دائمًا ما كانت الأزمات الصامتة تتخلل مسار العلاقات بين الرباط وباريس، لكن منطقة الاضطراب الحالي أضحت أكثر اتساعًا، لتنتقل من الدبلوماسية والتجسس والهجرة إلى ملف الصحراء، في وقت يخطو فيه المغرب تدريجيًا نحو الانفصال عن العالم الناطق بالفرنسية، وتنويع الشركاء الاقتصاديين على حساب القوة الاستعمارية السابقة.
في أعقاب زلزال الحوز المدمر الذي ضرب المغرب في 8 سبتمبر/أيلول 2023، تفاقم التوتر بين البلدين عوض أن يكون فرصة لتخفيف التوتر المتصاعد منذ 2021، وهو العام الذي نشرت خلاله منظمة “قصص ممنوعة” تحقيقًا يزعم أن السلطات المغربية وضعت هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحت التجسس، عن طريق استخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي.
طفت الأزمة على السطح بعدما عمدت فرنسا إلى رفض جل طلبات التأشيرة للمغاربة، وما زالت مستمرة في ذلك إلى الآن، علمًا بأن باريس تحججت في البداية برفض الرباط التعاون لإعادة مهاجرين غير نظاميين، وهو ما نفته الرباط.
كانت فرنسا قد قررت تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني المغرب والجزائر بنسبة 50% وتونس 30% لنفس السبب، إلا أنها ألغت القرار بالنسبة للجزائريين والتونسيين.
انفصال عن الكيان الفرنكفوني
الفرنكفونية لا تقتصر فحسب على المناطق الجغرافية التي تنتشر فيها اللغة الفرنسية، أو تجمع الأشخاص الذين يتحدثون الفرنسية، بل هي واقع معاش ونمط تفكير وسلوك حياة، قبل أن تكون انخراطًا في نموذج سياسي أو في كيان جغرافي، “وهي كيان يتحرك فيه الإنسان ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني، ومكان للتلاقي بين البشر لتبادل المعلومات وتناقل المعرفة وتقاسم الثقافة”، وفقًا لتعريف اليونيسكو.
ابتداءً من الموسم الدراسي الحالي، تتجه وزارة التعليم المغربية إلى خطة تمهيدية لتعميم تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية في الإعدادي، حسب ما ورد في مذكرة وزارية أنه “سعيًا إلى الارتقاء بتعلم وتدريس اللغة الإنجليزية التي تُدرس حاليًا كلغة أجنبية بالسنة الثالثة من التعليم الإعدادي، يشرفني إخباركم أنه قد تقرر الشروع في تعميم تدريس اللغة الإنجليزية بالتعليم الإعدادي انطلاقًا من الدخول المدرسي المقبل 2024-2023”.
لطالما كانت اللغة الفرنسية في المغرب شائعة، إلى درجة أن المغاربة يستخدمونها إلى حد كبير، ما جعلها تهيمن على تعاملاتهم الرسمية وتعليمهم بل وحتى أسلوب حياتهم، لكن المغرب يتجه حاليًا إلى الانتقال من تعليم اللغة الفرنسية كلغة أساسية في المدارس نحو الإنجليزية التي تعد أكثر استخدامًا، لا سيما في الحياة العملية كونها الأكثر شيوعًا حول العالم، ويتماشى ذلك مع المطالب الشعبية التي تعارض بشدة استمرار اعتبار الفرنسية لغة أساسية في التعليم والمعاملات المالية وبعض جوانب الحياة الأخرى.
صياغة علاقات جديدة
في عالم اليوم المتعدد الأقطاب، تجري صياغة علاقات دولية جديدة، في حين يتم التراجع عن علاقات أخرى، فقد خسرت فرنسا مكانة الشريك التجاري الرئيسي التي استفادت منها منذ استقلال المغرب في 1956، لصالح إسبانيا التي أصبحت تؤيد خطة المغرب لإرساء نظام حكم ذاتي في الصحراء، كحل سلمي لإنهاء النزاع المفتعل منذ 5 عقود، بين المغرب وجبهة البوليساريو الانفصالية، المدعومة أساسًا من الجزائر.
للإشارة فإنه في أبريل/نيسان 2021، دخل إسبانيا زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي بهوية جزائرية مزورة للعلاج، ما تسبب في أزمة استمرت سنة كاملة بين الرباط ومدريد، وأسفر عن ردود فعل مارسها المغرب على إسبانيا، مسّت جوانب مختلفة، بما في ذلك اتفاقيات الهجرة والأمن والتجارة، ثم سرعان ما انتهى الطرفان إلى مصالحة تاريخية، وفتح تخلي إسبانيا عن حيادها التقليدي بشأن قضية الصحراء الباب أمام مرحلة جديدة من الشراكة على أسس أكثر صلابة.
يستمر المغرب في تعزيز علاقاته مع البلدان التي اتخذت موقفًا داعمًا لمغربية الصحراء، بما فيها ألمانيا وإسبانيا اللتان تؤيدان حل الحكم الذاتي، والدول التي تعترف بالسيادة المغربية الكاملة على المنطقة مثل الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ويأمل المغرب أن تحذو المملكة المتحدة حذو هذه الدول، خاصة أن العلاقات بين لندن والرباط تتعزز بعناية منذ انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في فبراير/شباط 2020.
إذا حكمنا من خلال النمو غير المسبوق في العلاقات الاقتصادية بين المغرب والمملكة المتحدة، فمن المؤكد أيضًا أن لندن ستتبع خطى حليفتها عبر الأطلسي، وستدعم الرباط بشأن قضية الصحراء، أما بالنسبة للعلاقات المغربية الفرنسية، فهي لم تعد على الإطلاق كما كانت، بل إنه من الممكن أن يلوح في الأفق تمزق على النمط الرواندي.
انتهاء صلاحية الحياد
يحتفظ المغرب بشراكاته الإستراتيجية مع الدول التي تدعم سيادته على الصحراء، بينما اختارت حكومة ماكرون إستراتيجية التقارب مع الجزائر، التي تشن حربًا بالوكالة ضد المغرب منذ 1975، ما يعني أن حيلة الحياد التي تتوارى خلفها فرنسا أصبحت مرفوضة من المغرب.
وطبعًا فإن التعاون في مختلف المجالات يلعب دورًا في تحديد المواقف الدولية، وهكذا هو الحال بالنسبة لفرنسا التي تفقد نفوذها بشكل متواصل في إفريقيا، وقد تراجع في عدد من بلدان جنوب الصحراء لصالح روسيا مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى، حيث يعد هذا البلد مركز عمليات شركة فاغنر الروسية.
من أجل إعادة تطبيع العلاقات، يشترط المغرب على فرنسا أن تخرج من المنطقة الرمادية وتوضح موقفها من قضية الصحراء، وكان العاهل المغربي محمد السادس قد ربط مصير علاقات الرباط بالدول الأخرى بمواقفها من هذا الملف، ويعتقد مراقبون أن الرسالة كانت موجهة تحديدًا إلى فرنسا التي يحاول المغرب دفعها لتطوير موقفها بهذا الخصوص.
هذه الشراكة المثالية التي جرى توطيدها منذ عقود، تريد الرباط تطويرها وفق رؤيتها لملف الصحراء ومكاسبها الجديدة بخصوصه، لا سيما التطورات الجوهرية التي حصلت في موقف البلدان القريبة من فرنسا سواء على المستوى الجغرافي أم السياسي، بيد أن فرنسا تريد إظهار أنها قادرة على إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية، لكنها تقرر وحدها سياستها بشأن الصحراء.