تحت عنوان: “علاقات المملكة المتحدة بتركيا“، أصدرت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، فجر اليوم السبت، تقريرًا تناول العلاقات بين تركيا وبريطانيا، والدور المحوري الذي تقوم به أنقرة في تحقيق الاستقرار في المنطقة بصورة عامة، داعيًا الحكومة اللندنية إلى تفعيل خطوات توثيق التعاون بين البلدين.
التقرير جاء بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، لأنطاليا للمشاركة في منتدى “اللسان العذب” التركي ـ البريطاني في نسخته السادسة، وبعد ساعات قليلة من لقاءه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أول أمس الخميس، والذي استمر قرابة ساعة و15 دقيقة، بعيدًا عن أعين وسائل الإعلام المختلفة، ثم الاجتماع بعدها مع رئيس الوزراء بن علي يلدريم.
التقرير البرلماني البريطاني الايجابي في معظمه تجاه أنقرة، والاجتماعات التشاورية بين جونسون من جهة وأردوغان ويلدريم من جهة أخرى، فرضت العديد من التساؤلات حول مؤشرات التقارب بين الجانبين التي تشير إليها تلك الدلالات، وهل يعد توقيت هذا التقارب علامة استفهام أيضًا خاصة في ظل ماتشهده العلاقات بين أنقره والعواصم الأوروبية من توتر خلال الأيام الماضية؟ وماذا يمكن أن تجنيه كل من بريطانيا وتركيا جرًاء هذا التقارب؟
أنقرة شريك دولي وقوة اقليمية
التقرير الذي جاء في 79 صفحة، وأعدته لجنة مكونة من 11 نائبا من بينهم 6 من حزب المحافظين الحاكم، و4 من حزب العمال المعارض، وبرلماني من حزب الاستقلال الاسكتلندي، استند في كثير من فقراته إلى التحقيقات التي أجرتها لندن بشأن محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا منتصف يوليو الماضي، مبينًا أن المحاولة كانت تستهدف منظومة الديمقراطية التركية في المقام الأول.
التقرير في مجمله يعد بمثابة توصية واضحة للحكومة البريطانية بشأن العلاقات مع تركيا، وضرورة أن تعيد لندن النظر فيها بصورة ترفع منسوب التعاون المشترك في العديد من المجالات
وانطلاقًا من النتائج التي خلصت إليه تحقيقات اللجنة أشار التقرير إلى أهمية أنقرة كشريك دولي لبريطانيا، معتبرًا أن “تركيا تعد قوة إقليمية ذات أهمية مركزية”، مشددًا على أن “القرارات التي تتخذها أنقرة ستحدد مصير المنطقة”، وموضحًا أن “الدور التركي هام لضمان استقرار المنطقة”، في ظل الجهود المبذولة لمكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي، ومسألة اللاجئين.
التقرير تضمن أيضًا موافقه ضمنية مع ما ذهبت إليه أنقرة بشأن تورط منظمة “فتح الله جولن” في محاولة الانقلاب، مشيرًا إلى أن وزارة الخارجية البريطانية “مؤمنة بما تقوله تركيا بخصوص علاقة منظمة “فتح الله جولن” بمحاولة الانقلاب، إلا أنها لا تمتلك معلومات كافية بخصوص المنظمة ذاتها”.
كما تطرق أيضًا إلى الموقف الرسمي البريطاني من محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث ذكر أن “الدعم السريع الذي قدمته وزارة الخارجية البريطانية لتركيا عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، ساهم في خلق انطباع لدى أنقرة بأن بريطانيا حليف وصديق مقرب لها”، وهو ما يدفع إلى مزيد من التعاون الاستراتيجي بين الجانبين لاسيما في مجالات التجارة والصناعات الدفاعية والأمن.
التقرير في مجمله يعد بمثابة توصية واضحة للحكومة البريطانية بشأن العلاقات مع تركيا، وضرورة أن تعيد لندن النظر فيها بصورة ترفع منسوب التعاون المشترك في العديد من المجالات، خاصة في ظل ما تمثله أنقرة من مكانة إقليمية متميزة فضلا عما تتمتع به من شبكة علاقات وتحالفات أهلتها لأن تكون أحد أبرز اللاعبين المؤثرين في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تحتاج إليه بريطانيا كما سيرد لاحقًا، في الوقت الذي تشهد فيه العلاقة بين أنقرة وأوروبا حالة من التوتر الشديد.
البرلمان البريطاني يقر بتورط منظمة “فتح الله جولن” في محاولة الإنقلاب الفاشلة
التوتر بين تركيا والغرب
بالرغم من العلاقات المتأرجحة ما بين تركيا ودول أوروبا خلال السنوات الماضية بسبب تباين المواقف بشأن انضمام أنقرة للإتحاد الأوروبي، إلا أنه وفي الأسابيع الأخيرة دخلت العلاقات بين الجانبين نفقَا مظلمًا، وذلك حين ألغت هولندا تصريح هبوط طائرة وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو، على أراضيها، ورفضت دخول وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية إلى مقرّ قنصلية بلادها في روتردام، للمشاركة في إحدى الفعاليات المخصصة لدعم التعديلات الدستورية المقرر إجراء الاستفتاء عليها الشهر القادم، ثمّ أبعدتها إلى ألمانيا.
وبعد هولندا شهدت العلاقات مع ألمانيا توترًا جديدًا على خلفية منع بعض المدن الألمانية إقامة فعاليات للجالية التركية لدعم التعديلات الدستورية، وهو مادفع الرئيس أردوغان إلى وصف ألمانيا بأنها لجأت إلى “ممارسات نازية” وهو ما أثار حفيظة بعض المسئولين الألمان مطالبين بإعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة مع تركيا.
ومن الواضح أن الموقف الهولندي كان جزءًا من تحرك أوروبي مشترك يهدف إلى التصعيد مع الجانب التركي، فالمواجهة تحوّلت من ثنائية بين تركيا وهولندا أو تركيا وألمانيا، إلى مواجهة تركية – أوروبية بعد الإصطفاف الأوروبي الواضح في وجه تركيا، وبعد التصريحات والمواقف الكثيرة التي أطلقتها القيادات السياسية التركية في مقابل التصريحات الأوروبية.
التوتر الملحوظ في العلاقات بين أنقره والعواصم الأوروبية لابد وأن سيلقي بظلاله على المشهد التركي لاسيما فيما يتعلق بتحالفاتها الإقليمية والدولية، وهو ما دفع أنقرة لتبني بعض ردود الفعل التي ربما تعيد تشكيل خارطة العلاقات التركية الخارجية مرة أخرى.
الموقف الهولندي كان جزءًا من تحرك أوروبي مشترك يهدف إلى التصعيد مع الجانب التركي، فالمواجهة تحوّلت من ثنائية بين تركيا وهولندا أو تركيا وألمانيا، إلى مواجهة تركية – أوروبية
البحث عن تحالفات جديدة
بعد تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا، ومع زيادة وتيرة الحملات العدائية ضد الإسلام والمسلمين والمهاجرين واللاجئين، وما تمخض عنها من صدام دبلوماسي وشعبي وإعلامي بين أنقرة وبعض العواصم الأوروبية الأخرى، استقر في يقين تركيا أن مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي باتت مسألة صعبة للغاية، وأن تقديم المزيد من التنازلات للحصول على هذه العضوية ماعاد مجديًا.
ومن ثم باتت أنقرة تفكر في خيارات وبدائل أخرى فيما يتعلق بعلاقاتها الإقليمية والدولية، وهو ما تجسد في توثيق العلاقات مع روسيا خلال لقاء أرودغان مؤخرًا بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، كذلك مساعي تعميق العلاقات مع الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب، إضافة إلى الحلفاء التقليديين في دول الخليج العربي.
التوتر الواضح في العلاقات بين تركيا وأوروبا وما نجم عنه من مساعي للبحث عن بدائل إقليمية ودولية في التحالفات الخارجية التركية لا يعني أبدًا أن هناك رغبة لدى أنقرة في إحداث القطيعة التامة مع دول القارة العجوز، إذ أن العلاقات بينهما علاقات تاريخية وممتدة، إضافة إلى العديد من اتفاقيات التعاون المشترك ما يجعل هناك رغبة حقيقة لدى أنقره في أن تحتفظ بشريك أو حليف لها داخل القارة، ومن ثم كانت بريطانيا.
الرئيس فلاديمير بوتين خلال استقباله نظيره رجب طيب أرودغان بالكريملين
لماذا تسعى لندن للتقارب مع أنقرة الآن؟
مساعي لندن نحو التقارب مع أنقره بحسب بعض المؤشرات التي على رأسها التقرير سالف الذكر الصادر عن لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني، والذي يحث على توثيق العلاقات مع تركيا خلال الفترة القادمة، يأتي في وقت حساس بالنسبة للبريطانيين.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما تبعه من هجوم من قبل بعض العواصم المجاورة على هذه الخطوة والتحذير من تبعاتها، دفع لندن إلى البحث عن حلفاء جدد في محاولة للحفاظ على دورها الإقليمي والدولي، وبما يقلل من الخسائر التي من الممكن أن تترتب على خروجها رسميًا من التحالف، وهو ما حثها على التوجه نحو بعض القوى في الشرق والغرب على حد سواء.
أمريكيًا.. سعت لندن إلى توثيق علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية وإدارتها الجديدة بزعامة ترامب في الوقت الذي تشهد فيه دول أوروبا حالة من الترقب والقلق حيال البيت الأبيض عقب التصريحات غير الجيدة بوصف المسئولين الأوروبيين الصادرة عن الرئيس الأمريكي الجديد لاسيما حيال حلف “الناتو” وبعض دول أوروبا.
وفي نهاية يناير الماضي ألتقت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، لبحث سبل التعاون المشترك بين البلدين، مشيرة أنها “مقتنعة بأن اتفاقا تجاريا بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سيحقق المصالح الوطنية للبلدين”، ومؤكدة على عمق العلاقات بين الجانبين، موجهة دعوة لترامب وزوجته لزيارة لندن خلال الفترة القادمة.
الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وما تبعه من هجوم من قبل بعض العواصم المجاورة على هذه الخطوة والتحذير من تبعاتها، دفع لندن إلى البحث عن حلفاء جدد في محاولة للحفاظ على دورها الإقليمي والدولي
أما الرئيس الأمريكي “فتعهد دائما بدعم العلاقة الخاصة مع المملكة المتحدة”، قائلا إن “العلاقة الخاصة بين البلدين أحد أعظم القوى في التاريخ من أجل تحقيق العدالة والسلام. واليوم الولايات المتحدة تجدد علاقاتها الوطيدة والعميقة مع بريطانيا سواء على المستوى العسكري أو المالي أو الثقافي أو السياسي. نتعهد بتقديم الدعم وبشكل دائم لهذه العلاقة الخاصة جدا”.
تيريزا ماي خلال مشاركتها في القمة الخليجية بالمنامة ديسمبر الماضي
خليجيًا.. نجحت بريطانيا في إحياء دورها الشرق الأوسطي من جديد من خلال السعي إلى تقريب وجهات النظر مع حلفائها الخليجيين في المنطقة، وهو ما تجسد في حضور رئيسة الوزراء القمة الخليجية التي عقدت في العاصمة البحرينية المنامة ديسمبر الماضي.
حضور تيريزا ماي للقمة الخليجية كان له صدى واسع النطاق إقليميًا، إذ ياتي في إطار التطورات التي شهدتها الخارجية البريطانية مؤخرًا، وهو ما أكدته رئيسة وزراء بريطانيا بقولها: “إنها تريد فتح فصل جديد من التعاون مع دول الخليج في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
ومن هذا المنطلق تأتي خطوات لندن نحو توثيق علاقاتها بتركيا في إطار مساعي كلا من الدولتين للبحث عن حليف قوي بديل، في الوقت الذي تعاني فيه الدولتان من توتر في العلاقات الإقليمية، فأنقره تبحث عن شريك يعوضها صعوبة الانضمام للإتحاد الأوروبي لاسيما بعد تصاعد التوتر مؤخرًا، كما أن لندن بحاجة ماسة لأنقرة لإحياء دورها الإقليمي مجددًا، إذ أن المصالح هي البوصلة التي تحدد توجه الدول على الصعيد الخارجي.. فهل تشهد الساحة الدولية تحالفًا من نوع جديد على رأسه تركيا وبريطانيا؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.