على ساحل البحر الأبيض المتوسط في أقصى غرب البلاد، وعلى مقربة من جبل مرجاجو وعلى ضفتي خور واد رأس العين، تقع مدينة الأسود، وهران الجزائرية، التي خطفت العقول وسلبت القلوب بجمالها وسحر طبيعتها وعمرانها وأغانيها التي وصلت أذان العالم عبر شبابها، “رائحة المدن” تحطّ الراحلة هذا الأسبوع في هذا المدينة التي اعتاد أهلها أن يطلقوا عليها اسم “الباهية” لبهاوتها وطيب أهلها.
وهران .. مدينة الحضارات
وهران مدينة مرتفعة تدير ظهرها للبحر، كما قال عنها الكاتب الفرنسي ألبير كامو، سميت بهذا الاسم نسبت لأسود الأطلس التي كانت تسكنها، فشيّد لها السكان تمثلي أسدين يربضان أمام المدينة التي جمعت بين الأصالة والحداثة، فكانت مقصد السياح من داخل الجزائر وخارجها، معمارها جمع بين طرازين أحدهما حديث تمّ بناؤه على أيدي الفرنسيين بعد احتلال المدينة والثاني قديم على الطراز الأندلسي الإسباني والعثماني. وتقول عنها أستاذة التاريخ في جامعة بوسطن ديانا ويلي إن مدينة وهران تمثل بداية العولمة منذ العهد الوسيط، فهي تضم الشواهد على الاختلاط الحضاري.
شوارعها التي تميّزت بروعة تصميمها وتناسق بناياتها الممتدة على مئات الأميال معانقة زرقة البحر ومسارحها الشامخة التي شيّدت حديثا، ومتاجرها ومساكنها، كل شيء فيها، يذكرك بالوجود الفرنسي الذي حاول طمس كل أثر اسلامي في المدينة، كأنه لن يغادرها، ومع ذلك حافظت على أصالتها وامتدادها الحضاري، لتكون بذلك رمزا للتعدد الثقافي وإحدى المدن الأكثر انفتاحا وتسامحا.
يعتبر قصر الباي محمد الكبير واحدا من الشواهد الأثرية، التي حفرت في ذاكرة الجزائريين
فقصر الباي محمد الكبير الذي يتربع على مساحة قدرها 5.5 هكتار، في حي سيدي الهواري العتيق، وسط مدينة الباهية، يعتبر واحدا من الشواهد الأثرية، التي حفرت في ذاكرة الجزائريين، فترة الحكم العثماني في البلاد، حيث شيّده محمد باي الكبير بن عثمان، في نهاية القرن الثامن عشر، متخذا إيّاه مقرا لإدارة شؤون الرعية بغرب البلاد، وعرف بـ “بايلك الغرب”. قصر لم تمحو السنون رونق تصميمه وروعة عمرانه وتناسق بنيانه، حتى غدا معلما سياحيا يقصده السيّاح من أنحاء المعمورة.
وفي قمة جبل “المرجاجو” الذي يحمي وهران ويعلوها، تقع قلعة “سانتا كروز” التي بناها الإسبان في القرن السادس عشر، شامخة، محافظة على تماسكها رغم ما مضى من قرون على تشييدها، تحكي تاريخ المدينة، وتجسّد اجتماع سحر الطبيعة وجمال العمران الإسباني، يحيط بالقلعة سور شاهق الارتفاع، به منافذ أعدت لنصب المدافع، وفي أسفلها كنيسة تطلّ على البحر، وضع فيها تمثال “السيدة العذراء”، أو ما يطلق عليها الجزائريّون “للاّ مريم” لطرد الأوبئة والأمراض، فكانت مقصد المسحيين.
شواطئ وهران
على مسافة أكثر من 100 كلم، تمتدّ شواطئ وهران الجميلة، “سان روك”، “تروفيل”، “بوزفيل”، “كلير فونتين”… بعض هذه الشواطئ التي تشتهر بمناظر طبيعية خلابة، زاد جمالها غابات ممتدة عبر الشريط الساحلي لترسم لوحة طبيعية رائعة يمتزج فيها سحر الجبال الشاهقة مع زرقة مياه البحر الصافية.
كل خطوة تخطوها، وكل زاوية يمتدّ إليها بصرك، تحدّثك عن أناس وحضارات سكنوا المنطقة وساهموا في بنائها على الشكل الذي هي فيه اليوم
شواطئ تروي تاريخ المدينة وتعبّر عن المراحل المختلفة التي مرّت بها وهران منذ نشأتها، من الأمازيغيين الذي عمروها إلى الفينيقيين الذين استغلوها لإنشاء محطتهم التجارية، إلى الرومان الذين استعمروها، فالوندال فالبزنطيين، ثم المسلمين الفاتحين، إلى الأندلسيين الذي أعادوا بناءها بعد تخريبها، ليأتي الاسبان إليها غازين ثم سلّموها للعثمانيين قبل أن تحتلّها فرنسا.
كل خطوة تخطوها، وكل زاوية يمتدّ إليها بصرك، تحدّثك عن أناس وحضارات سكنوا المنطقة وساهموا في بنائها على الشكل الذي هي فيه اليوم. فبالإضافة إلى السكينة والراحة التي يشعر بها المصطاف على شواطئ وهران وسط هذا المشهد الذي يجمع بين جمال الطبيعة والجبال الساحر، فإنها بمثابة كتاب تاريخ يروي تاريخ هذه المدينة الأسطورية التي يصعب تمييزها أو فهمها من بعيد.
ويحيط بأغلب هذه الشواطئ “جبل المرجاجو” الذي يلبس حلة خضراء، مجسدة في غاباته الكثيفة الممزوجة بين أشجار الصنوبر الحلبي العتيق والفلين والكاليتوس، التي شيدّ مواطنين منازلهم الفخمة وسطها، وكانت مصدر إلهام الرسامين والفنانين ومكان لراحة بال السائحين ومحبي الطبيعة.
لباس ومطبخ عرف العالمية
تشتهر نساء “الباهية”، رغم حالة التمدّن التي يعشن على وقعها، بمحافظة بعضهن على “التنقيبة” أو ما يطلق عليه “الحايك” وهو رداء أبيض ترتديه المرأة فيغطي جميع بدنها وتظهر عين واحدة فقط منه وكذلك الجلابة المغربية التي اكتسبوها من المغاربة الذين سكنوا المدينة. أمّا الرجال فيرتدون البرنوس والعباءة البيضاء.
إلى جانب ذلك يشتهر المطبخ الوهراني الذي غزا العالم كونه يجمع بين المطبخين المتوسطي والمغاربي وهو متأثر بشكل كبير بالمطبخ الجنوب إسباني وإلى حد ما بالمطبخ الفرنسي، وما يميز المطبخ الوهراني وجود الكثير من الأكلات التراثية القديمة المتجددة والأصيلة، ومن أشهر أطباقه طبق بوراك والكباب وطبق البطاطا والباذنجان في الفرن وسفة الشعرية بالدجاج والكسكسي الوهراني..
مدينة الراي
كما تبرز وهران بجمال عمرانها وسحر طبيعتها وأكلها ولباسها، تبرز أيضا بموسيقى الراي التي استطاعت أن تتخطى حاجز المحلية، وأن تتحول إلى أيقونات في سماء الفن العربي والعالمي، بعد أن نالت شهرة واسعة، وخرجت من بيئتها ليتغنى بها عدد كبير من المطربين حول العالم، رغم صعوبة لهجتها التي تمزج بين اللغة المحكية في الجزائر والمغرب، الى جانب كلمات فرنسية.
فاسم المدينة يذكر مع كل أغنية “راي” تسمع، حيث كانت منطلقًا لهذا اللون الموسيقي الجزائري الذي وصل إلى العالمية، على يد الشاب خالد، رشيد طه، الشاب حسني وغيرهم، ومن الأغاني التي نالت شهرة واسعة نجد أغنية “وهران وهران” للفنان أحمد وهبي، التي غناها بعده الشاب خالد وآخرون، والتي تتحدث عن مناقب مدينة الباهية.
ويأخذ “الراي” جل مواضيعه من المشكلات الاجتماعية، معبّرا عن مشاغل الشباب وطموحاتهم، بعد أن كان زمن الاستعمار الفرنسي يسرد مآسي السكّان من صعوبة المعيشة وآفات اجتماعية.