ترجمة وتحرير: نون بوست
هل يمكن للطريق الاقتصادي الجديد الذي يبدأ من الهند ويمتد إلى أوروبا أن يتجاوز تركيا حقًا؟ ما هي مزايا وعيوب طريق التنمية الذي اقترحته تركيا بديلا لهذا المشروع؟
في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعمهما لمشروع الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا. وقد جذب هذا المشروع اهتمام العالم بأسره.
يمر هذا المشروع، الذي يبدأ من الهند التي تُعد مرشحة لتكون مركز الإنتاج الجديد للعالم في السنوات الأخيرة، عبر دول الخليج إلى “إسرائيل” ومن هناك إلى أوروبا، لكنه يتخطى دولتين كانتا محطتين مهمتين عبر التاريخ هما تركيا والعراق.
View this post on Instagram
وصف الفيديو: “تخيلوا معي ممرًا تجاريًا يمتد من الصين، التي تتسابق مع الهند لتصبح مركزًا جديدًا للإنتاج في العالم، وصولاً إلى أوروبا دون أن يمر عبر تركيا”
قد لا يكون هذا مجرد خيال لأن مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي تم التوقيع عليه لأول مرة في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند، يتبع هذا المسار بالضبط.
قد يكون للطريق التجاري الهندي-الأوروبي، الذي قال الرئيس رجب طيب أردوغان إنه “غير ممكن بدون تركيا”، تأثير على مصير البلدان التي لا يمر منها وكذلك البلدان التي يمر منها.
وفيما يلي، ما تحتاج إلى معرفته عن الممر التجاري الجديد الذي لا يزال قيد التطوير وهو “طريق التنمية” الذي تعمل أنقرة وبغداد منذ فترة عليه. ولكن إلى أين سيصل مشروع طريق التنمية هذا؟
بديل للصين
في سنة 2013، أطلقت الصين على مبادرة الحزام والطريق اسم “طريق الحرير الجديد”، بهدف ربط آسيا بأوروبا. لهذا السبب، لوحظ زيادة في النشاط الاقتصادي للصين على نطاق واسع من آسيا الوسطى إلى إفريقيا. وفي السنتين الأخيرتين، زاد اهتمام الصين بالشرق الأوسط بشكل واضح.
في هذه المرحلة بالذات، يمكن اعتبار توقيع أول اتفاقيات مشروع الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا في قمة مجموعة العشرين التي لم تحضرها الصين وروسيا، خطوة واضحة ضد الصين وذلك في ظل المنافسة المفتوحة بين الصين والهند.
صراع الشرق الأوسط في الممرات
في هذا التنافس، يبدو أن دول الخليج والشرق الأوسط ستلعب دورًا مهمًا مع إطلاق أول خطوة من مشروع الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا (IMEC). ومن المقرر أن يمتد الممر من ميناء مومباي في الهند إلى دبي، ثم إلى السعودية عبر السكك الحديدية، ثم إلى الأردن و”إسرائيل”. ومن هناك، سيتصل الممر باليونان ثم سيعبر أوروبا.
في هذه المرحلة، يخلق التنافس بين الولايات المتحدة والصين والهند بيئة سياسية يمكن أن تتأثر بها تركيا بشكل مباشر. وقد عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة عن رغبته في أن تكون تركيا جزءًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
هل تركيا ليست مدرجة في هذا المشروع؟
في الفترة الأخيرة، تطورت العلاقات بين تركيا ودول الخليج. وما هو أكثر من ذلك أن تركيا بالفعل عضو في مجموعة العشرين التي تم الإعلان فيها عن مشروع الممر الاقتصادي من الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا.
وعند مراعاة المسار والبلدان التي يمر بها هذا المشروع، يبدو أن عدم احتساب تركيا ضمن نطاق التأثير هو ضد طبيعة السياسة.
وبما أن واحدًا من الممرات الرئيسية لهذا المشروع هو عبر البحر الأبيض المتوسط، فإن ذلك يجذب تركيا مباشرة. وبالفعل، أعرب الرئيس أردوغان عن موقف تركيا بوضوح بقوله “لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا”.
لدى تركيا ورقة رابحة مهمة في متناول يدها، وهي مشروع طريق التنمية الذي يتم التفاوض حوله بكثافة بين تركيا والعراق.
“طريق التنمية”.. ما نوع هذا المشروع؟
إن مشروع طريق التنمية ليس مشروعًا جديدًا. على مر العصور، تمت ممارسة التجارة عبر نهري دجلة والفرات وروافدهما، وهو ما سماه العراق بـ “القناة الجافة”.
بدأ هذا المشروع يحظى باهتمام الرأي العام، بعد أن برز في لقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارته إلى تركيا في آذار/مارس 2023.
يستند هذا المشروع إلى بوابة “أوفاكوي” الحدودية المخطط افتتاحها بين تركيا والعراق. وقد أخذ الجانب العراقي فكرة البوابة الحدودية الجديدة هذه إلى المستوى التالي، مما أكسبها بعدا وطنيًا وحولها إلى مشروع ممر يعبر البلاد بأكملها من الشمال إلى الجنوب.
وقد رحبت تركيا بهذه الفكرة وبدأ البلدان المفاوضات حول تفاصيل المشروع، حتى أن تركيا نقلت المشروع إلى مرحلة أعلى من خلال منحه طابعًا إقليميًا.
يشتمل المشروع على مرحلتين أساسيتين:
تتضمن المرحلة الأولى إكمال ميناء الفاو في محافظة البصرة بالعراق. أما المرحلة الثانية فهي بناء خطوط سكك حديدية وطرق سريعة تمتد من الفاو إلى تركيا.
وبالفعل، تم وضع حجر الأساس لمشروع “ميناء الفاو الكبير” الذي لطالما كان يُنظر إليه على أنه “حلم” في سنة 2021 خلال فترة ولاية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وذلك رغم جميع الظروف السيئة والتناحرات السياسية في العراق. ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من الميناء في سنة 2025، بينما يُخطط لاستكمال مشروع “طريق التنمية” بشكل كامل بحلول سنة 2028.
مستقبل العراق: “ميناء الفاو الكبير”
يهدف ميناء الفاو الكبير إلى أن يكون أكبر ميناء في الشرق الأوسط، حيث يغطي مساحة تبلغ 54 كيلومتر مربع. والميزة الأخرى لهذا الميناء أنه سيكون أول ميناء بحري للعراق.
ونظرًا لأن الموانئ الأخرى في العراق تقع على المياه الداخلية، فإن هذا الميناء يُنظر إليه على أنه مستقبل العراق لأنه سيجعل البلاد جزءًا من التجارة الدولية.
تم بناء حاجز الأمواج لميناء الفاو الكبير بواسطة شركة دايو الكورية الجنوبية، ويبلغ طوله حوالي 14523 كيلومترًا، وهو أطول حاجز أمواج في العالم وحصل على لقب موسوعة غينيس للأرقام القياسية. وهذا يعطينا فكرة عن حجم الميناء والرؤية المستقبلية له.
ستنقل البضائع التي تصل إلى ميناء الفاو الكبير عبر الطرق والسكك الحديدية إلى تركيا. وبالفعل، توجد البنية التحتية اللازمة لهذه الخطوط في العراق. وحاليًا، هناك خط سكك حديدية يمتد من الموصل إلى الجنوب، وعلى الرغم من أنه قديم للغاية، إلا أنه قابل للاستخدام بكامل طاقته بعد التجديد.
ومن المقرر أن تصل مشاريع السكك الحديدية والطرق السريعة المعنية، بدءاً من البصرة إلى الحدود التركية مروراً بالناصرية والديوانية والنجف والحلة وكربلاء وبغداد وصلاح الدين (تكريت) وبيجي والموصل في العراق.
تغطية التكاليف ممكنة
من المتوقع أن تبلغ تكلفة هذه الخطوط، التي يبلغ طولها حوالي 1200 كيلومتر، حوالي 17 مليار دولار.
عند مراعاة الإمكانيات الاقتصادية لتركيا والعراق، وحجم التجارة البالغ حوالي 25 مليار دولار بين البلدين، يمكن القول بثقة إن إمكانيات أنقرة وبغداد تكفي لتنفيذ هذا المشروع. مع ذلك، تهدف تركيا بمنهجية منطقية إلى جعل المشروع متعدد الأطراف من خلال جلب الدعم السياسي والمالي من الدول المجاورة لتنفيذه، وتحقيق تعددية الأبعاد بدلاً من الهيكل الثنائي. وبذلك، يمكن فتح الآفاق أمام هذا المشروع ليصبح مشروعا دوليا.
وفي الواقع، أعرب الرئيس أردوغان عن دعم واهتمام قطر والإمارات العربية المتحدة لمشروع طريق التنمية. في هذه المرحلة، نظرًا لأن منطقة الخليج هي مركز خط عبور كل من الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا ومبادرة الحزام والطريق، فقد يكون هذا المشروع بديلًا أو مكملًا. يبدو أن مشروع طريق التنمية هو الأكثر ملاءمة والأكثر قربًا من التنفيذ من حيث النطاق والواقع الجغرافي مقارنة مع المشاريع الأخرى.
ميزات مشروع طريق التنمية
من الناحية الفعلية لنظام النقل، يمكن القول إن مشروع طريق التنمية هو الأكثر عملية وأقصر طريق مقارنة بالمشاريع الاخرى.
فعلى سبيل المثال، في مشروع الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا، يتوقع أن يمتد هذا الطريق عبر دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل واليونان، مع استخدام مسارات ووسائل نقل متعددة مثل النقل البحري والنقل السككي والنقل البري. وهذا يتطلب أيضًا تطوير لوائح وممارسات مختلفة، وإبرام اتفاقيات واسعة النطاق.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نقل البضائع من البحر إلى البر ثم مرة أخرى من البر إلى البحر ليس النهج الأكثر تفضيلًا في مجال النقل. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن مشروع طريق التنمية يوفر ميزة بالنسبة للمشاريع الأخرى، حيث يمكن للبضائع التي تصل إلى العراق عبر البحر الوصول إلى أوروبا مباشرة دون الحاجة إلى نقل متعدد. وهذا يقلل من التكلفة والزمن، مما يجعله أكثر تفضيلًا من المشاريع الأخرى.
العوائق التي تقف أمام طريق التنمية
بالطبع، لن يكون تنفيذ مشروع طريق التنمية سهلًا. ونظرًا لأن العراق هو البلد الرئيسي الذي سيتم تنفيذ المشروع فيه، فمن المهم أن ندرك أن هناك العديد من المشكلات التي لم يتم حلها بعد في العراق. فمثلًا، تشمل العقبات الرئيسية أمام مشروع طريق التنمية عدم الاستقرار السياسي في البلاد، ومشاكل إضفاء الطابع المؤسسي على الدولة، والمشكلات الأمنية.
ورغم وجود بعض الاستقرار من الناحية الأمنية في العراق مقارنة بالفترات السابقة، إلا أن القضايا لم تُحل بشكل كامل. ما زالت هناك هياكل صغيرة لتنظيم الدولة تعمل وتنشط في بعض المناطق، على الرغم من تقليل نطاق نشاطها.
كما أن وجود مجموعات الميليشيات يشكل أيضًا مخاطر أمنية من وقت لآخر، وخير مثال على ذلك الاشتباكات بين جماعة عصائب أهل الحق الشيعيّة الموالية لإيران والمتظاهرين الأكراد في كركوك. كما يمثل وجود تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي في المناطق الجبلية شمال العراق، وكذلك في المناطق السكنية مثل الموصل وكركوك وسنجار ومخمور، تهديدًا كبيرًا.
لا يزال العراق يعاني من مشاكل في هيكل الدولة. تؤدي صعوبات المشاركة الجماعية في تشكيل الحكومة العراقية إلى صعوبات في آلية صنع القرار داخل الدولة. من هذا المنطلق، حتى لو كان السوداني مصممًا على مشروع طريق التنمية، فقد يكون وجود مجموعات ذات ارتباطات خارجية مختلفة داخل الحكومة أمرًا معقدًا.
دعونا لا ننسى، أنه لا يزال هناك عدم اتفاق كامل بين أربيل وبغداد خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع الميزانية وإيرادات النفط، إذ هناك مسائل لم تُحل بعد يمكن أن تؤثر سلبًا على مشروع طريق التنمية. في هذه المرحلة، يمكن أن تؤدي العلاقات الجيدة بين تركيا وأربيل إلى حل مشاكل أربيل وبغداد، أو على الأقل منع تأثيرها على مشروع طريق التنمية نظرًا لأن تركيا تدعم التوافق والتعاون بين أربيل وبغداد.
تستند السياسة التركية تجاه العراق إلى الحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه. لذلك، في حالة تحقيق الشراكة بين أربيل وبغداد في مشروع طريق التنمية، فمن الممكن أيضًا دعم وحدة العراق وسلامة أراضيه.
وفي الوقت الحالي، تم إحراز تقدم في المحادثات والمفاوضات بين تركيا والعراق بشأن مشروع طريق التنمية. ودمج أربيل في الشراكة في المستقبل يمكن أن يساعد في حل المشكلات الداخلية في البلاد.
وعلى الرغم من جميع هذه المشاكل والتحديات، يعتبر مشروع طريق التنمية الخط الأقصر والأوضح من حيث الجغرافيا وإمكانيات العبور والموقع بين الشرق الأوسط وأوروبا. ومن الناحية التاريخية، يمكن رؤية أن هذا الخط هو طريق التجارة العراقية على مر القرون.
خط سكة حديد برلين-بغداد الجديد
يُذكرنا طريق التنمية بمشروع سكة حديد برلين – بغداد الذي تم تخطيطه في الفترة الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، والذي بدأ العمل عليه في أواخر القرن التاسع عشر. كان من المخطط أن يربط المشروع بين الخليج العربي عبر تركيا إلى أوروبا وألمانيا، مما يقضي على مساعي بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تعتبران من القوى العظمى في ذلك الوقت، في الشرق الأوسط.
كان من المأمول أن يمنح هذا المشروع ألمانيا تفوقًا على بريطانيا وفرنسا في السياسة في الشرق الأوسط وأوروبا. لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهزيمة ألمانيا في الحرب، وانهيار الدولة العثمانية، تحطمت الآمال في المشروع أيضًا. وفي الوقت الذي كان فيه المشروع في المناقشة، كانت أراضي العراق تحت سيطرة الدولة العثمانية، ولكن بعد الحرب العالمية الأولى، تم إنشاء دولة العراق تحت الانتداب البريطاني في هذه الأراضي التي تعرضت للغزو من قبل البريطانيين. وهكذا، تم وضع خط سكة حديد برلين-بغداد على الرف.
وفي الوقت الحالي، قد يكون من الممكن تحقيق هذا الحلم من خلال مشروع طريق التنمية، حتى لو لم يكن مشروع خط سكة حديد برلين-بغداد نفسه. فلماذا نبحث عن طرق معقدة وغير معروفة بينما يمكننا استخدام مسار تم اختباره بالفعل؟
المصدر: فكرتورو