في أحد شوارع بنغازي الكئيبة جثم ثلاثة رجال على رُكَبِهِمْ بعد أن قُيّدت أيديهم إلى الخلف، صففوا واحدا تلو الآخر تُعامد وجوههم الحائط الّذي سيكون آخر ما يرونه من الدنيا، وراء الرجال الثلاثة وقف آخرُ ملتحٍ يرتدي قميصا أسودا يحمل شعار قوات الصاعقة مشهرًا سلاحه الأوتوماتيكي وعلى جانبه الأيمن سيارة جيب سوداء اللون كانت تفصله عن الرجال المقيّدين, لم تلبث السيارة أن انطلقت مغادرة الشارع.
نظر هذا المسلّح إلى الكاميرا بتمعّن لحظات قبل أن يتلقى من شخص آخر لم يظهر في التسجيل إشارة التنفيذ، “الآن” حينها استدار صاحب القميص الأسود بسرعة نحو الرجال الثلاثة، طلقة أولى فثانية فثالثة استقرت كل منها في جمجمة من جماجم هؤلاء الرجال تساقطت إثرها أجسادهم تباعا قبل أن تعقب الطلقات الثلاث الأولى طلقات أخرى كثيرة وزعها بينهم بشكل عشوائي إمعان في التشفي فيهم، هنا توقف الفيديو الّذي انتشر على صفحات وسائل التواصل في ليبيا بشكل لافت محُدَّثًا بإحدى صفحات المأساة في بنغازي.
انتشرت على صفحات مؤيدي حفتر تسجيلات أخرى كثيرة تظهر جثث مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي تطوف بها السيارات في الشوارع وذلك بعد أن نُبِشت قبورهم واستُخرجت جثثهم من مراقدها
لم يكن الرجال الثلاثة سوى مجموعة من مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي الّذين وقعوا أسرى لجنودٍ حفتر بعد أشهر طويلة ومضنية من القتال ومن الحصار البري والجوي ولم يكن من تولى قتلهم بدم بارد بتلك الطريقة التي تحاكي أساليب تنظيمي الدولة والقاعدة في القتل سوى محمود الورفلي آمر المحور الغربي لقوات الصاعقة التابعة لحفتر.
وإذا كان حفتر وقادته والقبائل التي تدعمه وأعيانها وأبنائها قدّموا ويقدمون أنفسهم على أنهم محاربي الإرهاب والغلو والتطرّف الوحيدون في ليبيا فتلك في حد ذاتها مفارقة لم تكن أشد منها وقعا على نفوس الليبيين إلا مفارقة ما حدث مع عمر إشكال القيادي في كتائب القذافي حين وقع أسيرا لدى مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي فعومل بما يحفظ كرامته وآدميته حتى قتلته الطائرات الإماراتية في قصف على مواقع مقاتلي المجلس.
على الرغم من ذلك فإن هذا المشهد الدموي الّذي وثقته الكاميرا لم يكن الوحيد في الأيام الأخيرة بل يمكن اعتباره الأقل وطأة إذ انتشرت على صفحات مؤيدي حفتر تسجيلات أخرى كثيرة تظهر جثث مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي تطوف بها السيارات في الشوارع وذلك بعد أن نُبِشت قبورهم واستُخرجت جثثهم من مراقدها وأصبحت موضوعا للتشفي والانتقام ونالت جثة القيادي بالمجلس جلال المخزوم النصيب الأوفر من التشفي والتحرّش إذ علقت على أحد الجدران بعد أن لف على رقبته حبل متين وتداول جنود معسكر الصاعقة على التقاط الصور معه.
وإذا كانت جثث الأموات التي استخرجها جنود حفتر من قبورها لا يضيرها ما يلحقها من اعتداء والحال أن أرواح أصحابها قد ارتقت إلى بارئها فإن الأحياء من المدنيين وخاصة من النساء والعجّز الّذين وقعوا بيد جنود حفتر قد ذاقوا من العذاب والتنكيل صنوفا وألوانا قبل أن يقتلوا جميعا وو تحرق جثثهم وتصوّر بالفيديو وتنشر على مواقع التواصل في مشهد أحدث هزة شديدة لدى الرأي العام الليبي وربما قد يكون حفتر وقياداته قد قصدوا إحداث هزّة من هذا النوع انتقاما لخسارتهم أجزاء واسعة من الهلال النفطي في الأونة الأخيرة رغم استعادتهم لتلك المواقع بعد أيام معدودات حيث كان من الواضح أن تحرك السرايا قد أربك محور الكرامة ومن ورائه محور الانقلابات والردة إقليميا ودوليا.
لم يكن الرجال الثلاثة سوى مجموعة من مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي الّذين وقعوا أسرى لجنودٍ حفتر بعد أشهر طويلة ومضنية من القتال ومن الحصار البري والجوي
حين أصبح الاتفاق السياسي الليبي برعاية أممية أمرا واقعا في ديسمبر 2015 فرك اللواء المتقاعد جبينه وهو يقلّب بين يديه خيارات ضاق هامش المناورة السياسية فيها حد العدم، ذلك لأن للواء الفاقد لمنصبه كقائد عام للجيش – بموجب المادة الثامنة من الاتفاق السياسي- حل وحيد وهو أن يسترّد ما فقده ممثلوه في المفاوضات بالسياسة والحوار عبر قوة السلاح وطالما أن مقاتلي اللواء المتقاعد في تناقص مستمر وطالما أن عقيدتهم ليست بمثل ثبات وصلابة عقيدة خصومهم في السلاح والسياسة فلا ضير من الاستنجاد بأصدقاء أسخياء يُسيل النفط والغاز ووعود صفقات السلاح والقواعد المتقدّمة لعابهم فيتدفق بغزارة من بحر قزوين ومن خليج العرب فيجد طريقه نحو حوض المتوسّط ليتوقف عند شواطئ بنغازي ,هناك حيث رست حاملة طائرات روسية اعتلاها اللواء المتقاعد وهو يحسب أن المجد قد أعد له موعدا ونصيبا.
قبل دخول الاتفاق السياسي حيز التنفيذ أراد حفتر التسويق لنصر لم يتحقق إلا في وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المحسوبة عليه وكان العنوان الكبير لذلك النصر هو تحرير مدينة بنغازي بشكل كامل ممن كان يعتبرهم إرهابيين ورغم أن مجلس شورى ثوار بنغازي كان في تلك الآونة لا يزال يرابط في الصابري وسوق الحوت ولا يتوانى عن تسديد ضربات موجعة جدا لحفتر وجنوده.
ورغم أن حفتر لا زال يفشل ومنذ سنتين في السيطرة على كامل بنغازي إلا أنه استغل تلك الهالة الكاذبة ليضغط باتجاه تعطيل الاتفاق السياسي ولجعل موقعه جزءًا من أي تسوية مستقبلية وكذا فعل بعد دخول الاتفاق السياسي حيز النفاذ عندما أصدر أمرا بمنع طائرة النواب المؤيدين للاتفاق من الإقلاع من مطار طبرق لحضور إحدى جلسات الحوار في تونس أسابيع قليلة قبل أن يخْتَطِفَ مقر مجلس النواب في طبرق رهينة بيد كتلة السيادة الوطنية المؤيدة له ويُطلق داخل مقر المجلس أيدي وهراوات الغرباء والمنحرفين ليمنعوا انعقاد جلسة التصويت على حكومة الوفاق بالقوة.
أما عن علاقة اللواء المتقاعد بتنظيم الدولة فتلك أحجية أخرى تفاصيلها تبدأ بتخويف وتحذير من إرهاب التنظيم واغتيالاته للمثقفين والضباط والنشطاء وتتأجج بتهديد ووعيد بالقضاء على التنظيم وعلى إرهابه في معركة حاسمة وتمر عبر صمت مطبق ثم تشكيك وتخوين لما انطلق مقاتلو البنيان المرصوص في اجتثاث التنظيم من سرت باذلين المئات من أرواح مقاتليهم أما عن نهاية الأحجية فضرب من الكوميديا السوداء حين اتفق اللواء مع جيوب التنظيم المتواجدة في بنغازي على الانسحاب بشكل آمن فاختفت نقاط التفتيش وانسحب أمراء المحاور إلا الّذين عارضوا هذا الانسحاب ولم يعلموا به فاختفى التنظيم وتلاشى في الهواء كأنه لم يوجد يوما، بيد أن اللواء أحسن استثمار هذه الورقة لتخويف الليبيين في الداخل ودول الجوار والإقليم في مسعى لتثبيت أقدامه في رقعة التسويات.
قبل دخول الاتفاق السياسي حيز التنفيذ أراد حفتر التسويق لنصر لم يتحقق إلا في وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المحسوبة عليه وكان العنوان الكبير لذلك النصر هو تحرير مدينة بنغازي بشكل كامل ممن كان يعتبرهم إرهابيين
عندما هجمت سرايا الدفاع على الهلال النفطي واضعة بنغازي نصب أعينها لم يستطع حفتر قصفها بالطائرات كما تعود أن يفعل سابقا وقد ظل هذا الأمر لغزا إلى حدود كتابه هذه الأسطر ومنذ ساعات الهجوم الأولى تقدمت قوات السرايا في مساحات شاسعة وانفرط عقد الميليشيات التشادية والسودانية التي كانت تؤمن الموانئ والمنشآت لصالح حفتر انفراطا سريعا وتاه بعضها في الصحراء وقتل منهم كثر وأبان ذلك الهجوم عن فقر شديد في المقاتلين وضعف أشد في الجبهة الداخلية لدى حفتر إذ سيطر مقاتلون من مجلس مجاهدي درنة على قاعدة طبرق الجوية لسبب يبدو طريفا وهو خلو هذه القاعدة تماما من جنود حفتر إذ أفرغ هذا الأخير كل الجبهة الشرقية على الحدود المصرية من أي وجود عسكري ودفع بكل ما يملك لمواجهة السرايا وفي هذه المرحلة بالذات تدخل الطيران المصري من جديد على خط المواجهة بالإضافة إلى تشكيلات من ميليشيات العدل والمساواة مع قصف مكثف بصواريخ الجراد من منصات بحرية وهو سلاح يستعمله حفتر لأول مرة وهو تطوّر فهمت منه قوات السرايا أن طرفًا دوليا قويا قد تدخل لترجيح كفة حفتر في هذه المواجهة.
في بنغازي شهد الليبيون جثث مناوئي حفتر ملقاة في مكبات القمامة وعليها آثار التعذيب ثم شهدوا جثث مجموعة أخرى من نشطاء ودعاة ومعارضين في مكبات القمامة ثانية مقتولين بنفس الطريقة كما شهدوا بيوت نازحي بنغازي تسرق وتهدم وتفتك من قبل جنود حفتر مرات ومرات وشهدوا المدينة العامرة ذات التاريخ الحافل والعريق تصبح خرابا لا روح فيها ربما ذلك ما حفّز هذه المجموعة من أبنائها وممن شاركوا في الثورة على القذافي على الخروج عن نص التوافقات في مسرح مليء بالأدخنة والموت والأشلاء.
لم تتمكن قوات سرايا الدفاع من بلوغ هدفها الأقصى وهو مدينة بنغازي وأسباب ذلك كثيرة منها ما هو دولي ومنها ما هو عسكري استراتيجي ومنها كذلك ما هو سياسي داخلي وقد تحدث قائدها مصطفى الشركسي بعد ذلك عن خذلان مقصود وغير مقصود إلا أن هجوم السرايا وانسحابها تحت وطأة النيران الجوية وبأقل قدر ممكن من الخسائر في صفوف مقاتليها يعتبر في حد ذاته انتصارا بالنظر لما كشفت عنه من تصدّع وضعف في جبهة حفتر الداخلية واعتماده بشكل أساسي على المرتزقة من ميليشيات العدل والمساواة ولِما أبانت عنه من ترفّعٍ عن الأطماع والتجاذبات السياسية حين سلّمت الموانئ لقوات المجلس الرئاسي.
في بنغازي شهد الليبيون جثث مناوئي حفتر ملقاة في مكبات القمامة وعليها آثار التعذيب ثم شهدوا جثث مجموعة أخرى من نشطاء ودعاة ومعارضين في مكبات القمامة ثانية مقتولين بنفس الطريقة
وفي المقابل تلقى حفتر صفعة قوية إذ تبين أن قوته شديدة الهشاشة بدون الطيران المصري والإماراتي وأن أي هجوم محكم الإعداد من شأنه قلب الموازين ضده في ساعات معدودات أما عن الهزيمة الأفدح فكانت تلك التي ارتكبها جنوده وقادته وهم ينبشون القبور ليستخرجوا جثث أعدائهم ويمثلوا بها في مشهدي سادي ووحشي مريع ليس أقل منه ما فعله جنود آخرون من نفس الفريق من قتل للنساء العجائز وحرق لأجسادهن والتقاط الصور والتسجيلات مع جثثهن المتفحمة.
إن ما اقترفه جنود حفتر من انتهاكات وفظاعات لم يختلف تقريبا في أي من تفاصيله عن أساليب تنظيم الدولة من صلب وذبح وتنكيل بالجثث ورغم أن ما يدعيه مناصرو ودعاة مشروع عملية الكرامة يعتبر النقيض الأخلاقي لمثل هذه الممارسات الوحشية إلا أن ذلك لا ينفي حدوثها من طرف جنودهم وقادتهم وبشكل من أشكال الافتخار والتباهي المُتْرع بالتشفي والانتقام وأمام عدسات الكاميرات مما ينفي كونها تجاوزات معزولة وفضلا على أن هذه الأفعال قد حفرت في النسيج الاجتماعي وفي ذاكرة الليبيين جرحا غائرا لا يبدو التئامه يسيرا في وطن يختزن عبر ربوعه المترامية من دعوات الثأر الكثير فإنها جعلت من اللواء المتقاعد ذلك الّذي يقدّم نفسه مشيرا وزعيما فذا مجرّد عسكري سادي ينتشي بمراقصة جثث الأموات على ركح مسرح مفروش بالدماء والأشلاء والركام.