوفير مياه الشرب لماشيتهم.
والآن الحد من مستوى المياه الجوفية يعني عدم العثور على مياه حتى عمق 80 مترًا، وهكذا لم يعد هناك حل أمام المزارعين سوى الحفر على مستوى أعمق أو مواجهة الدمار الاقتصادي.
يشكو المزارعون الذين تحدثنا معهم من مواجهتهم خطر التجريم لاستخدامهم المياه لأجل البقاء والنجاة، بينما تغضّ الحكومة الطرف عن المستثمرين الأثرياء الذين يشترون الأراضي لإنتاج الزيتون وحفر آبار مياه عميقة بطريقة غير منظمة.
وفقًا لياسر -مهندس إدارة الموارد الطبيعية التونسية والذي كان مشاركًا في ورشة العمل أيضًا-، فإنهم يحفرون هذه الآبار على عمق 200 إلى 300 متر.
كل ذلك يعني أن صغار المزارعين -الذين يشكلون الأغلبية في تونس- أصبحوا عالقين بين القوة الطاحنة لسياسات التجارة الخارجية الظالمة والسياسات الحكومية الداخلية المخصصة لملاءمة احتياجات كبار اللاعبين في السوق، وبالتالي لم يعد بإمكانهم كسب لقمة العيش من الزراعة فقط، ولم يعد أمام الكثير منهم أي خيار سوى الاتجاه للهجرة.
إن اتفاق الاتحاد الأوروبي مع تونس لتعزيز العلاقات التجارية ومنع تدفق المهاجرين إلى الشواطئ الأوروبية، مثال صارخ على رفض التعامل مع أحد مسبّبات الهجرة، فسياسات التجارة المفضلة للأسواق الأوروبية لن تحسّن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية للتونسيين في المناطق الريفية.
في سياق تلك الأزمات المتعددة والمتقاطعة، لا بدَّ من إعادة التفكير في السياسات الزراعية والتجارية في تونس ومنطقة شمال أفريقيا بشكل أوسع، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يرغب حقًّا في معالجة ما يسميه “أزمة الهجرة”، فإنه بحاجة لإعادة التفكير في سياسات التجارة الاستخراجية التي يمارسها مع بقية العالم، وألا يدخل في اتفاقيات تقود فقط إلى مزيد من انعدام الاستقرار.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية