يحافظ أبناء جبل العرب في جنوبي سوريا على حضورهم الجماهيري في ساحات الحرية والكرامة، للمطالبة برحيل نظام الأسد عن السلطة والتغيير السياسي السلمي لاعتبارهما من أبرز المطالب الشعبية، ضمن خطوة سلمية جريئة تعبّر عن مطالب أبناء المحافظة التي لا تتبدل حتى سقوط النظام.
أخذت الاحتجاجات الشعبية منذ اندلاعها قبل 45 يومًا، تمضي وسط تطورات مختلفة لم تعرفها الساحات سابقًا، ما مهّد إلى ارتفاع سقف المطالب الشعبية وتمدُّد الاحتجاجات إلى مختلف أرجاء المحافظة ريفًا ومدينة، وبمشاركة واسعة شملت مختلف شرائح ومكونات مجتمع السويداء.
بداية احتقان الشارع
في منتصف أغسطس/ آب الماضي، أصدرت حكومة نظام الأسد قرارات اقتصادية تتعلق بزيادة رواتب الموظفين العاملين في القطاع العام، حيث وصلت نسبة الزيادة إلى 100% بينما لا يتجاوز متوسط راتب الموظف 20 دولارًا أمريكيًّا، بعدما تدهورت الليرة السورية ولامست حدود 15 ألف ليرة سورية مقابل الدولار الواحد.
ضاعفت تلك القرارات الأزمة المعيشية والاقتصادية التي يعشيها المواطنون السوريون أساسًا قبل الزيادة، ما تسبّب في احتقان الشارع ضد حكومة نظام الأسد، وخروجهم إلى الشوارع للمطالبة بتحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية، رافضين تمامًا القرارات الحكومية غير المدروسة.
انضمت عدة مناطق في محافظات سورية مختلفة من أقصى جنوب البلاد إلى شمالها وشرقها وغربها، ضمن نشاطات احتجاجية متنوعة للتعبير عن استيائهم من الحالة التي وصلت إليها البلاد، عقب دعوات من “الحراك السوري” و”حركة 10 آب”، اللتين نشطتا تزامنًا مع حراك الشارع في المحافظات الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد.
دفعت النشاطات الاحتجاجية قوات نظام الأسد إلى تكثيف القبضة الأمنية ونشر الحواجز العسكرية وتقديم حلول جزئية منفردة لبعض المناطق، وإعادة صياغة اتفاقيات أخرى مع مدن ومناطق خرجت عن سيطرته لفترة ما، إلى أن تركزت الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء، والتي أخذت طابعًا خاصًّا مختلفًا عن بقية المحافظات السورية.
ورغم الحالة التي وصل إليها السوريون، إلا أن الحكومة لم تقدم شيئًا يذكر على صعيد الحلول الاقتصادية الإسعافية التي من شأنها تخفيف الاحتقان، إلا أنها راحت تصدر قرارات أخرى ترتبط بتحرير أسعار بعض السلع الأساسية كالخبز والمحروقات وغيرهما، في وقت لا يجد معظم السوريون قوت يومهم إن صح التعبير.
السويداء تتصدر الحراك
نزل أبناء محافظة السويداء إلى الشارع في أعقاب القرارات الاقتصادية الصادرة عن حكومة نظام الأسد، التي تسبّبت في مضاعفة الأزمة المعيشية، مرددين هتافًا يطالب بتحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية، لكنه سرعان ما ارتفع سقف مطالبهم ليطاول رأس نظام الأسد وحكومته التي باتت تتخذ قرارات تعسفية بحقّ السوريين.
يومًا بعد آخر، تجددت المطالب والوقفات الاحتجاجية وحالة العصيان المدني، حيث قطع المحتجون عددًا من الطرقات الرئيسية الواصلة بين المدن والبلدات، كما أغلقوا مقار حزب البعث وعددًا من المؤسسات الحكومية، وأزالوا صور رأس نظام الأسد المنتشرة في الساحات والمباني الحكومية، في إطار العصيان المدني.
أخذت التظاهرات تتوسع حتى حوّلت ساحة السير/ الكرامة في مركز مدينة السويداء إلى ساحة اعتصام يومية، تتجدد فيها مطالب السوريين الطامحة للحرية، مع انضمام أهالي مدن وبلدات تابعة للسويداء إلى الحراك السلمي المناهض لنظام الأسد والمطالب بالتغيير السياسي السلمي للسلطة، والإفراج عن المعتقلين، والحرية والكرامة، والعدل كحقّ مشروع، بعدما افتقدها السوريون منذ سنوات.
عكست التظاهرات السلمية في محافظة السويداء منذ اندلاعها العديد من المشاهد الخاصة، على الصعيد التنظيمي وأساليب الاحتجاجات، ووحدة المطالب، والحفاظ على الأراضي السورية، وتحقيق العدالة والحرية لجميع السوريين، ما يؤكد فاعلية الحراك في المحافظة واختلافه عن التظاهرات السابقة التي شهدتها المدينة بعد اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011.
موقف مشيخة العقل
لعلّ أبرز ما يميز الانتفاضة الشعبية حصولها على تأييد وموقف حازم من قبل مشيخة العقل، باعتبارها المرجعية الدينية للطائفة الدرزية التي تحظى بمكانة مرموقة بين شرائح المجتمع، كما أن لها تأثيرًا كبيرًا على أهالي السويداء، ما ساهم في دفع الاحتجاجات الشعبية إلى تطورات عديدة.
تصدّر موقف الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين، الشيخ حكمت سلمان الهجري، إزاء الاحتجاجات الشعبية التي أعقبت القرارات الاقتصادية الحكومية، في البيان الأول، والذي جاء فيه: “إن الصمت لا يعني الرضا، فقد طاولت التصرفات والإجراءات لقمة العيش، فآن الأوان لقمع مسبّبي هذه الفتن والمحن ومصدري القرارات الجائرة المجحفة الهدّامة، ولنقتلع من أرضنا كل غريب وكل مسيء، وكل حارق مارق قبل أن يسرق أموالنا من موقعه”.
ذلك الموقف كان كفيلًا في دفع الانتفاضة الشعبية ومسيرتها تجاه رفع سقف المطالب بالتغيير السياسي في البلاد، حيث ساهم موقف الشيخ في تصاعد الحراك الشعبي في المحافظة، رافضًا النظام ومطالبًا برحيله في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي وصلت إليها البلاد.
قد لا يعتبَر الشيخ الهجري الوحيد الذي وقف جانب المتظاهرين خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلا أنه كان صاحب صدى أكبر نتيجة مواقفه المتكررة ودعمه المتواصل، مقارنة مع الشيخ حمود الحناوي الذي أبدى موقفًا داعمًا أيضًا للاحتجاجات.
View this post on Instagram
فيما كان موقف الشيخ يوسف الجربوع أكثر تقيُّدًا بعلاقته المباشرة مع نظام الأسد، بعدما حاول تحجيم مطالب المحتجين في 24 أغسطس/ آب الماضي في 6 مطالب، وحصرها في تحسين الأوضاع المعيشية، ذلك عقب اجتماع جمعه في دار عين الزمان مع عدد من مسؤولي نظام الأسد وممثلين عن الفرق الحزبية.
ومكانة الشيخ حكمت الدينية (دار قنوات) تقع في الريف الشمالي والشمالي الشرقي والريف الغربي لمحافظة السويداء، بينما يبرز اسم الشيخ حمود الحناوي في منطقة سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للمحافظة، أما الشيخ يوسف الجربوع يعدّ المسؤول عن دار الطائفة في مقام عين الزمان، حيث يتركز نفوذه الديني في مدينة السويداء والقرى الصغيرة المجاورة لها.
ورغم مرور أكثر من شهر ونصف على الاحتجاجات، إلا أن موقف الهجري لا يزال ثابتًا خلال البيانات الصادرة عنه في دار قنوات، ومؤكدًا على “ضرورية الاستمرارية ليوم وأسبوع وشهر وعامَين حتى الوصول إلى الهدف”، وداعيًا الشارع إلى إطلاق الهتافات حتى تحقيق المطالب المحقة.
وقال في آخر بيان مصور له في دار قنوات: “إن الحلول الأمنية والعسكرية يقوم بها الجبناء تجاه شعوبهم”، مضيفًا أن موقفه الكلمة و”إعطاء الرأي الصحيح تجاه الناس، والمراهنة على الوقت لا تجدي نفعًا، لأن الوقت مع الشارع”، محذرًا من شرخ وشقّ الصفوف بين الناس بعدة أشكال دينية واجتماعية وسياسية، والحرص على عدم الانجرار إلى الفتنة.
خطوة نحو تنظيم الحراك
مع تواصل الاحتجاجات اتجه ناشطون ومحتجون في ساحات الاعتصام إلى البحث عن آلية تهدف إلى تنظيم الحراك السلمي في المحافظة، وتقديم حماية كاملة للساحات من محاولات الأجهزة الأمنية في العبث في أمن الاحتجاجات، حيث قام عدد من منظمي الحراك على تشكيل مجموعات مدنية تهدف إلى حماية ساحات الاعتصام، وتنظيم الاحتجاجات وتأطير المطالب.
بعد مرور أسبوع على الاحتجاجات، وتحديدًا في 27 أغسطس/ آب الماضي، قدم ضباط متقاعدون من السويداء مقترحات تدعو إلى تشكيل “مجلس إدارة مؤقت”، يهدف إلى إدارة شؤون المحافظة وفتح معبر حدودي مع الأردن، خلال زيارة أجروها للشيخ الهجري.
وقدموا الضباط خلال زيارتهم مجموعة من المقترحات إزاء تطورات الاحتجاجات، وبيّنوا موقفهم الداعم لمطالب الحراك الشعبي حتى تحقيق أهدافه كونهم جزءًا أساسيًّا منه، كما شددوا على وحدة الأراضي السورية، وحلّ كل القضايا عبر دعم الحل السياسي السلمي وفق القرار الأممي 2254.
تسبّب ذلك الإعلان في إثارة جدل واسع، استغلته بعض الأطراف بهدف تشويه صورة الحراك السلمي في السويداء، ما دفع الضباط إلى التأكيد على أنها مجرد مقترحات تهدف إلى إيجاد تمثيل مدني وعسكري للمحافظة، ولا تدعو إلى الانفصال عن سوريا.
وأدّت عدة اجتماعات عُقدت بين ممثلين في الحراك السلمي والانتفاضة، وعدد من السياسيين والمثقفين الوطنيين في محافظة السويداء، إلى تشكيل هيئة سياسية توحّد صفّ السويداء، أُطلق عليها “الهيئة السياسية للعمل الوطني”، والتي تهدف إلى تقديم رؤية سياسية واضحة لمطالب السوريين في التغيير السياسي والحل السلمي للسلطة.
كما شكّلت هيئة اجتماعية للعمل الوطني تهدف إلى التنسيق والتعاون مع مشايخ العقل، وحركة رجال الكرامة وقوى التجمع الوطني، كما تعدّ جزءًا فعّالًا من الحراك السلمي، كون نشاطاتها وحراكها السابق ساهما في توفير بنية سليمة.
دعم دولي للانتفاضة
تلقّى الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين، الشيخ حكمت سليمان الهجري، عدة اتصالات هاتفية دولية وإقليمية بهدف الاطّلاع على تطورات الحراك السلمي في المحافظة، وكان آخرها حديث نائب وزير الخارجية الأمريكي إيثان غولدريتش، في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، للاطمئنان على واقع الاحتجاجات وتطوراتها.
أعلنت السفارة الأمريكية في سوريا أن اتصالًا هاتفيًّا جرى بين غولدريتش والشيخ الهجري، جاء لـ”تأكيد دعمنا لحرية التعبير للسوريين، بما في ذلك الاحتجاج السلمي في السويداء”، كما يوجه دعوةً إلى تحقيق سوريا عادلة وموحدة، وتقديم حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.
كما أجرى النائب الديمقراطي برندن بويل اتصالًا مع الشيخ الهجري في 20 سبتمبر/ أيلول، “اطمأنَّ من خلاله على سلامة المتظاهرين بعد حادثة إطلاق النار”، كما أشاد خلال حديثه بسلمية التظاهرات في السويداء، كونه غير مستغرب منها لأنه سبق له أن “اطّلع على تعاليم الدروز الروحية التي تدعو إلى السلام والمحبة”.
وأطلق عناصر وأعضاء ينتمون إلى حزب البعث في السويداء الرصاص على المتظاهرين أمام مبنى قيادة حزب البعث في السويداء، ما أدّى إلى إصابة 3 أشخاص من المحتجين، ودفع ذلك إلى تصاعد الاحتجاجات، ودعوات إلى الحفاظ على سلمية التظاهرات، وعدم الانجرار إلى الحراك المسلح.
احتجاجات السويداء تحظى بدعم دولي
ويأتي ذلك عقب أيام من اتصال هاتفي دام لأكثر من نصف ساعة بين النائب الجمهوري فرينس هيل والشيخ الهجري، حيث استفسر منه “عن حقيقة ما يجري في السويداء، وعن الأوضاع الأمنية في المحافظة، خصوصًا بعد قيام النظام بإطلاق النار على المتظاهرين”.
ولاقت الانتفاضة الشعبية في السويداء دعمًا دوليًّا من قبل مبعوثة المملكة المتحدة إلى سوريا، قائلةً في تغريدة لها عبر منصة إكس (تويتر سابقًا): “من خلال مشاهدة الاحتجاجات في سوريا، من الواضح أن السوريين لن يستسلموا أبدًا، وأنا أشيد بشجاعتهم”، وأشارت إلى أنه “ينبغي أن يكون لكل فرد الحق في العيش بكرامة”.
كما علق رئيس اللجنة المختصة بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الوسطى في الكونغرس الأمريكي، جو ويلسون، قائلًا: “هذه الاحتجاجات أثبتت للعالم أجمع أن مستقبل سوريا مرتبط بالتخلص من حكم الأسد الوحشي”.
عبّرت المبعوثة الفرنسية بريجيت كرمي عن دعمها لمطالب الشعب السوري وخروجه في تظاهرات شملت العديد من المناطق السورية، وسبق ذلك إشادة كل من سفيرة الولايات المتحدة ليندا توماس، وسفير ألمانيا ستيفان شينك لدى مجلس الأمن، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسون، بالاحتجاجات الشعبية السورية.
لا بديل عن إسقاط نظام الأسد
رغم محاولات نظام الأسد تحجيم الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء، وعمله الدؤوب من خلال مسؤولين في حزب البعث والحكومة بشكل غير مباشر على إيجاد حلول ترقيعية، إلا أن تجاهله لما يجري في محافظة السويداء على صعيد العصيان المدني والحراك السلمي المطالب برحيله يبدو غير منطقيًّا، بعد مرور أكثر من شهر ونصف على اندلاع الاحتجاجات.
ويرى مراقبون أن نظام الأسد ليس لديه حلول في ظل الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد، بعدما خرجت تلك الاحتجاجات عن حدود تحسين واقع المعيشة، في حين يصرّ على البقاء في سدة الحكم حتى على أنقاض البلاد المتهالكة، ما يؤكد أنه يراهن على عامل الوقت حتى يملّ أبناء المحافظة من الاحتجاجات اليومية.
ويؤكد نادر صحناوي، ناشط مشارك في الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء، أن التظاهرات مستمرة في المحافظة، لأن الأهالي يدركون المآسي التي سبّبها لهم نظام الأسد طيلة السنوات الماضية، ولا يمكن التراجع خطوة واحدة عن التظاهر حتى تحقيق المطالب.
وأوضح صحناوي، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن نتائج الاحتجاجات في السويداء رغم عدم تحقيق المطالب إلا أنها بالغة الأهمية، بعدما وحّدت صفّ أبناء المحافظة ريفًا ومدينة، وأزالت العوائق الأمنية التي فرضها نظام الأسد من خلال إثارة الخلافات وزعزعة أمن الأهالي، فضلًا عن منح الأولوية لأعضاء حزب البعث في كافة تفاصيل الحياة.
وأشار إلى مساهمة الحراك في تصدير المحافظة إعلاميًّا بعد تعتيم مطبق، وانفتاح على الصعيد السياسي بعد إغلاق طويل، وذلك من خلال الاتصالات الدولية والإقليمية مع الشيخ حكمت الهجري، فضلًا عن تشكيل هيئتَين سياسية واجتماعية تعملان على تنظيم وتصدير مطالب السوريين للمجتمع الدولي.
ورغم كل المحاولات التي سعى من خلالها نظام الأسد لاستجرار الشارع إلى الحراك المسلح عبر طرقه الاستفزازية، إلا أن المتظاهرين ومشيخة العقل ومنظمي الحراك حاولوا الحفاظ على سلمية التظاهرات الشعبية، مؤكدين أن مطالب إسقاط نظام الأسد والتغيير السلمي للسلطة لا بديل عنها.