بمناسبة اليوم العالمي للمياه، أصدر الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء تقريرًا بالأمس أشار فيه إلى أن نسبة المهدر من المياه النقية المستخدمة عبر الشبكات بلغت 37.6% من إجمالي كمية المياه المنتجة على مستوى الجمهورية للعام 2015/2016.
التقرير الصادر عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء والذي يعد الجهة الرسمية الوحيدة في مجال الإحصاء، حيث يقوم بجمع ومعالجة وتحليل ونشر كل البيانات الاحصائية، جاء بعد يومين فقط من التصريحات التي أدلى بها وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة، الدكتور مصطفى مدبولي، بشأن دخول مصر مرحلة “الفقر المائي”، يضع العديد من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء أزمة شح المياه في مصر، داخلية كانت أو خارجية، وما تحمله من تهديد للملايين من المصريين.. فهل بات الشعب الذي يمتلك أطول شريان مائي عذب في العالم على مشارف أزمة عطش وفقر في المياه؟
تصريحات مقلقة
وزير الإسكان والمرافق المصري خلال مشاركته في مؤتمر تحلية المياه بالمملكة العربية السعودية أشار إلى تراجع نصيب الفرد من المياه بصورة ملحوظة، مقارنة بالنسب العالمية، حيث ألمح أن نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه النقية بلغ 700 متر مكعب في حين أن الحد الأدني الذي أقرته الأمم المتحدة هو 1000 متر مكعب، وإلا تعتبر الدولة في مرحلة فقر مائي.
الوزير أوضح أن إجمالي ماتنتجه مصر يوميًا من المياه تجاوز الـ 25 مليون متر مكعب، 85% منها عن طريق مياه نهر النيل، و15% عن طريق المياه الجوفية، في حين لا تتعدى المياه المحلاة 0.1% من إجمالي المياه المنتجة، وهو ما يتطلب إعادة النظر في المصادر الأساسية للمياه وضرورة تنويعها.
مدبولي ألمح أيضًا أنه وفي ظل المعدل التقليدي للزيادة السكانية السنوية فمن المتوقع تفاقم الأزمة خلال السنوات القادمة، ما يجعل من قضية تحلية المياه قضية أمن قومي بالرغم من كلفتها العالية، ومن ثم تسعى الدولة إلى توطين تكنولوجيا صناعة تحلية المياه بمصر، بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربى، والهيئة العربية للتصنيع، وتشجيع القطاع الخاص، وكذا التعاون مع الدول العربية المتقدمة فى هذا المجال،لاسيما السعودية التي تحتل المرتبة الأولى عالميًّا فى هذا المجال
وبالرغم من أن الرقم الذي أعلنه الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء بشأن نسبة المهدر من المياه سنويًا والذي قدره بـ 37.6% من إجمالي كمية المياه المنتجة، ليس بالرقم الهين إلا أن البعض ذهب إلى أن النسبة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير حسبما جاء على لسان عاطف عبد الجواد، عضو لجنة الإسكان بالبرلمان، والذي أشار إلى أن النسبة ربما تصل إلى 50% من إجمالى المياه المنتجة.
تنتج مصر يوميًا 25 مليون متر مكعب من المياه، 85% منها عن طريق مياه نهر النيل، و15% عن طريق المياه الجوفية، في حين لا تتعدى المياه المحلاة 0.1% من إجمالي المياه المنتجة
8 مليار م3 من المياه تهدر سنويًا
بالرغم من محدودية الموارد المائية في مصر والتي تقتصر على نهر النيل والمياه الجوفية ما يجعل من الحفاظ على الحصص الثابته والناتج المحدود من المياه مسألة حيوية للمصريين، إلا أن إهدار المياه بات ظاهرة واضحة للجميع، وشبح يهدد حياة الملايين من المصريين إن لم يكن هناك تحرك فوري لوقفها بشتى السبل.
الدكتور عباس أبوضيف خبير المياه الدولي بجامعة الأزهر، ألمح في تصريحات له أن ثقافة الإستهلاك والري لدى المصريين لها دور بارز في تفاقم الأزمة، وزيادة معدلات الفاقد السنوي، ملفتًا أن العديد من الدراسات والأبحاث التي خرجت من رحم مراكز البحث العلمي في مصر طالبت بإعادة النظر في طرق الري المستخدمة، والبعد عن نظام الغمر لما ينجم عنه من هدر لكميات كبيرة من المياه، إلا أن أحدًا لم يعر لهذه الدراسات أي اهتمام.
خبير المياه الدولي أشار إلى أن الطرق التقليدية الخاطئة التي يستهلك بها المصريون المياه سواء في الزراعة أو الشرب ساهمت في إهدار 8 مليار متر مكب سنويًا، وهو رقم كبير جدًا مقارنة بحجم حصة مصر الكلية من المياه، محذرًا من أن نصيب المواطن المصري حال الاستمرار على هذا الوضع سيتقلص إلى 350 متر مكعب سنويًا بحلول عام 2050، وهو ما ينقل مصر من مرحلة الفقر المائي الذي يبلغ حده الأدني 1000متر مكعب سنويًا إلى مرحلة الحرج للأمن المائي والمقررة بـ500 متر مكعب سنويًا.
العطش.. شبح يطار المصريين
ما السبب؟
تباينت أراء الخبراء والمحللين المتخصصين في ملف المياه في مصر حيال الأسباب الحقيقية وراء هذه الكميات الكبيرة المهدرة من المياه، إلا أنها تمحورت – بحسب أرائهم – في عدة محاور:
الأول: الشبكات المتهالكة.. تعاني البنية التحتية في مصر من تهالك واضح لشبكات المياه والصرف الصحي، وهو أحد الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الفاقد من المياه، إذ أن هناك مايقرب من 30 ألف متر طولي لشبكات مياه تخطت عمرها الافتراضي والذي يبلغ الخمسين عام دون أن يتم تجديدها، وذلك حسبما جاء على لسان أحمد معوض، نائب رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى.
معوض أشار إلى إن الشركة تحتاج إلى ما يقرب من 8 مليارات جنيه تقريباً (نصف مليار دولار)، لتجديد هذه الشبكات وإلا ستخرج نهائيًا خارج نطاق الخدمة ما ينجم عنه تضاعف في نسب المياه المهدرة، ولذا تسعى الشركة للتفاوض مع عدد من جهات التمويل الدولية، للاقتراض لاستبدال هذه الشبكات، على حد قوله.
وفي السياق نفسه أشار ممدوح رسلان، رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى، في تصريحات له، أن نسب الفقد في المياه تختلف من شركة لأخرى حسب عمر الشبكات ومستواها الفني وعمليات التجديد بها، وأنها تتجاوز الثلث تقريبًا في المجمل، ملفتًا أن الشركة بدأت في بعض الإجراءات التي من شانها التقليل من هذا الهدر من خلال إحلال وتجديد بعض الشبكات في محافظتي القاهرة والجيزة.
مايقرب من 30 ألف متر طولي لشبكات مياه تخطت عمرها الافتراضي والذي يبلغ الخمسين عام دون أن يتم تجديدها
الثاني: انتشار العشوائيات.. تمثل العشوائيات أحد أبرز القنابل الموقوتة في مصر، حيث تهدد مسيرة التنمية وتعرقل خطط النهضة بصورة كبيرة، خاصة وأن هناك مايقرب من 6.2 مليون مصري يعيشون في حوالي 351 منطقة عشوائية في مختلف أنحاء الجمهورية حسبما أعلن الدكتور عاطف الشيشاني مقرر المجلس القومي للسكان.
انتشار تلك العشوائيات والمباني المخالفة كان لها دور كبير في زيادة نسبة الفاقد من المياه لاسيما وأنها لا تخضع للرقابة ما ييسر عمليات سرقة المياه وإهدارها بصورة كبيرة، وهو ما أشار إليه النائب يسرى المغازى، وكيل لجنة الإسكان بالبرلمان، الذي أكد أن تفشي هذه الظاهرة وراء زيادة المهدر من المياه النقية.
وكيل لجنة الإسكان بالبرلمان، طالب الحكومة بضرورة الاعتراف بالمشكلية ابتداء، ثم العمل على وضع حلول عملية للخروج من هذا المأزق، بالتوازي مع ضرورة التجديد في الشبكات المتواجدة بهذه المناطق وتقنين عملية استهلاك المياه بها بحيث تخضع للمراقبة الحكومية.
30 ألف متر طولي لشبكات مياه لم تجدد منذ 50 عامًا
مياه الصرف الصحي.. هل تكون البديل؟
مابين مطرقة الفاقد والمهدر من المياه النقية والذي يتجاوز الثلث تقريبًا من إجمالي المياه المنتجة، وسندان الأثار المحتملة لسد النهضة الإثيوبي وتهديده لحصة مصر من مياه النيل، يترقب المصريون مستقبلهم المائي بقلق وحذر، في ظل محدودية الموارد المتاحة وثبات الكميات المنتجة، في مقابل زيادة السكان سنويًا بصورة كبيرة، ما دفع النظام إلى البحث عن مصادر جديدة لتحقيق الكفاية من المياه، وهو ماجاء على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي.. لكن يبقى السؤال: هل تصلح مياه الصرف الصحي لتكوين البديل؟
خبراء الصحة والمياه أشاروا إلى أن هناك العديد من الصعوبات التي تعيق فكرة مشروع معالجة مياه الصرف الصحي، واستبعدوا أن تكون مخرجات هذا المشروع هي البديل الآمن لندرة مياه الشرب النقية، وذلك لسببين:
الأول: طبيعة الصرف الصحي المصري المختلط، كونه مزيج من الصرف الزراعي والصناعي والشخصي في آن واحد، مما يجعل هناك صعوبة بالغة في تحلية هذه المياه التي يختلط فيها الصرف العضوي مع صرف الزراعة التي تحتوي على المبيدات وصرف المصانع الذي من الممكن أن يكون سامًا.
الثاني: المخاطر الصحية التي قد تنجم عن تناول مياه الصرف الصحي المعالجة بهذه الطريقة، وهو ما أشار إليه الدكتور محمود محمد عمرو، أستاذ الأمراض المهنية بكلية الطب ومؤسس المركز القومي للسموم الإكلينيكية، في تصريحات صحفية له قال فيها إن هذه المياه الملوثة تحتوي على النيتروجين الذائب الذي يتأكسد إلى نترات وهو ما يسبب مشاكل صحية كبيرة للإنسان؛ حيث يصل أيون النترات والنتريت مع مياه الري أو الصرف وتختزنه بعض النباتات في أنسجتها بنسبة عالية مثل “الكرنب والسبانخ والفاصوليا والخيار والخس والجرجير والفجل والكرفس والبنجر والجزر”، ما يفقدها الطعم وتغير لونها ورائحتها، وتنتقل النترات عبر السلاسل الغذائية للإنسان فتسبب فقر الدم عند الأطفال وسرطان البلعوم والمثانة عند الكبار.
ومن ثم فإن المخاطر التي تهدد مستقبل مصر المائي لم تقتصر وفقط على ما يمكن أن يترتب على بناء سد النهضة من آثار سلبية بشأن حصة مصر من مياه نهر النيل، إذ أن هناك عوامل أخرى لاتقل خطورة وتهديدًا للمنظومة المائية عن السد، تلك التي تتعلق بسوء التخطيط والبنية المتهالكة وغياب الإدارة الرشيدة.