لا شك أن السينما الفلسطينية تقوضت من قبل أن تتأسس وتثبت نفسها، فعندما دخلت فكرة السينما في العالم العربي، وبدأت كل دولة في إنتاج أفلامها الخاصة؛ وهذا إن أردنا الدقة يمكن أن نحدده في عام 1935 على وجه الخصوص؛ داهم الإحتلال الصهيوني الأراضي الفلسطينية. ويقول الناقد السينمائي “بشار إبراهيم” أن الشعب الفلسطيني استغرق على الأقل عشر سنوات من بعد عام 1948، حتى يجمع شتات نفسه، ثم جاء من بعد ذلك الشتات الثاني بعد عام 1967. فأصبحت فكرة أن تقوم سينما فلسطينية من بين كل هذا العبث درب من دروب الخيال.
اقتصرت السينما الفلسطينية على الأفلام التسجيلية فقط، والتي توثق من خلالها الواقع، وتؤكد على فكرة أن “الأرض لنا”
واقتصرت السينما الفلسطينية على الأفلام التسجيلية فقط، والتي توثق من خلالها الواقع، وتؤكد على فكرة أن الأرض لنا. ثم توجه المخرجون وصناع السينما الفلسطينيين إلى إنتاج أفلام روائية طويلة، تعبر عن القضية الفلسطينية.
إلا أن فكرة الإنتاج نفسها تعذرت، فكيف يمكن للفلسطينيين إنتاج فيلم روائي كامل في ظل الاحتلال والظروف المادية العصيبة؟
فما كان للأفلام الفلسطينية التي انتجت من بعد عام 1948، إلا أن تنسب لجنسيات أخرى، على حسب انتاجها ولو كان فريق العمل كله فلسطينيًا. لذا اختلف أمر الأفلام الفلسطينية عن غيرها من الأفلام، فاقتصر لفظ “فيلم فلسطيني” على أي فيلم يكون إخراجه أو تمثيله من الفلسطينيين، أو تدور قصته حول قضية فلسطين وشعبها.
الواقع الفلسطيني كما يقدمه الفيلم
“عيد ميلاد ليلى” فيلم فلسطيني إنتاج عام 2012، تأليف وإخراج “رشيد مشهراوي”، من إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا وبعض المساعدات التقنية من المغرب – كنا قد اتفقنا أن الفيلم الفلسطيني له ظروف خاصة لا يجب أن نقيد جنسيته بالإنتاج- حيث يختلف فيلم “عيد ميلاد ليلى” عن باقي الأفلام الفلسطينة الشائعة.
غلاف دعائي لفيلم “عيد ميلاد ليلى”
ففيلم “عيد ميلاد ليلى” لا يناقش قضية الثنائي (الشعب والاحتلال)، فقط المجتمع الفلسطيني وحياته على مدار يومٍ واحد. وقد تناول ذلك بدون فجاجة، وبكثير من الرمزية، وكل هذا من خلال شخصية “أبو ليلى” والتي لعب دورها الفنان القدير “محمد بكري”. “أبو ليلى”: قاض، عمل في أحد البلدان العربية لمدة عشر سنوت، ثم تم استدعاءه من الخارج لخدمة الوطن، فعاد إليه بكل سعادة، ومعه الأوراق المختومة والمسجلة من الرئيس الراحل “أبو عرفات”، إلا أن قرار تعينه -ككثير من القرارات التي صدرت عن الرئيس الراحل “أبو عرفات” في الفترة السابقة لوفاته- قد تعطل بسبب عدم توفر الإعتماد المالي، وهو الأمر الذي أشار له المخرج بنوع من أنواع السخرية؛ فعندما ذهب “أبو ليلى” لوزارة العدل -للمرة الألف ربما- للتأشير على قرار تعينه، يجد مديرًا جديدًا يغير أثاث مكتبه، والذي غيره المدير السابق منذ شهر واحد فقط!
لذا يضطر “أبو ليلى” أن يعمل كسائق سيارة أجرة، إلا أنه لم ينسى مهنته الأصلية كرجل قانون، فنراه يصر على الركاب أن يربطوا أحزمة الأمان، ولا يسمح للمسلحين أن يركبوا معه، ولا يسمح بالتدخين داخل السيارة.
ظهر كضيف شرف النجم “صالح بكري” نجل النجم “محمد بكري”، وقام “صالح” بدور الراكب المدخن، الذي اعتقل لمدة إحدى عشر عامًا وأطلق سراحه حديثًا لينضم للمظاهرات المنددة بالاحتلال والهاتفة باسم شهيدٍ جديد.
تتوالى الأحداث والتي تظهر من خلالها حياة المواطن الفلسطيني برام الله –تم تصوير كل مشاهد الفيلم داخل رام الله- فهناك مثلًا ذلك الراكب الطاعن في السن والذي اندهش لوجود وزارة للعدل في فلسطين، ثم يبادر بالرد على “أبو ليلى” الذي صار يصف له محاسن الوزارة أن “العدل من عند الله وبس.”
ثم هناك الراكبة التي تطلب منه أن يصلها للمشفى ثم للمقابر وأن يبدأ بالمكان الأقرب مثلما يريد، فيجيبها بأن العرف السائد أن يذهب المواطن للمشفى ثم للمقابر، كدلالة على الوضع الصحي المتردي برام الله.
الاحتلال ورام الله
وبالرغم من أن الفيلم لا يتعرض للإحتلال بشكل صريح، إلا أن أي فيلم فلسطيني لا يمكن أن يتجاهل الحقيقة الراسخة بأن هناك احتلال قائم، فهناك دومًا أصوات الطائرات التي تجوب سماء رام الله، وهناك تلك القذيفة التي سقطت على رأس إحدى السيارات فقسمتها إلى نصفين وراح جراءها بعض الضحايا.
لا يستطيع “أبو ليلى” أن يعمل كقاض ويطبق القانون في بلد واقعة تحت قبضة الاحتلال، إلا أنه لا يسمح بأن يخالف أي أحد القانون داخل السيارة التي يعمل عليها
لا يستطيع “أبو ليلى” أن يعمل كقاض ويطبق القانون في بلد واقعة تحت قبضة الاحتلال، إلا أنه لا يسمح بأن يخالف أي أحد القانون داخل السيارة التي يعمل عليها، وعلى من يرفض قوانين الركوب أن ينزل فورًا ويبحث لنفسه عن سيارة أخرى.
ولا يذهب “أبو ليلى” لمنطقة الحواجز لأنه يخاف على نفسه وعلى السيارة، إلا أنه يقبل طلب إحدى الراهبات بأن يقوم توصيلها للحاجز حتى تستطيع أن تسافر إلى القدس وتلحق بالقداس. وعندما يوصلها “أبو ليلى” يبقى لثوانٍ ينظر إلى الجدار العازل والقدس من وراءه، وبالرغم من هذه المسافة القريبة جدًا إلا أنه لا يستطيع تخطيها.
معظم سكان رام الله يبتعدون عن القدس مسافة سفر خمس دقائق، إلا أنهم لم يزوروها منذ عشرين عامًا وأكثر
حيث أن معظم سكان رام الله يبتعدون عن القدس مسافة سفر خمس دقائق إلا أنهم لم يزوروها منذ عشرين عامًا وأكثر، ومنهم من لم يرها مطلقًا، كما أنهم لا يستطيعوا أن يسافروا إلى يافا أو حيفا أو عكا حيث البحر، فهم محتجزون في وطنهم.
أهم مشاهد الفيلم؛ هو ذلك المشهد الذي يصيح فيه “أبو ليلى” في الشعب والاحتلال لتطبيق القانون، وهو الأمر المستحيل فأي قانون يمكن أن يطبق تحت سماء تجوبها طائرات الاحتلال؟
من خلال الفيلم سيرى المشاهد العديد من الأحداث والمواقف التي تحدث للمواطن الفلسطيني، والتي سيظن في باديء الأمر أنها أحداث استثنائية، حتى يجيب “أبو ليلى” على سؤال زوجته “كيف كان يومك؟” بأنه يومًا عاديًا؛ وكان القصد من هذه الإجابة أن يظهر للمشاهد أن هذه هي نوعية الأيام العادية بالنسبة للمواطن الفلسطيني.
الفن في فلسطين
مالا يمكن إنكاره أن الفن سلاحًا فعالًا، فيمكنه ترسيخ فكرة في عقل المشاهد، ويمكنه أيضًا تدميرها، وربما كانت السينما في بادىء أمرها بهدف الترفيه إلا أن دورها قد تطور مع مرور الزمان، ولا يمكن إنكار فضلها في نقل الواقع، ودعم العديد من القضايا. لم تنتظر السينما الفلسطينية العون الخارجي ليُحييها، بل قامت على أكتاف أبناءها، وهناك العديد من النماذج الفنية التي قدمت العديد من التضحيات لتوصيل رسالتها للعالم.