جثثٌ تحت الأنقاض، وأشلاءٌ تملأ الطرقات، وأناس حفاة عراة يركضون في كل اتجاه من هول قصفٍ لم يتوقّف للحظة؛ ولم يفرّق بين مدنيٍ أو مسلّح، هنا أمّ تبكي وتنتحب، وهناك رجلٌ يدفعُ عربةً صغيرةً مغطاة بكومة قماش، يسأله صحفي: ماذا بداخلها؟ يرد ببساطة: “إنها جثة ابني”، هكذا هو المشهد في مدينة الموصل.
المدنيون في مختلف أصقاع الأرض كانوا ومازالوا ضحية الصراعات الدائرة وحروب الوكالة وتجار الحروب من كافة الأطراف، وقدرُ أهل الموصل أن تكون الدائرة عليهم اليوم، فعناصر تنظيم داعش لا يسمحون لهم بمغادرة المناطق الخاضعة لسيطرتهم نحو المناطق التي سيطرت عليها القوات العراقية، ومن يحاول الهرب يكون الموت مصيره المحتوم، وسياراتهم المفخخة التي يفجّرونها وسط الأحياء السكنية فتكت بأرواح لا حصر لها، وفي المقابل؛ القصف الجوي والمدفعي على الأحياء التي يسيطر عليها التنظيم لم يفرّق بين مدني أو داعشي.
هناك مئات الآلاف من المدنيين لازالوا محاصرين في الأحياء الخاضعة لسيطرة داعش، يجب على الجميع – خصوصاً المنظمات الإنسانية – التحرّك سريعاً والضغط باتجاه الحفاظ على أرواحهم
ونتيجة لذلك، امتلأت مواقع التواصل الإجتماعي في الأيام الأخيرة بمناشدات واستغاثات أطلقها مدنيون، إما لانقاذ ذويهم المحاصرين أو لانتشال جثثهم من تحت الأنقاض، ولعلّ نداء مدير بلدية الموصل (عبد الستار الحبّو) يلخّص مأساوية الوضع هناك، فالحبّو طلب قبل يومين آلياتٍ لانتشال قرابة 150 جثة دفنها القصف تحت أنقاض منازلها في منطقة “موصل الجديدة”، دخلت الآليات؛ لكن عملية استخراجها انتهت قبل أن تبدأ؛ بسبب استهداف قناصة تنظيم داعش لفرق الإنقاذ.
صحيحٌ أننا نريد إخراج تنظيم داعش من الموصل وتحرير أهلها من قبضته، لكننا لا نريده قطعاً باستخدام أساليب تشبه تلك التي استخدمتها القوات الروسية في غروزني شتاء 1999 – 2000م، فقد كانت استراتيجية موسكو لطرد نحو 7.000 من الثوار الشيشان من غروزني، التي كانت ذات مرة مدينة يسكنها 250.000 شخص، هي قصف المكان كله وإرساله إلى غياهب النسيان.
فقد بات واضحاً أن المرحلة الثانية والأخيرة من تحرير الموصل لم يُرَدْ لها أن تكون كالمرحلة الأولى من حيث الحفاظ على أرواح الناس وممتلكاتهم، وهذا الأمر يبدو جليّاً من خلال اتّباع سياسة الأرض المحروقة، فالقصف العنيف لم يستثنِ بشراً ولم يُبقِ حجراً على حجر في هذه المدينة التأريخية التي ضربت في الجذور حضارة وتاريخاً وازدهاراً، وامتطت على مر سنينها ظهر العصور، وحوّل أحياءً كاملة فيها إلى كتلة من الأنقاض دُفن تحتها مئات المدنيين.
قصف عشوائي من القوات العراقية للأحياء القديمة لمدينة الموصل ذات الكثافة السكانية
ورغم كل هذه المآسي، إلا أن التفاعل على المستوى المحلي والدولي لم يرقَ لمستوى بشاعة ما يتعرّض له المدنيون هناك، ربما يكون السبب هو أننا أصبحنا مخدّرين أمام هذا الفيض المستمر من الأخبار المروعة، بما فيها الأخبار عن أكثر من 300 مدنياً قتلهم القصف في اليومين الماضيين فقط، وربما يكون السبب هو أن دماء الموصليين ليست باريسية أو لندنية كي تستدعي التحرّك، وربما الإثنين معاً!
حتى اللحظة؛ هناك مئات الآلاف من المدنيين لازالوا محاصرين في الأحياء الخاضعة لسيطرة داعش، يجب على الجميع – خصوصاً المنظمات الإنسانية – التحرّك سريعاً والضغط باتجاه الحفاظ على أرواحهم، فما يجري اليوم هو إسقاط كميات لا حصر لها من الذخائر على الأحياء دون أدنى حرص على حياة الأبرياء.