الآن حول الموصل طوق كبير من القوات المتعددة الجنسيات وجنرالات أمريكان وفرنسيين وغيرهم، يكررون الظهور أمام تلفزيون بلادهم، لنقل بطولاتهم للعالم الذي يتابع بشغف المعركة الكبرى والفاصلة بين القوات العراقية والتحالف الدولي من جهة وبين داعش وعناصره الدوليين من جهة آخرى.
المشاركون في هذه المعركة يجمعون على كراهية “التنظيم الإرهابي الأول في العالم” والذي يعاني من بطشه بالدرجة الأولى أهالي الموصل، ولكن هذه التشكيلة ذاتها متناقضة وتعاني من أزمة ثقة فيما بينها.
قبيل المعركة كان الجميع متفائل بهزيمة داعش وكيفية استخدام هذا الفوز ضمن الدعاية السياسية، وكانوا في ذات الوقت (القيادات الأمنية والمدنية) يطمئنون الناس بأن التحرير سيكون أسهل من المتوقع، حتى أنهم كانوا يطالبون الناس بعدم الخروج من المنازل وعدم ترك المدينة، وبعضهم كان يذهب إلى ما هو أبعد، ويتكلم عن حدوث تحرك أمني وعسكري من الداخل يضرب داعش ويكسر شوكتها، كما كانوا يتكلمون عن جهوزية الخطط الإغاثية والميدانية والتي من شأنها تخفيف وطأة الحرب.
تحرير الموصل من داعش بالغ الأهمية وضرورة قصوى ذلك أنهم مارسوا تجاه أهلها الفظائع وهجّروا وهاجر بسببها ما يرنو على المليون مواطن، وعطلت بسببهم الحياة بشكل كامل
تحرير الموصل من داعش بالغ الأهمية وضرورة قصوى ذلك أنهم مارسوا تجاه أهلها الفظائع وهجّروا وهاجر بسببها ما يرنو على المليون مواطن، وعطلت بسببهم الحياة بشكل كامل، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية والخسائر البشرية التي تجاوزت على أقل تقدير ثلاثة ألاف مواطن (خلال فترة سيطرتها). كما أن تحرير الموصل مهم من جانب تدمير دولتهم لأن تحريرها هو عمل مضاد لفكرة الدولة التي أقاموها.
الناجون من مشهد المعركة، يخرجون منها وهم جوعى، عطشى، مرعوبون بشكل هستيري، نتيجة الحرب التي تحدث وسط الأهالي وبين البيوت، إضافة إلى الحصار الشديد الذي كان يفرضه التنظيم منذ عدة أشهر، وهم إذ يهربون من هول المعركة نحو المخيمات يتفاجئون بقصور كبير وعجز إغاثي يفشل في تقويم عودهم. وهذا يحدث قبيل تفاقم الأزمة والتي يتوقع أن يزداد معها عدد النازحين إلى ٨٠٠ ألف (الآن 420 ألف).
معظم الخسائر التي حدثت خلال معركة الموصل كان سببها: مفخخات داعش التي تجاوزت الألف مفخخة، والقصف المدفعي والجوي العشوائي الذي تجاوز في أقل تقدير الستة ألاف قذيفة. وهذه العمليات خلّفت في الجانب الأيمن (بحسب المرصد العراقي) وفي الفترة ما بين (19\2-20\3) ما يقارب أربعة الاف قتيل وما يزيد عن عشرين ألف جريح ومصاب، وقد تجاوز عدد المنازل المتهدمة العشرة الاف، ناهيك عن الخسائر التي لحقت في الجانب الأيسر والتي قد يزيد فيها الضرر البشري عن 15 ألف بين قتيل وجريح، إضافة إلى الدمار المهول الذي لحق بالبنية التحتية للمدينة وتركها ركاما بعضه فوق بعض.
في الأحياء التي لا تزال تحت سطوة وسيطرة داعش، يعيش أهلها تحت ضغط وممارسات تعسفية بشعة للغاية، أشنعها، تترس داعش بالمدنيين، منها ما حدث مع أحد اقربائي، حيث جمعت داعش عددا من العوائل في بيت واحد، بعد أن جروهم من منازلهم جرّا، ثم اعتلوا هذا المنزل، وبدأو بإطلاق النار باتجاه القوات الأمنية.
مجزرة موصل الجديدة كانت بذات الشكل، وفقا لعدد من الشهادات التي نقلها ناجون، إذ استخدم التنظيم عددا من البيوت التي كانت تحوي عشرات العوائل، ثم من أسطحها قاموا باستهداف القوات الأمنية، ليقوم طيران التحالف بقصف تلك البيوت، وليخلف مجزرة بشعة، ولا تزال عمليات انتشال الجثث مستمرة والتوقعات أن العدد سيتجاوز الألف قتيل.
بعض نواب البرلمان يبررون ما يحدث من قصف جوي ومدفعي عشوائي بأنه خطأ حرب، وأنه وارد في جميع الحروب، ولكن، هناك أخطاء لا يمكن تجاوزها ويجب الوقوف عندها كثيرا، منها: شارع فيه عنصرين من داعش لا يحملون إلا أسلحة خفيفة، يتم قصفه بصاروخ يُسقط معه مجموعة من المنازل، فتكون النتائج لمثل هكذا عمليات، سقوط عدد صغير من داعش وأضعافه من المدنيين !
لا تزال المعركة شرسة ولا تزال هناك كتلة بشرية كبيرة محاصرة، تقدر ب 750 ألف مواطن، يسكنون فيما يقارب 45% من أحياء الجانب الأيمن (الغير محرر)
لا تزال المعركة شرسة ولا تزال هناك كتلة بشرية كبيرة محاصرة، تقدر ب 750 ألف مواطن، يسكنون فيما يقارب 45% من أحياء الجانب الأيمن (الغير محرر)، وهم في بقعة جغرافية ضيقة مما يصّعب من مهمة القوات المتقدمة ويجعل المعركة القادمة حرجة أكثر.
ما ينقل من داخل الموصل من أخبار شحيح جدا، ولا يساعد على تشكيل صورة كاملة للحدث، فالأطراف الفاعلة على الأرض لا تحبذ أن تنقل الصورة ولا الكلمة من داخلها، ولقد دفعت رئيس مجلس قضاء الموصل السيدة “بسمة بسيم” ثمن نقلها لمجزرة موصل الجديدة بأن تُمنع من الدخول إلى الجانب الأيمن كاملا، وهي لم تفعل سوى نقلها لفظاعة ما جرى.
اليوم يجول في خاطر أبناء المدينة اسئلة كثيرة، خاصة تلك المتعقلة بمستقبلهم المصيري، منها: ما هو مصير الحشود والمليشيات التي في محيط الموصل فعلياً وتتوعد ألاهالي بالانتقام والتنكيل؟ ما هو مصير ما تبقى من داعش وخلاياها النائمة والتي لا تزال تصول وتجول في بعض أحياء المدينة؟
وبينما توشك المعركة على الانتهاء، تتسرب أحاديث عن هروب قيادات داعش العليا من الموصل، وهذا إن صح فعلا، فيعني أن العمليات التي تحققها القوات العراقية على الأرض لا تعني القضاء على الإرهاب بشكل كامل بل هي طرد باتجاه الصحراء، ولن يزول خطرها بسهولة.
اليوم يجول في خاطر أبناء المدينة اسئلة كثيرة، خاصة تلك المتعقلة بمستقبلهم المصيري، منها: ما هو مصير الحشود والمليشيات التي في محيط الموصل فعلياً وتتوعد ألاهالي بالانتقام والتنكيل؟ ما هو مصير ما تبقى من داعش وخلاياها النائمة والتي لا تزال تصول وتجول في بعض أحياء المدينة؟ ما هو التغيير الحقيقي الذي قد يضمن عدم الرجوع إلى المربع الأول (الذي سهل سيطرت داعش على المدينة)؟ لماذا لم تُحاسب القيادات العراقية والتي أتهمها البرلمان بالتواطئ في سقوط الموصل؟ ما هو مستقبل إدارة المدينة (هل سيتمكن أبنائها من إدارتها فعليا)؟
ما هو مصير المفقودين الذين فقدوا أثناء الحرب وقبلها، وكيف سيتم التحري عنهم؟ ما هو مصير الالاف من المتضررين جسديا جرّاء الحرب، وهل سيجدون فرصة للعلاج؟ ما هو مصير الاف من الأرامل والأيتام خاصة أولئك الذين فقدوا مآواهم؟ هل ستحصل الموصل على تعويضات مادية تمكنها من العودة إلى الحياة بسرعة، وممن؟ وعشرات الاسئلة المصيرية الأخرى التي لا تزال تؤرق من تحرروا من حكم داعش الظالم وهم لا يزالون يبحثون عن إجابة لها.