لم تستقر الحرب المشتعلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ النكبة عام 1948 حتى هذه اللحظة، على ما يظهر عبر وسائل الإعلام من عمليات القتل والتشريد والسعي لطمس الهوية الفلسطينية واللعب في الساحة الداخلية لتفرقة وتقسيم الوطن من قبل المحتل، بل دخلت الآن بالمرحلة التي كانت تخشاها “إسرائيل” منذ سنوات طويلة.
الصراع الديموغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وصل لمرحلة جديدة من “القتال الخفي” فباتت دولة الاحتلال تنظر لهذه الحرب الأخطر على وجودها وبداية تحلل “مشروعها الصهيوني” على أرض فلسطين المحتلة، بعد سنوات طويلة استخدمت فيها أبشع أنواع العقاب والتهجير والقتل في معركة الوجود مع الفلسطينيين.
ويتسم الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي بخصوصيته وتفرده، فهو صراع على الوجود اتخذ أشكالًا وصورًا عدة؛ وقد اعتبرت “إسرائيل” منذ قيامها أن الفلسطينيين يشكلون خطرًا ديموغرافيًّا عليها، ولذلك استمرت محاولات الجانب الإسرائيلي في الحفاظ على التفوق الديموغرافي على الجانب الفلسطيني.
صراع البقاء.. فلسطين تنتصر
أظهر أحدث استطلاع للرأي العام “الإسرائيلي” رغبة ثلث “الإسرائيليين” بالهجرة من الكيان إذا ما أتيحت لهم الفرصة المناسبة
ولعل من أبرز المخططات التي سعت “إسرائيل” لتنفيذها لضمان معركة الوجود وللحفاظ على التفوق الديموغرافي على الجانب الفلسطيني والتأثير في الحالة الديموغرافية عبر الخط الأخضر وفي الضفة وقطاع غزة من خلال العديد من الآليات؛ منها: تكثيف موجات الهجرة، حيث تقوم إسرائيل وعبر وكالات خاصة بالهجرة بجذب يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، وتقدم لهم المغيرات وأن تلك البلاد هي أرض الأحلام، ولكن الواقع يشي بعكس ذلك، ففضلًا عن تراجع عوامل الجذب المحلية لليهود إلى فلسطين المحتلة وتراجع مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في “إسرائيل” مقارنة بالسنوات السابقة، لا توجد عوامل طاردة لليهود باتجاه فلسطين المحتلة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
الأرقام التي كشفها مركز “إسرائيلي” متخصص باستطلاعات الرأي، شكلت هزة سياسية وأمنية واقتصادية عنيفة لدى حكومة الاحتلال التي يترأسها بينيامين نتنياهو، حيث أظهرت أن ثلث الإسرائيليين يفكرون بالهجرة وترك دولة الاحتلال ولا يشعرون بأي انتماء لها.
وأظهر أحدث استطلاع للرأي العام “الإسرائيلي”، أجراه معهد “ميدغام” للاستطلاعات لصالح مشروع “رحلة إسرائيلية” التابع لما يسمى بـ”وزارة التربية والتعليم” ولجيش الاحتلال “الإسرائيلي”، رغبة ثلث “الإسرائيليين” بالهجرة من الكيان إذا ما أتيحت لهم الفرصة المناسبة.
بين الاستطلاع أن عينة الراغبين بالهجرة تتمثل في شبان وشابات غير متزوجين أو أرامل أو مطلقين أو مطلقات، والغالبية بين عمر 23-27 عام
فتح باب الهجرة المعاكسة
وبين الاستطلاع الذي نشرت نتائجه القناة العبرية العاشرة أن 36% من الإسرائيليين الذي يصنفون أنفسهم “علمانيين” (غير متدينين) مستعدون للهجرة إذا ما أتيحت لهم الفرصة، في حين انخفضت النسبة بشكل جوهري خلال سؤال اليهود المتدينين حيث أعرب 7% فقط منهم برغبتهم بالهجرة.
كما بين الاستطلاع أن عينة الراغبين بالهجرة تتمثل في شبان وشابات غير متزوجين أو أرامل أو مطلقين أو مطلقات، والغالبية بين عمر 23-27 عام.
وقال مدير عام مشروع “رحلة إسرائيلية”، أوري كوهين، إن “حقيقة أن عددا كبيرا كهذا يقولون إنهم سيغادرون “إسرائيل” لو تمكنوا من ذلك، تدل على أن الكثير من المستوطنين لا يشعرون بالانتماء لهذا الكيان اللقيط. وهذا معطى مقلق ويحتم علينا جميعا مواجهة هذه القضية الصعبة”.
فلسطينيون اعتبروا هذه الأرقام تعد انتصارا حقيقياً للحرب السرية التي يخوضها مع دول الاحتلال “الإسرائيلي”
وأضاف أن معطيات الاستطلاع تدل على وجود مشكلة بالشعور بالهوية، والارتباط والانتماء للكيان المحتل لدى جمهور آخذ بالازدياد في الكيان الإسرائيلي وهذا “واقع يخلق شرخا وانقساما في المجتمع الإسرائيلي”.
فلسطينيون اعتبروا هذه الأرقام تعد انتصارا حقيقياً للحرب السرية التي يخوضها مع دول الاحتلال “الإسرائيلي”، مؤكدين أن قوة المقاومة وخوف”الإسرائيليين” منها فتح باب “الهجرة المعاكسة” لهم وباتوا يفكرون في ترك بلادهم والبحث عن دولة أخرى أكثر أمناً واستقراراً.
وفق إحصائية ذكرها الجهاز الفلسطيني المركزي للإحصاء مؤخرًا، فإن الشعب الفلسطيني زاد بمقدار 9 أمثال منذ “نكبة” 1948
وأكدوا أن ما تسمى بـ”دولة الأحلام” للإسرائيليين بالخارج بدأت تتكسر، وتفكيرهم بالهجرة بداية لتحلل “المشروع الصهيوني” وانكسار “عظمة دولة الاحتلال” أمام صمود المقاومة والشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وتمسكه بحقوقه.
ماذا يعني الصراع الديموغرافي في فلسطين؟
في عام 1948، طردت العصابات الصهيونية 800 ألف فلسطيني يمثلون آنذاك (53.6%) من مجموع الشعب الفلسطيني البالغ مليون وربع فلسطيني، وتركز معظم اللاجئين الفلسطينيين إثر نكبة عام (1948) في المناطق الفلسطينية الناجية من الاحتلال، أي في الضفة وقطاع غزة 80.5%. في حين اضطر (19.5% ) من اللاجئين الفلسطينيين إلى التوجه إلى الدول العربية الشقيقة، سوريا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بينما توجه العديد إلى مناطق جذب اقتصادية في أوروبا وأمريكا وكذلك إلى دول الخليج العربية.
وبعد 67 عامًا تزايدت أعداد الشعب الفلسطيني في بلادهم أو الدول التي هاجروا إليها إلى تسعة أضعاف، الأمر الذي يثير حفيظة “إسرائيل” ويسترعي انتباهها ويدق ناقوس الخطر في ما بات يعرف بالصراع الديموغرافي بين “إسرائيل” وفلسطين.
ومنذ عام 1948 وفق إحصائية ذكرها الجهاز الفلسطيني المركزي للإحصاء مؤخرًا، فإن الشعب الفلسطيني زاد بمقدار 9 أمثال منذ “نكبة” 1948، ليصل عدده في شتى أنحاء العالم إلى 12.1 مليون، والذي تم تشريد نحو 800 ألف فلسطيني فيه من قراهم ومدنهم إلى الضفة الغربية، وقطاع غزة، والدول العربية المجاورة، فضلًا عن تهجير الآلاف من ديارهم رغم بقائهم داخل نطاق الأراضي المحتلة، وذلك من أصل 1.4 مليون كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1300 قرية ومدينة فلسطينية.
وعدد الفلسطينيين المقيمين حاليًا في فلسطين التاريخية والواقعة (ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط) بلغ نهاية 2014 حوالي 6.1 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يبلغ عددهم نحو 7.1 مليون بحلول نهاية عام 2020، وذلك في حال بقاء معدلات النمو السائدة حاليًا.
تشكل نسبة اللاجئين الفلسطينيين في الضفة وغزة 43.1% من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين في فلسطين، بواقع حوالي 4.6 مليون نسمة، هم 2.8 مليون في الضفة، و1.8 مليون في غزة. ويعد قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، كذلك إن نسبة التزايد الديموغرافي مرتفعة بشكل كبير، ورغم العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع وما خلّفه من خسائر بشرية شملت الأطفال واليافعين، إلا أنه يبدو أن القطاع لم يفقد الكثير من بنيته السكانية، لذا ينظر العدو بتوجس إلى المسألة الديموغرافية للفلسطينيين التي يعتبرونها بمثابة القنبلة الموقوتة التي يجب التعامل معها بكل حيطة، وخاصة أنهم يدركون جيدًا أن نسبة التزايد لديهم أضعف من أن تُقارَن بتزايد الفلسطينيين.
انتصار لفلسطين والعرب
والملاحظ هنا أن الصراع الديموغرافي بين العرب الفلسطينيين واليهود في إسرائيل، هو لصالح العرب في المدى البعيد، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات النمو العالية بين العرب مقارنة بمثيلاتها بين اليهود، فضلا عن تراجع أرقام الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين المحتلة، بفعل استمرار أعمال الانتفاضة بأشكال مختلفة.
وفضلاً عن تراجع عوامل الجذب المحلية لليهود إلى فلسطين المحتلة وتراجع مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل مقارنة بالسنوات السابقة، وفي الوقت نفسه لا توجد عوامل طاردة لليهود باتجاه فلسطين المحتلة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
تبقى الإشارة إلى ضرورة وأهمية دعم العرب الفلسطينيين فوق أرضهم ماديا وسياسيا وخاصة في مدينة القدس، وهي مسؤولية عربية وإسلامية في المقام الأول
وقد يكون صمود الفلسطيني فوق أرضه العامل الأهم في الصراع المذكور، خاصة أن الحركة الصهيونية وإسرائيل اعتمدت فكرة “الترانسفير” للعرب الفلسطينيين مدخلاً أساسيا من أجل تحقيق التفوق الديموغرافي في المدى البعيد.
ويشار أيضا إلي تراجع عوامل الطرد لليهود من دول الأصل باتجاه فلسطين المحتلة، خاصة أن أكثر من نصف مجموع اليهود في العالم موجودون حاليا في دول أكثر جذبًا من الاقتصاد الإسرائيلي، مثل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وهي 5.6 ملايين يهودي، ونحو 600 ألف يهودي في فرنسا.
مما تقدم يتضح أنه بعد مرور عقود على نكبة الفلسطينيين الكبرى ثمة صراع ديمغرافي صارخ يحصل بين العرب واليهود على أرض فلسطين، وهو لصالح العرب في المدى الإستراتيجي للأسباب المذكورة آنفًا. لكن تبقى الإشارة إلى ضرورة وأهمية دعم العرب الفلسطينيين فوق أرضهم ماديا وسياسيا وخاصة في مدينة القدس، وهي مسؤولية عربية وإسلامية في المقام الأول.