بدأت المشاريع والأنشطة النووية في العراق منذ الخمسينيات من القرن الماضي بهدف استخدام التكنولوجيا النووية في مجالات سلمية، مثل توليد الكهرباء والبحث العلمي، وجرى تأسيس البرنامج النووي العراقي رغم التحديات التي كانت يواجهها البلاد.
عملت بغداد على تطوير البرنامج النووي السلمي على مرّ الزمن ليشمل أنشطة متعددة، مثل بناء مفاعلات نووية وإجراء أبحاث في مجالات علم الأرض والزراعة والطب النووي، وذلك بالتعاون مع العديد من الدول والجهات الدولية في هذا السياق.
لكن مع مرور الوقت، أثّرت التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية على مستقبل البرنامج النووي السلمي العراقي، إذ تصاعدت الضغوط الدولية والقلق بشأن استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض غير سلمية، ما أدّى إلى تصاعد التوترات الدولية فيما بعد.
في هذا الحوار الخاص، نستمع إلى معلومات مثيرة ومعقدة حول البرنامج النووي العراقي، منذ البدايات وحتى النهاية، من خلال رواية الدكتور فاضل الجنابي الذي شغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية في عهد حكومة الرئيس الأسبق صدّام حسين.
ونستكشف في هذا الحوار العديد من الجوانب المهمة والمثيرة لهذا البرنامج النووي، بدءًا من مراحل إعداده وتطوره، وصولًا إلى التحديات والضغوط الدولية التي واجهها، كما نسلط الضوء على الأهداف الأساسية للبرنامج والأسباب التي دفعت الحكومة العراقية إلى البحث عن تطوير تكنولوجيا نووية، وكذلك سنتناول الآثار السياسية لهذا القرار.
كما سنتعرّف إلى تفاصيل تشكيل فرق العمل والعلماء العراقيين الذين شاركوا في هذا البرنامج النووي السري، ونطّلع على العمليات والأبحاث التي تمّت خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى تفاصيل حساسة حول الأحداث التي أدت في النهاية إلى إنهاء البرنامج النووي العراقي والتداعيات التي نتجت عنه.
يمنحنا هذا الحوار فرصة فريدة لفهم هذه الجوانب الهامة من التاريخ النووي للعراق، من خلال شاهد عيان ومشارك مباشر في هذا البرنامج النووي البارز.
لنبدأ من البداية دكتور، لو نستذكر بدايات البرنامج النووي العراقي
حقيقة هذا البرنامج أصبح شيئًا من الماضي، وتوجد الكثير من التفاصيل المنشورة حول بداياته التي كانت في خمسينيات القرن الماضي، عندما أهدت الولايات المتحدة الأمريكية العراق مكتبة علمية حول القضايا النووية، ومعها مفاعل نووي صغير بقدرة 2 ميغاواط، وكان من المفترض أن يتم نصبه في بغداد، لكن سقوط الحكم الملكي عام 1958 حال دون استمرار المشروع، بسبب تدهور علاقات العراق مع الولايات المتحدة، فجرى نقل المفاعل إلى إيران آنذاك.
وفي عام 1959 اتفق العراق مع الاتحاد السوفيتي على إقامة أول مفاعل نووي، حيث تقرر تنصيبه في منطقة التويثة قرب بغداد بطاقة 2 ميغاواط، وتم تشغيله عام 1967 لغرض اختبار بعض المواد، واستمر العمل عليه حتى عام 1985 عندما تم الاتفاق مع فرنسا على إقامة مفاعلَين جديدَين، أحدهما صفري بحجم 500 كيلوواط، وآخر كبير طاقته 40 ميغاواطًا.
ما كانت فكرة المشروع وأهميته بالنسبة إلى صانع القرار العراقي؟
الحقيقة كان منظور المفاعل أن يكون مركزًا بحثيًّا على مستوى الوطن العربي، يجمع كل الكوادر العربية وليس العراقيين فحسب، حيث كانت الكوادر النووية العربية تستطيع أن تعمل به، لأن هذه المفاعلات تعلّم كيفية تفاعل المواد الأخرى، وآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا النووية حينها، وكان يعمل بالوقود العراقي عالي التخصيب 93% من هذا المفاعل.
وكان هذا المفاعل بإمكانه التعامل مع المواد التي تتسم بالإشعاع العالي، وفيه العديد من المنظومات المتطورة لغرض تدريب الكوادر، فالحقيقة كان بمثابة مركز بحثي كبير جدًّا، وعمل فيه 3 علماء مصريين منهم يحيى المشد الذي اغتيل في باريس.
كما ضمَّ البرنامج العراقي مراكز بحثية لتطوير كافة المجالات، سواء كانت زراعية أو طبية أو صناعية، أو غيرها من المجالات الحيوية المهمة.
وفي عام 1981، قصفت “إسرائيل” المفاعل الفرنسي في العراق، واستمر البرنامج النووي العراقي من دون هذا المفاعل، حيث قاموا برفع قدرة المفاعل الروسي القديم إلى 4 ميغاواطات بالتعاون مع شركة بلجيكية.
إضافة إلى المفاعل الذي شيّدته فرنسا، هل كان للعراق اتفاقيات نووية أخرى؟
لم يقتصر اتفاق العراق مع فرنسا على بناء المفاعل النووي، لكن كان الاتفاق أن تقوم باريس بتدريب الكوادر العراقية.
وفي الوقت ذاته، كان هناك اتفاق مع إيطاليا لإقامة 3 مراكز نووية، أحدها لتصنيع الوقود النووي، والآخر لإنتاج مواد تستخدَم في تصنيع الوقود النووي، والثالث لتنقية اليورانيوم ومنظومة لاستخلاص البلوتونيوم، كما كان هناك مشروع لاستخلاص اليورانيوم من مناجم عكاشات غرب العراق.
ما حجم هذا المشروع؟ وأين توزّع جغرافيًّا داخل العراق؟
كان اليورانيوم يستخرج من عكاشات التي بإمكانها إنتاج 150 طنًّا سنويًا، ثم يتم نقل المواد لتنقيتها في عدة مناطق من العراق منها الموصل والنجف، وفي بغداد كانت هناك عدة منشآت للطاقة الذرية في جرف الصخر والطارمية والزعفرانية والتويثة وغيرها.
لو تشير إلى بعض التفاصيل التي تتعلق بعدد الخبراء والعاملين في البرنامج؟
كان يعمل في البرنامج أكثر من 6 آلاف شخص ما بين عمّال وفنيين وخبراء، ومن بينهم نحو 3 آلاف عالم نووي عراقي يحملون مختلف الشهادات العلمية العليا في هذا المجال.
هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن البرنامج النووي العراقي كان لأغراض سلمية فقط وليس لأهداف عسكرية، وحتى عندما برزت فكرة التسليح النووي عام 1988 لم يتم تطبيقها على أرض الواقع.
وقد حقّق البرنامج النووي العراقي إنجازات كبيرة، وكانت المجلّات العلمية العالمية تنشر بحوث الخبراء العراقيين في مجال الطاقة الذرية، لكن بعد العقوبات الدولية على العراق في تسعينيات القرن الماضي، تم تقييد عمل البرنامج النووي العراقي من قبل وكالة الطاقة الذرية الدولية، واقتصر هدفنا حينها على المحافظة على هذه الكوادر وتطوير علميتها.
كيف خطط العراق لتطوير كوادره النووية وتعزيز برنامجه الطموح؟
كان العراق يحرص على تواصل الأجيال العلمية، وكانت لدينا دائمًا برامج تعنى بنقل الخبرة من هؤلاء إلى الجيل الثاني، وكانت شهادات الدكتوراه والماجستير تمنَح بهذه الطريقة.
وكان لدينا برنامج اسمه “الألف طالب”، هدفه نقل خبرات العلماء الكبار إلى الجيل الجديد، وكانت الدولة تخصص مبالغ كبيرة لهذا الأمر، إذ إن العالِم الواحد يكلف الدولة نحو 4 ملايين دولار، ما بين مصاريف الدراسة في الخارج والتدريب في عدة دول، وشراء الأجهزة اللازمة والمخصصات التحفيزية وغير ذلك.
كيف كان يدار البرنامج النووي العراقي؟
بالنسبة إلى البرنامج النووي كان يقوده علميًّا الدكتور جعفر ضياء جعفر، تلك العقلية النووية الفريدة، وكان دوره في العراق يشبه دور العالم الفيزيائي الأمريكي أوبنهايمر بالبرنامج النووي الأمريكي، وهنا أقصد من ناحية التقدم العلمي والتكنولوجي للبرنامج.
فالبرنامج النووي يكون على شكل حلقات متسلسلة، وهو مسؤول عن هذه الحلقات بطريقة علمية حتى الوصول إلى عملية التخصيب.
أما رئيس الطاقة فعمله مختلف، حيث إن مسؤوليته إدارة المشروع بشكل عام، وكل موظف له دوره في هذا البرنامج.
ما مصير خبراء البرنامج النووي بعد الغزو الأمريكي للعراق؟
تعرّض معظمهم للتصفية من قبل مخابرات إقليمية ودولية، وعلى مرأى ومسمع من القوات المحتلة التي تقاعست عن حمايتهم، وكأنها أعطت موافقة ضمنية لاغتيال هؤلاء.
وأما الجزء الآخر فتعرضوا للاعتقال، فيما هرب الباقي خارج العراق وانتشروا في كافة أنحاء العالم، حيث يعملون في مجالات متنوعة لتأمين لقمة العيش.
وأنا تعرّضت للاعتقال من قبل القوات الأمريكية وتعرضت للتحقيق، وبعدها تم إطلاق سراحي ونجحت في الهروب إلى سوريا التي لجأ إليها معظم العراقيين بعد الغزو.
كان ينبغي على الدول العربية احتضان هذه الكفاءات والاستفادة من خبراتها، لكن هذا لم يحصل للأسف، وهنا نستذكر أنه عندما اُحتلت ألمانيا عام 1945 تسابقت روسيا وإنجلترا والولايات المتحدة للاستفادة من العلماء الألمان آنذاك.
لذا، إن تصفية خبراء النووي العراقي لم تكن محض صدفة بل أمرًا مخططًا له، وكانوا علنًا يقولون يجب إبعاد هؤلاء لمدة 20 عامًا، وبعدها إما يموتون وإما يفقدون القيمة العلمية.
كيف تقيّمون نجاح البرنامج النووي العراقي؟
كان البرنامج العلمي النووي العراقي ناجحًا بكل ما تعنيه الكلمة، وذلك من خلال نشر التجربة العراقية، ونقل الخبرات وتدريب الكوادر في المراكز العلمية الصغيرة بالوطن العربي.
لذلك، بعد أن كانت الدول العربية لا تمتلك أي عمل يخص الطاقة النووية، أنشأت لاحقًا مراكز نووية، وبدأت إرسال البعثات إلى خارج تلك الدول لتعلُّم العلم النووي والعمل به، لذلك استطاع العراق توسيع هذه المراكز العلمية المنتشرة في الوطن العربي.
هل كانت هناك خيانات من أعضاء البرنامج النووي العراقي سواء من الكادر أو الخبراء؟
لا، لم يحصل ذلك، سوى حالات قليلة لموظفين صغار غادروا العراق وأدلوا بمعلومات كاذبة وغير حقيقية عن البرنامج النووي العراقي، كما حصل مع أحد المهندسين الصغار والذي أُطلق عليه في ألمانيا “نصف الدائرة”.
لذا، العراق يفخر بأن الأمريكيين لم يحصلوا على أي معلومة حول البرنامج النووي العراقي، حتى عام 1990 كانوا يقصفون مواقع غير نووية لأنهم لا يعرفون المواقع النووية، واستمر الأمر كذلك حتى دخلت لجان التفتيش الدولية وعرفت كل شيء.
وأتذكر عندما سألني أحد أعضاء لجان التفتيش وأظنه من المخابرات البريطانية، وقال لي: “أين اليورانيوم الذي قمتم باستيراده من النيجر؟”، وهذه قصة طويلة وقتها ادّعتها واشنطن، فقلت له: “أي نوع من اليورانيوم تقصد؟”، فقال: “اليورانيوم غير النقي”، فأجبته بأنّ لدينا أكثر من 620 طنًّا منه في المخازن، فلماذا نستورد من النيجر؟ وجرى لاحقًا فضح زيف ادّعاءات الإدارة الأمريكية آنذاك.
كيف تعامل العراق مع فرق التفتيش الدولية؟
العراق وافق على قرار مجلس الأمن، وفتح كل شيء أمام لجان التفتيش، بهدف إنهاء الحرب المدمرة، حيث استهدف القصف وقتها حتى المواقع الصغيرة على ضفاف الأنهار، وتم تدمير كل شيء، بما في ذلك محطات مياه الشرب، بعد أن تم قصف الدفاعات العراقية.
لذلك، استقبل العراق لجان التفتيش ورئيسها وسمحوا لها بتفتيش جميع المواقع، بما في ذلك غرفة رئيس الجمهورية كانوا يدخلونها للتفتيش، ولا يوجد مكان ممنوع عليهم، فكل الأماكن معرضة للتفتيش في أي لحظة، ولم يكونوا يخبرون مرافقينهم العراقيين عن وجهتهم.
ما حقيقة عثور اللجان على ملف البرنامج العراقي النووي قبل أن يصادرها المسؤولون؟
لا، هذا غير صحيح، فالوثائق التي عثروا عليها كانت تحتوي على معلومات عامة حول العاملين في الطاقة الذرية العراقية، كانت مخفية في نقابة العمال في بغداد حيث تم حفظها هناك بعيدًا عن القصف الأمريكي، لكن المفتشين حاولوا تهويل الأمر والتعامل معه كإنجاز رغم أنها وثائق عادية.
لماذا سمح العراق للمفتشين أن ينشطوا في البلاد دون قيد أو شرط؟
أعتقد أن القيادة العراقية توصلت إلى هذا القرار بسبب رغبتها في وقف الحرب، حيث اشترط مجلس الأمن الدولي أن يكون العراق ساحة تفتيش مفتوحة أمام اللجان الدولية، وتضمّن قرار مجلس الأمن قائمة واسعة من الممنوعات على العراق شملت حتى أقلام الرصاص التي تستخدَم للكتابة، كما دمّروا الكثير من المصانع المدنية بذريعة التخوف من استخدامها لأغراض نووية، رغم أنها أجهزة عادية.
ما حصل يؤكد الهيمنة الأمريكية على القرار العالمي، حيث كانت معظم الدول موافقة على ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الأمر تكرر عام 2003 عندما قررت واشنطن غزو العراق بمباركة دولية، والتاريخ يشهد على ذلك.