ترجمة حفصة جودة
قبل 5 سنوات، كان جمال خاشقجي يمشي داخل السفارة السعودية بإسطنبول للحصول على وثائق مطلوبة لزواجه من خطيبته التركية، لكن الصحفي لم يخرج مرة أخرى، ففي داخل السفارة، تربص به فريق سعودي مكون من 15 شخصًا، حيث خنقوه حتى الموت وقطعوا جثته بمنشار العظام، ثم تسللت فرقة الموت خارج تركيا على متن طائرتين مملوكتين لصندوق الثروة السيادية السعودي.
منذ ذلك الحين، تمكن محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للبلاد – الذي ثبت وفقًا لمسؤولي المخابرات الأمريكية أنه اغتال خاشقجي – من إعادة تأهيل نظامه الاستبدادي بشكل شبه كامل.
التقى ابن سلمان بجو بايدن وإيمانويل ماكرون وغيرهما من قادة العالم، وجعل السعودية وجهة سفر سياحية عالمية، والآن يمضي في خطته لبناء “نيوم”، مدينته المستقبلية في الصحراء التي تصل تكلفتها إلى 500 مليار دولار.
أنفق الأمير أيضًا أكثر من 6 مليارات دولار على استثمارات في فرق كرة القدم ومسابقات الغولف وصفقات رياضية أخرى، وينفق أيضًا المزيد من المليارات على شركات التقنية في وادي السيليكون، كل ذلك جزء من جهوده لتبييض سجل حقوق الإنسان المشين للمملكة.
تستثمر إدارة بايدن أيضًا رأس مال سياسي هائل لإقناع ولي العهد بتوقيع اتفاقية سلام مع “إسرائيل” أشبه باتفاقات أبراهام التي توسطت فيها إدارة ترامب بين “إسرائيل” والإمارات والمغرب والبحرين.
في المقابل، يحاول السعوديون الانتفاع بأقصى قدر ممكن من بايدن: معاهدة دفاع مشتركة تضمن دفاع أمريكا عن السعودية إذا تعرضت لهجوم، ومساعدة المملكة في إطلاق برنامح نووي مدني.
كل ذلك بعيد كل البعد عما تعهد به بايدن في حملته الرئاسية بمعاملة الأمير محمد ونظامه معاملة “المنبوذين” لقتله خاشقجي وانتهاكه حقوق الإنسان.
لم يتردد ترامب وأفراد إدارته في دعم ولي العهد والنظام السعودي حتى حين تصاعد الغضب الدولي لمقتل خاشقجي.
كيف تمكن ولي العهد من تغيير وضعه بنجاح وتبييض سمعته خلال 5 سنوات من تلك الجريمة المروعة التي تستر عليها بطريقة صدمت العالم؟ باختصار، حصل الأمير على المساعدة من رئيسين مختلفين لأمريكا وهما ترامب وبايدن اللذان يتشاركان في النهاية نفس أولويات السياسة الخارجية التي تقاطعت مع جميع الإدارات الديمقراطية والجمهورية منذ عقود.
حتى عند تعهدهم باتخاذ طريق مختلف – مثلما فعل بايدن – في النهاية يفضل قادة أمريكا اتباع مصالحهم الاقتصادية والأمنية على مبادئ الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
على عكس بايدن، لم يتردد ترامب وأفراد إدارته في دعم ولي العهد والنظام السعودي حتى حين تصاعد الغضب الدولي لمقتل خاشقجي، ففي يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بعد 9 أيام من اختفاء خاشقجي في إسطنبول، سُئل ترامب في مكتبه بالبيت الأبيض إذا كان يفكر في إلغاء صفقة الأسلحة للسعودية التي تُقدر بمليارات الدولارات إذا ثبت تورط قادتها في عملية الاغتيال.
أجاب ترامب “هذا الأمر لا يعجبنا بالطبع، لكن من غير المقبول أن أمنع إنفاق 110 مليارات دولار على بلادي”.
بالنسبة لترامب، كان مقتل خاشقجي ضررًا جانبيًا مقبولًا، ومثلما بدا في تعليقات ترامب في ذلك الوقت، كان ذلك تفسيرًا صادقًا لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى عكس أسلافه، لم يكلف ترامب نفسه عناء إلقاء خطابات متغطرسة عن حقوق الإنسان والحرية السياسية للتغطية على عقود من الدعم العسكري الأمريكي للأنظمة القمعية مثل السعودية ومصر.
لقد توقف ترامب عن التظاهر بأن التحالف الأمريكي السعودي قد يكون أكثر من مجرد ترتيبات تجارية تتعلق باستقرار أسعار النفط العالمية والمصالح الأمنية المشتركة في الشرق الأوسط والتفاوض بشأن صفقات السلاح الكبرى.
تبنى بايدن نفس الخطاب الزائف لأسلافه، لكن الأمر انتهى بإدارته باسترضاء ولي العهد تمامًا مثلما فعل ترامب، فشل بايدن سريعًا في الوفاء بوعوده في أن تصبح السياسة الخارجية الأمريكية متعلقة بحماية حقوق الإنسان، وفشل في تعهده خلال حملته الرئاسية بمحاسبة قتلة خاشقجي.
هذا القرار أوحى إلى ولي العهد وأنصاره أن بايدن لن يفي بوعده الرئاسي بنبذ النظام السعودي، وشجع ذلك ولي العهد على مواصلة قمع المعارضة داخل البلاد وخارجها
في فبراير/شباط 2021، بعد شهر من توليه منصبه أوفى بايدن بوعد حملته ونشر تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي طال تأجيله، ويلقي باللوم مباشرة على ابن سلمان في مقتل خاشقجي، حيث أشار التقرير إلى أنه “منذ 2017 أصبح لابن سلمان سيطرة كاملة على المنظمات الأمنية والاستخبارية في المملكة، ومن غير المرجح تمامًا أن ينفذ المسؤولون السعوديون بأي عملية كهذه دون تصريحه”.
قال التقرير أيضًا إن 7 من أفراد قوة التدخل السريع – وهي وحدة نخبة تحمي ولي العهد وتتواصل معه مباشرةً – كانوا ضمن الفريق السعودي الذي اغتال خاشقجي في إسطنبول.
رغم تلك الأدلة، لم يعاقب بايدن ولي العهد بفرض حظر للسفر أو أي عقوبات، هذا القرار أوحى إلى ولي العهد وأنصاره أن بايدن لن يفي بوعده الرئاسي بنبذ النظام السعودي، وشجع ذلك ولي العهد على مواصلة قمع المعارضة داخل البلاد وخارجها.
وبعد إعادة النظر في مبيعات الأسلحة في البداية للسعودية بسبب ارتفاع الخسائر بين المدنيين في حرب اليمن، في منتصف 2022 استأنفت إدارة بايدن مبيعات الأسلحة والدعم العسكري للسعودية الذي يقدر بمليارات الدولارات.
في الحقيقة، بين عامي 2018 و2022، سُجلت السعودية كثاني أكبر دولة مستوردة للسلاح في العالم، حيث تزود أمريكا المملكة بنحو 78% من أسلحتها وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
لكن الأمير لم يكن راضيًا عن التهرب من المساءلة بشأن مقتل خاشقجي واستئناف صفقات السلام، لقد أراد إحراج بايدن والكشف عن نفوذه على أسواق النفط العالمية، فبعد أن غزا بوتين أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 واضطراب أسواق النفط العالمية، استغل ولي العهد الفرصة للضغط على بايدن ليتوسل إليه لخفض أسعار البنزين للمستهلكين الأمريكيين.
بفضل ترامب وبايدن، نجح ولي العهد في الهروب من المساءلة على جريمته وأصبح أكثر جرأة من أي وقت مضى
في يوليو/تموز 2022، سافر بايدن إلى السعودية لمقابلة الأمير في منزله – وهو انتصار كبير بعد العزلة الأولية التي تلت مقتل خاشقجي – سلّم بايدن على الأمير بقبضته، الذي بدا سعيدًا بدوره الجديد كوسيط للقوى الدولية.
قال البيت الأبيض إن بايدن أثار قضية اغتيال خاشقجي مع ولي العهد في أثناء لقائه، ولاقى التزامًا يتعلق بالإصلاحات والضمانات المؤسسية للحماية من القيام بمثل هذا الفعل في المستقبل.
ولإظهار أن الأمير لن يخضع لتوسلات بايدن الغامضة باحترام المعارضة، أصدرت المحاكم السعودية حكمًا وحشيًا بالسجن على سيدتين سعوديتين بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
ثم في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبينما كان العالم يستعد لارتفاع أسعار النفط بسبب الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على النفط الروسي، قررت منظمة “أوبك بلس” بقيادة السعودية خفض الإنتاج بمعدل مليوني برميل في اليوم، وهو عكس ما ناشدت به إدارة بايدن السعودية.
بعد صدمتهم من هذا الإعلان المحرج، الذي يهدد بارتفاع أسعار الغاز قبيل الانتخابات النصفية الأمريكية، تعهد بايدن قائلًا: “سيكون هناك عواقب لذلك”، لكن بعد عدة أشهر تغاضت الإدارة الأمريكية عن ادعائها بإخضاع ولي العهد ونظامه للمحاسبة.
استأنف بايدن ومساعدوه أعمالهم كالعادة رغم أن السعوديين فشلوا في الالتزام باتفاقهم السياسي طويل المدى مع القادة الأمريكيين المتعاقبين وهو: ضمان توفير إمدادات عالمية ثابتة للنفط.
لم يقم ابن سلمان بإذلال بايدن فقط، لكنه ظهر في موقف أقوى اليوم، وأصبح لديه الكثير من القادة الدوليين الذين يتطلعون لإرضائه والفوز بالاستثمارات السعودية أكثر مما كان عليه الوضع قبل 5 سنوات عندما أمر باغتيال خاشقجي، بفضل ترامب وبايدن، نجح ولي العهد في الهروب من المساءلة على جريمته وأصبح أكثر جرأة من أي وقت مضى.
المصدر: الغارديان