هذا حديث في الاحتمالات المهدرة فهو إلى الرثاء أقرب منه إلى الاستشراف بل لعله يكشف طريقا مسدودة نحو المستقبل لم تسدّها إلا الروح التكفيرية المهيمنة على تفكير النخب العربية من كل التيارات الفكرية والسياسية وأعني هنا اليسار العربي بكل مسمياته والقوميون العرب بكل تفريعاتهم والإسلاميون وخاصة منهم التيارات ذات المنشأ الإخواني التي تعلن نوايا مدنية ولم تمسك بجرم العنف منذ نشأتها. أما الذين ولدوا تكفيريين بالنص والكلاشنكوف فلا مجال لاحتسابهم ضمن النخب التي يعوّل عليها.
لقد أهدروا ثورة كبيرة لأنهم يكفرون بعضهم بعضا وإن بغير آية أو حديث. بل إنهم ضحّوا بأوطان وشعوب من أجل التمسك بنقاء أفكارهم أن يشوّهها أعداءهم الأيديولوجيون وأنكروا كل خطاب يقرّب بينهم وهم تحت قصف الأنظمة ثم وهم في مكان أملت فيه الشعوب أن تقاد من نخبها فخذلت النخب شعوبها فاعتلاهم العسكر واللصوص جميعا وهم يتسابقون من يقدم رقبته للصوص أولا.
جميعهم تكفيريون وإن ألحد بعضهم
التكفير هنا ليس الرجم بنكران وجود الله أو النعت بعصيانه عصيانا مذهبا للإيمان والتصديق بل هو تكفير أرضي بغير نص سوى الكفر بالآخر الشريك الوطني رغم كل شيء. بنية التفكير عند التيارات الإيديولوجية واحدة، والانطلاق من الاعتقاد الجازم بتملّك الحقيقة. الإسلاميون يصبغون عليها قداسة دينية واليسار يضفي عليها قداسة علمية والقوميون عوان بين ذلك فهم دينيون وعلميون يكفرون مرتين. كلّ يظن أن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ ويتصرف على أن الآخرين خطأ يجب محوه دون منحه حق النقض. لقد فكّروا دوما بهذه الطريقة. وهم يتخيّلون مستقبل بلدانهم دون الشريك الكافر. أو يضعون خططا لقيادة شعوبهم بعد تطهيرها من الكفار.
لقد منعهم هذ التفكير الاقصائي من التوحد ضد الدكتاتوريات التي حكمت بلدانهم. بل إن القوميين كانوا حكاما يقصون بالفكر التكفيري وبالسلطة العسكرية الغاشمة خصميهما الأيديولوجيين في العراق وفي مصر وفي ليبيا. ومارس الإسلاميون ذلك أيضا في السودان. وكان لفرقتهم هذه طيب الأثر على بقاء الدكتاتورية واستمرار التخلف والجهل مسيطرين على الرقعة العربية.
مارس كل تيار من الثلاثة التخوين والرجم بالعمالة للإمبريالية وقد بلغت بهم الفرقة أن يتظاهروا متفرقين من أجل القضية الأم قضية.. فلسطين
مارس كل تيار من الثلاثة التخوين والرجم بالعمالة للإمبريالية وقد بلغت بهم الفرقة أن يتظاهروا متفرقين من أجل القضية الأم قضية فلسطين ولا يزالون مختلفين في سبل تحرير الأرض فيما العدو يقضمها قطعة إثر قطعة ويجلي أهلها عنها وهم ينظرون. فلما أدركتهم ثورة لم يقودوها خربوها بفرقتهم وأعادوا الدكتاتوريات إلى مكانها وهم يبكون الآن خيبتهم ولا يجرؤ أحدهم على نقد موقفه من الآخرين ونجزم أن لو قامت ثورة أخرى سيخربونها لكي يستعيدوا لذة البكاء عليها ولا يتفقون. لأنهم يعرفون كما نعرف أن في الاتفاق وفاتهم وخسرانهم للغنائم القليلة التي تجلبها الفرقة من فضلة السلطة.
الحالة التونسية نموذجًا مثاليًا للفرقة الأيديولوجية المدمرة
يمكن أخذ الحالة التونسية نموذجا لهذه الفرقة بين التيارات الأيديولوجية، فقد فقدت الثورة بريقها بسبب الخصومة بين اليسار والقوميين من جهة وبين الإسلاميين من جهة ثانية. وها هي المنظومة القديمة تعود وتتربع وتعبث بالشهداء وبمصير الثورة وتخرب البلد فوق رؤوس الجميع حتى صار قول الناس ليت الدكتاتورية لم تذهب.
صار من المعروف أن الثورة انطلقت في تونس من خارج هذه التيارات الثلاث وإن كانت قواعدهم الحزبية في الشارع مع المنتفضين دون أن تقودهم. حتى وصلت الثورة إلى العاصمة وقطفت رأس السلطة ثم تواصلت إلى اعتصامي القصبة 1 و 2 حينها كان اليسار (عبر النقابة خاصة) وكانت زعامات قومية في مقدمة الصفوف فيما كان الإسلاميون يتجمعون في الخلف خارجين من سجونهم وعائدين من منافيهم.
طرح اليسار برنامج إسقاط دستور 59 وعقد هيئة تأسيسية وسار الجميع على ذلك بمن فيهم الإسلاميين دون اعتراض لكن في لحظة تبين أن المسار التأسيسي سيفتح باب الانتخاب فعاد التنافي ليحكم علاقة اليسار والإسلاميين من جديد ولم تكن مناورات 2011 (هيئة بن عاشور تحت حكومة الباجي الانتقالية) إلا مناورات متلاحقة لتعطيل وصول الإسلاميين إلى السلطة. رغم ذلك وصل الإسلاميون إلى السلطة. فبدأ العمل المضني للإجهاز عليهم ولكن النتيجة مكشوفة الآن لقد أجهز على برنامج الثورة رغم أن المرحلة قد أنتجت الدستور الجديد المجمع عليه حتى حين.
لحظة الثورة ظن الجميع أن الصراع الأيديولوجي قد صار وراء التونسيين وأن نخبتهم بكل تياراتها متفقة على مشروع كبير للمستقبل لا يلغي التنافس لكنه ينهى الصراع المزيف بين شركاء الوطن. وكتبنا كثيرا عن أن المنحدرات الاجتماعية لمكوّنات التيارات الثلاثة واحدة وبتحليل مادي بسيط هم فئة اجتماعية واحدة صعدت اجتماعيا بالمدرسة والتعليم العام من أسفل السّلم الاجتماعي المفقر.
أعلن اليسار التونسي قطع الطريق على الإسلاميين فقطع الطريق على نفسه أولا وعلى الثورة ثانيا وتربعت المنظومة بفضله من جديد على رقاب الناس
لكن التحليل المادي اصطدم بحالة فريدة من نوعها في تونس الفقراء يختصمون لصالح الطبقات البرجوازية وطنييها وعمليها من أجل التنافي الأيديولوجي والثقافي والسلطة العائدة (وهي سلطة طبقة فاسدة ومفسدة) كانت تعرف وتراقب ثم تتدخل فتستغل الفرقة فتموّل اليسار خاصة الذي نظم اعتصام إسقاط حكومة الإسلاميين وشركائهم ليجدوا أنفسهم جميعا ومن جديد في وضع التبعية للمنظومة القديمة الفاسدة. لقد أعلن اليسار قطع الطريق على الإسلاميين فقطع الطريق على نفسه أولا وعلى الثورة ثانيا وتربعت المنظومة بفضله من جديد على رقاب الناس.
ولينجو الإسلاميون المهزومون الخائفون من المذابح (ومذابحهم تورط فيها اليسار إلى الأذقان طيلة حقبة بن علي خاصة) فانهم اختاروا التحالف مع ممثل المنظومة القديمة وبرروا الأمر بأنهم مضطرون لكسر التحالف التاريخي بين اليسار والمنظومة وهكذا انتصرت المنظومة وانهزم الجميع ونحن الآن هنا ننظر فنرى عجب الفكر التكفيري كيف يؤدي بنفسه وبثورته ويسلم البلد لمن خربه طيلة 60 عاما.
نظرية المؤامرة تنقذ الفكر التكفيري
على صعيد آخر ومن نفس المنظور التكفيري استعاد اليسار عامة والتيار القومي خاصة نظرية المؤامرة فبعد أن كانت فصائل قومية ويسارية في مقدمة الثورة وتقدمت للانتخابات معتبرة إياها نتيجة طبيعية للمسار الثوري انقلبت على عقبيها معتبرة الثورة مؤامرة خارجية قادها حلف رجعي صهيوني لمصلحة التيارات الإسلامية لتمكينها من السلطة لتفتيت حال الأمة وإنهاء القضية الفلسطينية إلى آخر محفوظات صوت العرب.
من أجل دحض المؤامرة الإمبريالية الموجهة لصالح الإسلاميين، وجب الوقوف مع العسكر المصري ضد الإخوان المسلمين ووجب الوقوف مع نظام الأسد ومع شخصه بالذات باعتباره” آخر حصن ممانع ومقاوم”
من أجل دحض المؤامرة الإمبريالية الموجهة لصالح الإسلاميين وجب الوقوف مع العسكر المصري ضد الإخوان المسلمين ووجب الوقوف مع نظام الأسد ومع شخصه بالذات باعتباره آخر حصن ممانع ومقاوم. النتائج على الأرض غير متوافقة مع الشعارات(المعادية للإمبريالية) لكن هذا غير مهم فالمرغوب حصل لدى التيارات القومية لقد أعدم الإخوان المسلمون ومنعوا من الحكم. وكل وضع غير ذلك يمكن تبريره حتى بنصف مليون قتيل في سوريا.
لقد تابعنا خلال سنوات الثورة العربية المواقف العجب فقد تحول موقف التيار القومي بمن فيهم البعث العراقي من دولة إيران من العداء إلى المحبة وتحول موقفهم من الزيدية (في اليمن من الحرب عليهم إلى الحرب معهم). الثابت الوحيد أن لا يكون على الخريطة العربية تيار حكم اسمه الإسلام السياسي مهما كانت قوته أو فكره. والنتيجة لقد عدنا إلى ما قبل الربيع العربي وتبخرت آمال كثيرة في التغيير السياسي وبناء الديمقراطية.
الإسلاميون ليسوا أبرياء
لا يحمل الإسلاميون بقية التيارات السياسية في قلوبهم فهم يناصبون بقية التيارات العداء والتكفير السياسي ورغم أن تصرفهم السياسي جاء في غالبه تحت تأثير إحساسهم بالاضطهاد من قبل القوميين واليسار خاصة في مصر وتونس وسوريا إلا أن مناوراتهم أثناء العام اليتيم للديمقراطية مع التيار السلفي الوهابي بشقه الدعوي (مثل حزب النور المصري) وبشقه الإرهابي (داعش) كسر الثقة في العمل معهم نحو المستقبل.
وقد خسروا خسرانا مبينا نتيجة عدم الحسم مع هذا التيار. منذ البداية لكن علاج ذلك لم يكن بالانقلاب عليهم عسكريا أو قطع الطريق عليهم بالتحالف مع الأنظمة السابقة. فالنتيجة الكارثية على الجميع. فالعسكر المصري خرّب مصر وأقصى الجميع وأولهم التيار القومي الذي برر له. فضلا عن تخريبه لكل مكتسبات النضال الفلسطيني في غزة. كما أن التحالف والتعاون مع التيار التكفيري انكشف في لبيبا فممثل القومية العربية حفتر الليبي يقاتل مستعينا بداعش ولا يتورع عن كل السفالات من أجل هدم تجربة التغيير في ليبيا التي يمكن أن تمنح الإخوان المسلمين فرصة حكم ولو ضئيلة.
الأمل الأخير
لا أمل في الحقيقة. فالوقائع على الأرض تكشف أن التقاء هذه التيارات الثلاث وتحاورها وبناء الثقة بينها من أجل تغيير حقيقي وجذري ينهي حقب الدكتاتورية والفساد مستحيل.
لا أحد من زعامات هذه التيارات السياسية أو الفكرية يطرح احتمالات هذا اللقاء بل التنافي المتبادل هو سيد الموقف والحسم بينها يتجه إلى الاحتراب لا إلى التصالح والتعاون. وإذا قدر لأحدها أن يعود إلى السلطة وهو مستحيل(في المدى المنظور) فإنه سيقوم حتما بقمع البقية ومحوها سياسيا بما يؤبد وضع الدكتاتورية وإن تغير رأسها. وفي كل الأحوال، فإن فرقة هذه التيارات تمكّن فقط لمنظومات الحكم السابقة نظام العسكر المصري ونظام الفساد في تونس أو علي صالح في اليمن ولن يمكن لنظام الأسد أن يحكم سوريا مستقبلا مهما كانت قوة حلفائه.
إننا نشهد وضعية انهيار تتوسع ونشهد شعوبا ترتد إلى وضع الذّلة والقهر وأوطانا تخرب وثروات تهدر لأن النخب الأيديولوجية عاجزة عن الارتقاء فوق خلافاتها التقليدية الموروثة من عهد الأيديولوجيا.
اللّوحة سوداء والمستقبل غامض ولكن الأمل المتبقي أن الفرقة ستقضي على أصحابها قبل الآخرين وأن الشعوب لن تعقم ولن تعدم حيلا لاستبدالها بنخب أخرى تتربى الآن رغم القهر على أن الحوار الفكري والسياسي ضرورة لا رفاه نخبوي
متى يكون ذلك وكيف وبأية وسيلة وحدهم الصابرون سيشهدون نهاية الأيديولوجيات التكفيرية وحتى ذلك الحين لا يمكن الكتابة بشكل متفائل عن مستقبل الدمقراطية والتقدم في الوطن العربي فالتكفير سيد الموقف.