الفقر والعنترة أو الفقر والفرعنة، عبارة تونسية خالصة تستعمَل لتوصيف فعل الشخص الذي يزعم شجاعة عنترة بن شداد دون أن يقدر على حمل سيف، أو قوة فرعون دون جنوده، وغالبًا ما تستحضَر لوصف حديث الكذّاب.
والانقلاب في تونس يمارس على شعبه الفقر والعنترة، فهو فقير ومفلس ويتسول المساعدات والقروض دون أن يملك أسبابها، ويروج لشعبه قدرة وشجاعة على رفض القروض لكن المقرضين يفضحونه.
خطابان متناقضان، واحد موجّه للدول والمؤسسات المالكة للقرض، والآخر موجّه لشعب يبدو أنه مستعد لتصديق كل خطاب كاذب، لأنه يتمتع بوهم السيادة، وبين الخطابَين تعيش تونس معاناة يومية في تدبُّر الضرورات، وقد مرّت بها العودة المدرسية المكلفة، فتركت العائلات المتوسطة منها والفقيرة تحت خط الفقر.
هل يملك الانقلاب أن يروج خطاب الدفاع عن سيادة البلد؟ سنكتب عن ادّعاء السيادة في غياب الديمقراطية.
السيادة الوطنية شهوة باذخة
من يرفض أن يكون سيدًا في بلده؟ لا أحد، لكن ماذا بين يدي الانقلاب ليزعم سيادة تستغني عن التسول في سوق القروض الدولية؟ نعيش في عالم مكشوف ولا نحتاج معلومات دقيقة، نشاهد دولًا أفلحت في بناء سيادتها وتحولت إلى إمبرياليات صغرى/ صاعدة، تنافس قوة الغرب التاريخية، حيث لا يمكن النجاة من هاتف سامسونغ ومن سيارة كيا أو هيونداي الكوريتَين، ولن نستحضر كوكب اليابان فقد سبق العالم.
بعيدون نحن عن اللحظة التركية التي قال فيها الأتراك قررنا القطع مع البنك الدولي ومع قروض الغرب الرأسمالي، ونعتمد على قدراتنا الذاتية، حتى أن من حاول العودة إلى وضع المقترض خسر آخر انتخابات لصالح خطاب سيادة فعّال.
لنذكر أنه حيث أمكن فرض السيادة والتحرر من وضع العيش على القروض، سار بناء الديمقراطية مع بناء السيادة، فهما يدان تصفقان معًا أو جناحان يرفّان معًا، نحو امتلاك القدرة وتطويرها والنجاة من وضع التسول.
هل يمكن فرض حديث السيادة والغدر بالديمقراطية في الداخل؟ الحالة التونسية تثبت العكس.
كلما كان النظام الحاكم غير ديمقراطي تم إذلاله والاستهانة به وإخضاعه بالقروض، ولاحقًا إلحاقه ليكون حارس حدود للرفاه الغربي. خطاب السيادة له شروط تحقّق على الأرض، أولها وأساسها بناء الديمقراطية في الداخل، وقد عادى المنقلب الديمقراطية، فهو يجني ثمرة انقلابه عليها، فيكذب على شعبه فيكذّبه المقرضون فلا ينال سيادة ولا كرامة.
هل كانت الديمقراطية ستجلب السيادة في تونس؟
هذا سؤال يرمى في النقاش العام في تونس بصيغة “لو أفلحت الديمقراطية لما وصلنا إلى وضع التسول”، وهذه مغالطة إجرامية، لأنها مبنية على عقل كسول تعوّد الأكلة الجاهزة ولو طبخها الشيطان، وهي من جنس قول كثير متداول لتبرير الانحياز للانقلاب “الحرية لا تطعم خبزًا”.
لقد كانت التجربة الديمقراطية تعدُ بالكثير -وللأسف نحن نتحدث عنها الآن بصيغة الماضي-، وكانت من وعودها إعادة النظر في العلاقات غير المتوازنة مع الغرب، بما في ذلك الطموح إلى المحاسبة على الجرائم الاستعمارية. هذا الطموح المشروع يردّده الانقلاب الآن عندما يتوجه إلى الشعب، لكنه يقف موقف المتسول أمام عتبات القروض الغربية، وقد تكلمت رئيسة حكومة إيطاليا جهرًا وفضحت الخطاب المزدوج للانقلاب.
ما كان للثورة في سنواتها العشر المضطربة أن تصحّح المفاهيم والمواقع وتحدد الموقف السليم في إدارة البلد باعتماد ثرواته وقدراته البشرية، فما من ثورة عبر تاريخ الثورات فعلت ذلك، لكنها فتحت النقاش وبيّنت المسار حتى اُنقلب عليها بمساعدة جلية من القوى التي تقدم لنا الآن الدروس في ضرورة الاعتماد على الذات، وتنصح بكل وقاحة بالعودة إلى الديمقراطية.
الضعف والهوان الحاليان ليسا ناتجَين عن سنوات الثورة، بل عن الاستهانة بالديمقراطية وامتهان الحريصين عليها وردمهم في السجون، وستظل مسألة السيادة الوطنية معلقة في انتظار وعد ديمقراطي آخر لا نشك فيه، وإن عازنا الصبر على الانتظار.
تونس تملك أسباب سيادتها
نعم هذه جملة متفائلة تعاكس سياق المهانة الحالي، فهي بلد غني بثروة بشرية غالبها متعلم، وفي المتعلمين خبرات كبيرة في كل المجالات، وغنية بثروات طبيعية يساء التصرف فيها بعلم الجميع وبتواطؤ غربي، منها ثروة فوسفات لا تزال مردومة تحت الفساد النقابي، والنقابة جزء من الانقلاب، وهي أيضًا من مروجي حديث السيادة.
وتونس بلد قادر على إعاشة أهله من إنتاج مزارعه، وهو منافس فعّال في حوض المتوسط على إنتاج الزيت والتمر والغلال، إننا نذهب إلى حد القول إن تونس قادرة على استقبال عمالة إضافية.
أما لماذا تقف تونس على عتبات البنوك تتسول، فمردّ ذلك إلى الانقلاب الظاهر، وإلى معاداة الديمقراطية التي تقود من خلفه ولا تسفر عن وجهها. يكفي أن ننظر إلى طريقة إدارة الثورة المائية في سنوات الجفاف الحالية، حيث توجّه المياه إلى النزل السياحية، ويحرَم الفلاحون من زراعة محاصيلهم فيجوعون (لم يفرغ حوض سباحة واحد طيلة سنوات الجفاف).
في زمن الحرية القليل، صدح الناس بخطأ خيار الاعتماد على السياحة وإهمال الفلاحة، وفي زمن الانقلاب صارت هذه المواضيع من المحرّمات. هنا تسقط السيادة وتنفتح أبواب المذلة ويزدهر الخطاب الشعبوي حول السيادة والاستقلال، بينما ينعت المتكلم بمراجعة الخيارات بالجنون. لوبي السياحة الآن واقف بكل ثقله مع الانقلاب، بينما ليس للفلاحين صوت، فنقابتهم تمّ تدميرها في أول خطوات الانقلاب لمحو كل احتمال لمراجعة الخيارات السيادية.
نغمر في خاتمة القول معارضة وقعت في فخّ التباكي على الحريات، ونسيت أن تطرح للناس الحيارى أفكارًا لما بعد الانقلاب، بما أشعر عوام الناس أن ليس للانقلاب نهاية. إن حديث السيادة والاستقلال حديث معارض، ونراه الأسبق على جدول أعمال المعارضة وخطابها (المستقبلي)، من البقاء في وضع البكاء على الحريات (مناحة المظلومين).
ونرى أن طرح البدائل أشد تأثيرًا على الانقلاب ممّا تفعل المعارضة الآن، لأنه حديث يبني الأمل، إذ يقوم على إيمان بنهاية هذه المرحلة البائسة، ويشعر الانقلاب نفسه أنه غير مؤثر وألا مستقبل له، وإن روّج حديث الشعبوية. إنه الحديث الحالم نعم، لكن الحديث الذي يفتح أفقًا للناس، ويعدّ أرضًا جديدة لبناء الديمقراطية شرط قيام السيادة.