من المعلوم أن الجماهیر یتلاعب بها الإعلام تلاعب الصبیان بالكرة، ومن المعلوم أن الإعلام قادر على الكذب والخداع والتزییف والتأثیر الكاذب على وعي الناس وآرائهم، ومن المعلوم أن الإعلام یحتكره رأس المال، كما أنه من المعلوم أن ما لا یحققه رأس المال عبر الإعلام، یمكن أن یحقق مباشرة على الأرض عبر سبل كثیرة من التأثیر، خاصة في الدول الفقیرة (كتوزيع الزیت والسكر والأرز واللحوم وشراء الأصوات بالمال). إن الادعاء الذي یقول أن الفائزین في الانتخابات المختلفة هم فعلا من یمثلون الشعب والمجتمع تمثیلا حقیقیا هو ادعاء سخیف، بل هو تمثیل محرّف یعبر عن إرادة مسروقة أو وعي تم تزییفه بالكذب أو حاجات تم ابتزاز أصحابها بها!
الدعایة هي الانتخابات، والانتخابات هي الدعایة!
وهذا يقودنا إلى القول أن بعض وسائل الإعلام التي تمتلكها كبار الشركات الرأسمالية هي أدوات تضليل ودعاية لخدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للمجموعات الحاكمة والطبقة المسطرة التي تستعملها لدعاية وتضليل الجماهير والطبقات الشعبية الُمستغلة.
في النظام الدیمقراطي، المیدیا والدعایة تساوي تمامًا الكرابیج والعصي في النظام الدیكتاتوري، فكلها أسالیب لتوجیه الناس وتطویعهم لأغراض الطبقة المسیطرة، إلا أن الدیمقراطیة هي نظام “الأسالیب الناعمة”، لأن شیاطین الحكم أدركوا عبر الخبرات المتراكمة أن الأسالیب الخشنة من الممكن أن توقظ الناس من غفلتهم سریعا!
یقول والتر لیبمان عمید الصحفیین الأمریكیین أعقاب الحرب العالمیة الأولى: “إن فن الدیمقراطیة یكمن في قدرتها على صنع الإجماع المزعوم عن طریق تطویع آراء الناس؛ بمعنى جعل الرأي العام یوافق على أمور لا یرغبها بالأساس عن طریق استخدام وسائل دعائیة”!
من المفترض أن البرلمان في النظام الديمقراطي يكون الرقيب الأول على السلطة الحاكمة، ويمنع الانفراد بالسلطة والقرار
وفي كتاب “السیطرة على الإعلام”، یضرب نعوم تشومسكي مثالا للخداع الدعائي بتلك الشعارات التي یروجها الإعلام ولا یكون بإمكان أحد الوقوف ضدها، بل سیضطر الجمیع للاصطفاف خلفها ولا یعرف أحد ماذا تعني لأنها في واقع الأمر لا تعني شیئا على الإطلاق! ویضرب تشومسكي مثالا في ذلك برفع شعار “الهویة الأمریكیة”.
وفي هذا النظام الانتخابي، كما لا تهم مؤهلات المرشحين بالقدر الذي تهم قدرتهم على التأثير من خلال مخاطبة المشاعر ودغدغتها. أيضا في كثير من الأحيان، لا يبالي الكثيرون بالبرنامج الانتخابي للمرشح بالقدر الذي يهتمون بانتمائه الحزبي. فلو كان المرشح من حزب يفضله الناس سيكسب أصواتهم حتى دون أن يكون برنامجه مقنعا، وفي كثير من الأحيان لا يهتم المصوتون بالبرامج الانتخابية إطلاقا. لذلك قال جان جاك روسو في كتابه «العقد الاجتماعي» محذرا: “في اللحظة التي يوافق فيها الناس على أن يمثلوا يفقدون حريتهم”.
ومن المفترض أن البرلمان في النظام الديمقراطي يكون الرقيب الأول على السلطة الحاكمة، ويمنع الانفراد بالسلطة والقرار، لكن نأخذ –مثلا- تقرير لجنة التحقيق البريطانية حول غزو العراق المعروف باسم «تقرير شيلكوت» والنتائج التي توصل إليها أدان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت توني بلير لاتخاذه قرار شن الحرب على العراق، واعتبر أن نتائج الحرب كانت كارثية لبريطانيا والشعب البريطاني والعراق طبعا.
ويتهم بلير، ومستشاره الإعلامي الأسبق أليستر كامبل، بالضلوع في إعداد ملف حرب العراق الذي وصف بـ«الملف المخادع»، واحتوى على تحريف وتشويه لنتائج استخباراتية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وكشفت تحقيقات لاحقة أن تعديلات طرأت على الملف بأوامر من (كامبل)، لتتلاءم مع خطابات ألقاها الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن، ومسئولون أمريكيون آخرون، قبل أن يضطر إلى الاستقالة في أغسطس عام 2003.
إن الأغلبيات الديمقراطية يمكن أن تقرر فعل أشياء فظيعة لأقطار أخرى، ويمكن أن تتغول على الحقوق والقيم الإنسانية التي بني عليها نظامها الديمقراطي نفسه.”
اعتبر شيلكوت أن الغزو نفسه تم من دون أن تكون له أي شرعية دولية، أي أنه يعتبر جريمة حرب .. حدث هذا في بريطانيا التي تعتبر نفسها من أعرق الدول الديمقراطية في العالم. وهي -كما باقي الدول الغربية- تعتبر نفسها دولة مؤسسات لا مكان فيها لحكم الفرد المستبد، أو للانفراد بصنع السياسة واتخاذ القرار. وتعتبر أن العملية الديمقراطية تقوم في جوهرها على الرقابة الشعبية العامة عبر البرلمان وغيره على سياسات وقرارات رئيس الحكومة والحكومة بشكل عام، وأن هذا عامل رشد للسياسة العامة والقرارات.
لكن إذا كان الأمر على هذا النحو فعلا، فكيف عجزت الديمقراطية البريطانية بكل آلياتها وأدواتها المستقرة عن الحيلولة دون شخص واحد مثل بلير من اتخاذ قرار فردي هو بحد ذاته جريمة حرب وقاد إلى كل هذه الكارثة لبريطانيا والشعب البريطاني؟!
كيف لم يستطع البرلمان البريطاني بكل صلاحياته الرقابية، ولم تستطع الأحزاب البريطانية بكل نفوذها، ولم يستطع الرأي العام البريطاني بكل الحريات المتاحة، الحيلولة دون بلير ودون اتخاذ هذه القرار الكارثي؟
كيف لم تستطع الديمقراطية البريطانية إجمالا حماية بريطانيا والشعب البريطاني من ارتكاب هذه الجريمة وتجنيب البلاد نتائجها وتبعاتها الكارثية؟ هل مرت الكارثة لأنها تتعلق ببلد مسلم؟، أم لأن الإعلام قد نجح في تخدير الوعي الشعبي البريطاني لصالح ثلة من الساسة الذين قد تختلف رؤيتهم عن رؤية المصلحة الشعبية؟.
إن قضية الحصانة البرلمانية التي يُعطاها أعضاء البرلمان، تجعل لهم من الحقوق فوق القانون والمسائلة، بل في أغلب الأحيان يساء استخدامها في تمرير صفقات تجارية مشبوهة، وإعفاءات جمركية وضريبية
وصدق فرانسيس فوكايوما حيث يقول: “إن الأغلبيات الديمقراطية يمكن أن تقرر فعل أشياء فظيعة لأقطار أخرى، ويمكن أن تتغول على الحقوق والقيم الإنسانية التي بني عليها نظامها الديمقراطي نفسه.”
ويقول الفيلسوف الفرنسي روسو: “إن الأمة الإنجليزية تعتبر نفسها حرة؛ لكنها مخطئة خطأ فادحاً؛ إنها حرة إبَّان فترة انتخابات أعضاء البرلمان، وبمجرد أن ينتخبوا فإن العبودية تسيطر عليها، فلا تكون شيئاً. وكيفية استفادتها من لحظات الحرية القصيرة التي تستمتع بها تدل حقاً على أنها تستحق أن تفقدها”.
وأخيرا قضية الحصانة البرلمانية التي يُعطاها أعضاء البرلمان، والتي تجعل لهم من الحقوق فوق القانون والمسائلة، بل في أغلب الأحيان يساء استخدامها في تمرير صفقات تجارية مشبوهة، وإعفاءات جمركية وضريبية، وميزات أخرى تتناقض مع المبادئ الديمقراطية، وتحول البرلماني من حرس لقضايا أبناء دائرته إلى وحش كبير يؤسس إمبراطورية النفوذ والجبروت لجني أكبر قد من المكاسب فترة حياته البرلمانية.
وقد أكد جمال الدين الأفغاني هذا الاتجاه عند الزعماء والأحزاب، عندما قال: “تتخيل الأمة من وراء وعود الحزب سعادة ورفاهة وحرية واستقلالًا ومساواة … فيؤازرون الحزب بكل معاني الطاعة والانقياد والنصرة والتضحية و…. فإذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية”.