لم يكن مشهد عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني وهو يغالب حرج الإقرار بالفشل وبالعجز فتغلبه دموعه أمام ميكروفونات وكاميرات الصحفيين التي كان بعضها ينقل مؤتمره الصحفي على الهواء مباشرة يحتاج إلى مزيد من التوضيح ليتبين المتابع لما آلت إليه الأمور في ليبيا أن المربّع الأخير المنوط بعهدته حلّ عُقَدَ الملف الليبي الألْف يعاني بدوره عقدة مستحكمة يبدو حلّها بعيد المنال،على الأقل وفقا للتركيبة الحالية للمجلس الرئاسي.
فالمجلس الّذي يمثّل طبقا لنص الاتفاق السياسي السلطة التنفيذية العليا في البلاد شُكِّل على أساس وفاقي جمع من خلاله نوابا من أقاليم ليبيا الثلاث و وفق توازنات سياسية و قبلية معقّدة و دقيقة لكن هذا البعد التوافقي في تركيبة المجلس كان يخفي تضاربا صارخا في مآرب بعض النواب و غيابا بينا للانسجام فيما بينهم و لم تنتظر الخلافات تسلّم المجلس الرئاسي السلطة و انطلاقه في آداء مهامه حتى تخرج للعلن فالجميع تقريبا كان يعلم بأمر اللكمات المتبادلة بين عضوي المجلس الرئاسي أحمد معيتيق و علي القطراني في احدى اجتماعات المجلس الرئاسي الترتيبية قبل دخوله ليبيا و انطلاقه في ممارسة سلطاته.
موسى الكوني يبكي عند اعلانه استقالته
قبل استقالة موسى الكوني كانت هناك علامات استفهام كثيرة عن الانسجام بين أعضاء المجلس الرئاسي فعلي القطراني وعمر الأسود سبق وأعلنا انسحابهما في خضم المشاورات حول تركيبة حكومة الوفاق وإذا كانت المادة الثامنة في نص الاتفاق السياسي واضحة فيما يتعلق بصلاحيات المجلس الرئاسي الأمنية والعسكرية تفيد الوقائع بأنها لم تكن كذلك بالنسبة للعضوين المنسحبين اللذان دافعا عن حفتر بشدّة وهاجما المجلس وطعنا في شرعية قراراته المرة تلو المرة وهو ما أضعف موقف المجلس وأعاق قدرته على فرض القبول بالاتفاق السياسي على الرافضين في الشرق.
وفي نفس الوقت الّذي كان فيه القطراني ممثل الجهة الشرقية الأول داخل المجلس يكيل له الاتهامات من الخارج كان ممثلها الثاني فتحي المجبري يبتزه من الداخل بوصفه النائب الوحيد المتبقي عن جهته و هو ما يفسّر صمت بيانات المجلس تارة عما كان يأتيه حفتر في المنطقة الشرقية أو تراكيبها الخفيفة تارة أخرى عندما يقتضي الموقف عدم السكوت و ربما قد يكون ذلك ما أصاب المجبري بشيء من تضخّم الأنا جعله يمضي باسم المجلس الرئاسي على تعيينات أمنية حساسة دون أن يكون المجلس ولا رئيسه فائز السراج على اطلاع عليها.
وقد شمل هذا الإجراء تعيين فتح الله حسين عبدالكريم محمد رئيسًا جديدًا لجهاز المخابرات الليبية.وإبراهيم خليفة بوشناف بمهام وزير للعدل ومحمد محمود محمد الزين آمرًا لقوة مكافحة الإرهاب و هي تعيينات أثارت جدلا واسعا و رفضا بينا و صريحا لدى فئات واسعة من المتابعين للمشهد والفاعلين فيه و لم تمض أيام معدودات حتى ظهر السرّاج نفسه في مشهد طريف ليعلن إلغاء كل هذه التعيينات لأنها لم تكن وفق ما صرّح به محلّ وفاق بين أعضاء المجلس الرئاسي و بطبيعة الحال استشاط المجبري غضبا و قصد قاعدة بوستة للقاء السرّاج الّذي صادف أنه كان في اجتماع مع المبعوث الأممي.
يريد حفتر تثبيت نفسه كرقم مهم في أي تسوية سياسية ومن أجل ذلك يعمل على التوسع أكثر في مناطق سيطرته و يخطط ( أو هذا ما يبدو ) للتوسع في الجنوب
وقبل ان يعمد الى اقتحام الاجتماع سدد المجبري لكمة لأحد أفراد طاقم السرّاج الّذي حاول اعتراضه لما هم باقتحام قاعة الاجتماع إلا أن أمر اللكمات وما سبقها من قرارات وقرارات مضادة لم يكن قط أكثر طرافة مما صرّح به عضو المجلس علي القطراني لإحدى التلفزات من أن دوره داخل المجلس الرئاسي هو إفشال المجلس الرئاسي و هو تصريح لا يبدو أنه كان منفلتا بقدر ما كان ينم عن ما يتسم به فكر الرجل و وعيه من ضحالة ومن سذاجة وعن ما له من ارتباطٍ بما يتقرر في مصر والإمارات.
وإذ نستعرض هذه المحطات التي ميّزت عمل المجلس الرئاسي في فترات متباعدة ومختلفة طوال سنة من حكمه المفترض فليس فقط للتدليل على ضعفه وهشاشته وتواضع أدائه بل كذلك للتنبيه إلى ما يتهدد رصيد المنجز في الثورة الليبية والحال أن شقوق المجلس الرئاسي وثغرات أدائه تتسرب منها تباعا وعلى نحو مطّرد مشاريع الفوضى واللاّحل واللاّدولة
إن استمرار المجلس الرئاسي بما فيه من انقسامات وتناقضات وخصومات وبما أصبحت عليه العلاقة بين أعضائه من توتر وبما اتسم به أداء رئيسه من ضعف ومن عجز عن الحسم في مسائل حساسة وجوهرية بالإضافة إلى التعثّر المتواصل للمجلس ككل في معالجة الإشكالات الخدمية الكثيرة التي وعد بإنهائها يعني انتهاء المجلس الرئاسي كمشروع للحل السياسي في ليبيا على الأقل بتركيبته الحالية التي جمعت النار والبارود وهو ما يفتح الباب أما خيارات ليس أقلها تغيير التركيبة الحالية للمجلس مع وجوب مراعاة الانسجام والمسؤولية في المرشحين لعضويته في المستقبل إلا أن هذا التغيير الّذي يبدو أن لا مفر منه سيفتح بطبيعة الحال الباب أمام إدراج تعديلات على نص الاتفاق السياسي و هو غاية منى الأطراف التي عطلت إنفاذ الاتفاق ومروره عبر مجلس النواب ففتحُ الاتفاق السياسي أمام تعديل طفيف سيفتح أبوابا أخرى كثيرة أمام تعديلات ربما لا قبل لليبيين بانتظار آوان الانتهاء من نقاشها إلا أن وطئ واد التعديلات يبدو بالفعل أمرا مفروغا منه إذ تحدث المبعوث الأممي مارتن كوبلر عن أن الدخول فيها أصبح مسألة وقت و أن النقاشات حول شكلها و حدودها قد بدأت بالفعل.
الثقل العسكري و السياسي للثورة الليبية يتمركز في مدينة مصراته فإن إنهاك هذه المدينة على جبهات مختلفة و متباعدة سيمثل إنهاكً للثورة
بينما يخوض الخائضون في شأن الاتفاق السياسي وفي أمر تعديلات يبدو أمرها منتهيا يخوض حفتر تحدّ قديم جديد، قديم قدم نواياه التوسعية نحو إرساء حكم عسكري يكرّس مجده وجديد من حيث الأهداف والوسائل وفي قلب وسائل اللواء المتقاعد الجديدة يقف محمد بن نايل أحد قيادات كتائب القذافي سيئة الصيت ويقود بن نايل هذا ما يعرف باللواء الثاني عشر مجحفل و يتخذ من القاعدة العسكرية براك الشاطئ مقرا له ومن الواضح أن خطة اللواء المتقاعد تسير عبر خلق بؤرة توتر في الجنوب الليبي تعمل على استدراج القوة الثالثة المحسوبة على مصراته.
وإنهاكها على جبهات مختلفة و إذا انطلقنا من الفكرة القائلة بأن الثقل العسكري و السياسي للثورة الليبية يتمركز في مدينة مصراته فإن إنهاك هذه المدينة على جبهات مختلفة و متباعدة سيمثل إنهاكً للثورة و لقوى التغيير في ليبيا و من أجل ذلك يبدو أن اللواء المتقاعد يعمل على خلق مشهد عسكري تتميز ملامحه بإشغالِ القوة الثالثة المتمركزة في الجنوب عبر تحرّش متواصل بها وعبر عمليات قصف لمناطق تمركزها و يتم ذلك إما عبر طائرات حفتر أو الطائرات المصرية أو الإماراتية و قد حاولت إحدى هذه الطائرات في يناير الماضي اغتيال رئيس المجلس العسكري لمصراتة إبراهيم بيت المال بينما كان في زيارة لمطار الجفرة
لا تتوقف خطورة هذه العملية عند البعد العسكري بل تتجاوزه إلى البعد الاستخباراتي ( إذ من أين لحفتر بمثل هذه المعلومة و الحال أن القصف كان دقيقا في المكان و الموعد)
ولا تتوقف خطورة هذه العملية عند البعد العسكري بل تتجاوزه إلى البعد الاستخباراتي ( إذ من أين لحفتر بمثل هذه المعلومة و الحال أن القصف كان دقيقا في المكان و الموعد ) و عدى عمليات القصف هذه فإن الوضع الميداني الساخن بين قوات بن نايل و القوة الثالثة يبدو قابلا للانفجار خاصة إذا علمنا أن قوات بن نايل قد عمدت و تعمد إلى استفزاز القوة الثالثة عديد المرات و فضلا عن كل ذلك فإن قوات إضافية من مرتزقة العدل و المساواة تتمركز في مدينة زلّة الجنوبية و هي على اتم الاستعداد للدخول في مواجهة عسكرية إلى جانب اللواء المتقاعد في حال اتسعت رقعة المعركة دون أن ننسى وجود قوات قبائل التبو المتعاطفة بطبعها مع عملية الكرامة و التي خاضت قتالا دون هوادة مع خصومها في الجنوب الليبي قبائل الطوارق عندما ساندت هذه الأخيرة عملية فجر ليبيا .
لا تتوقف قائمة الأطراف التي من الممكن أن تنهك قوى الثورة أو تدخل في حرب معها إذ أن مقاتلي تنظيم الدولة الفارين من سرت كما أولئك الّذين سمح لهم حفتر بمغادرة بنغازي قد تجمعوا بالفعل في بني وليد ( 120 كم جنوب شرق مصراته ) و من الممكن أن يشكلوا عامل إنهاك إضافي لقوات مصراته والشواهد على ذلك كثيرة أهمها ما صرّح به قيادي عسكري على علاقة بحفتر لأحد الوجوه الإعلامية المعروفة في تسجيل مسّرب من وجوب إخفاء هذه القوات في بني وليد وأن لا يسمح لها بحمل رايات تنظيم الدولة في أي تحرك مرتقب لها والأرجح أن قوات تنظيم الدولة هذه لم يسمح لها بالتجمّع هناك إلا لإعطائها فرصة الانتقام من هزيمتها ابان معركة البنيان المرصوص التي كانت مدينة سرت مسرحا لها.
نجح اللواء العنيد في ضم الهلال النفطي قبل أشهر قليلة دون قتال يذكر و عبر ما يشبه الانقلاب داخل جهاز حرس المنشئات النفطية
في الأسابيع الفارطة بدا حفتر سائرا في تطبيق هذا المسعى بشكل مباشر من خلال التراكم البطيء كيف لا وقد نجح اللواء العنيد في ضم الهلال النفطي قبل أشهر قليلة دون قتال يذكر و عبر ما يشبه الانقلاب داخل جهاز حرس المنشئات النفطية وهو انقلاب سيذكر آمر الجهاز السابق إبراهيم الجضران تفاصيله طول حياته و إذا كان العناد المستحكم صفة أصيلة لدى الليبيين فإن عناد حفتر قد اصطدم بعناد تشكيل من أبناء بنغازي الرافضين لعملية الكرامة أطلقوا على أنفسهم اسم سرايا الدفاع ،هؤلاء اختطفوا في هجوم مباغت من رصيد حفتر الاستراتيجي مينائي السدرة و راس لانوف و كانوا قاب قوسين أو أدنى من التوسع أكثر من ذلك لو كان رفاقهم في الثورة و في السلاح أكثر كياسة و مبدئية أما و الحال غير ذلك فقد تراجعت قوات السرايا بعد أيام تاركة ورائها ما غنمته بفضل هجومها الجريء إلا أن ما أظهرته هذه القوات من جرأة و من تنظيم و من سرعة في الحركة و ما أظهرته قوات حفتر من جبن ومن تفكك ومن انهزامية ينبئ بأن أوراق القوة لدى اللواء المتقاعد لا تفي بغرض أطماعه و طموحاته رغم السند الإقليمي و الدولي المادي و السياسي الظاهر منه و الخفي .
بعد هجوم السرايا الأخير يتراءى المشهد سياسيا وعسكريا كالتالي:
يريد حفتر تثبيت نفسه كرقم مهم في أي تسوية سياسية ومن أجل ذلك يعمل على التوسع أكثر في مناطق سيطرته و يخطط ( أو هذا ما يبدو ) للتوسع في الجنوب و في هذا السياق يلقى دعما عسكريا مصريا إماراتيا لا تخطئه عين المراقب رغم ما تظهره الدولتان من نوايا البحث عن الحلول السليمة و في المقابل يتبين ضعف قوات حفتر و عجزها عن الحسم في مناطق و عن تحقيق اختراقات في مناطق أخرى كما يتناقص عدد مقاتليه بشكل لافت ولا يمكنه في كل المعارك والمواجهات التعويل على دور ميليشيات العدل و المساواة ،في الأثناء تتربص سرايا الدفاع عن بنغازي وعدد من كتائب البنيان المرصوص بحفتر و إذا كان هجومها الأخير على منطقة الهلال قد فشل بسبب تخاذل هنا و تقصير هناك فإن الهجوم اللاحق و هو قادم لا محالة سيتلافى أخطاء التحرك الأخير ولتجنّب ذلك من الممكن أن يفكر حفتر في خيارين إما أحدهما أو كلاهما و هما إشعال حرب في الجنوب مع فتح جبهة في بني وليد (أو/و) محاولة إرباك أمن العاصمة طرابلس إما عبر مجموعات داخلها.
إذ نستعرض هذه المحطات التي ميّزت عمل المجلس الرئاسي في فترات متباعدة ومختلفة طوال سنة من حكمه المفترض فليس فقط للتدليل على ضعفه وهشاشته وتواضع أدائه بل كذلك للتنبيه إلى ما يتهدد رصيد المنجز في الثورة الليبية
(وليست محاولة تفجير السفارة الإيطالية ببعيدة عن الأذهان ) أو عبر مجموعات أخرى تتمركز بالقرب منها و قد يلعب ما يعرف بجيش القبائل في هذا السياق دورا ما في حالِ توصّل حفتر إلى حل خلافه مع قائد هذه المجموعة عمر تنتوش وبين هذين المعسكرين يتسلّل الطرف الروسي لاعبا جديدا في المنطقة و في حين أكدت رويترز منذ أيام وجود قوات روسية في الشرق إلى جانب حفتر كذّب الروس الأمر قبل أن يعود قائد القوات الأمريكية في إفريقيا ليكذب تكذيبهم مؤكدا بشكل قطعي وجود هذه القوات .
عل الرغم من أن معطيات المشهد هذه أساسية في فهم الشكل الّذي سيأخذه النزاع لدى هذا المعسكر أو ذاك فإن معطيات أخرى كثيرة وعلى درجة شديدة من الأهمية لا تبدو الإجابات عنها متاحة إلى حد الأن بل هي أسئلة أكثر من كونها معطيات واضحة التفاصيل فمثلا ،ما شكل التعديلات القادمة في نص الاتفاق و كيف سيتسعد كل طرف من الأطراف الى تطويعها لصالحه و هل سيخرج المجلس الرئاسي من حالة التردد و الارتباك إلى مواقف أكثر حزما و مبدئية و هل سيمضي داعمو حفتر الإقليميون والدوليون حدّ دفعه باتجاه مغامرة عسكرية في الجنوب.
ماذا لو أعادت قوات السرايا الهجوم على الموانئ وماذا لو وجدت مضادات الطيران المحمولة على الكتف طريقها إلى أيادي جنود السرايا في هجومها المرتقب وماذا ستكون ردة فعل الجزائريين لو حاول حفتر العبث بما يعتبرونه عمقا لأمنهم القومي
وماذا لو أعادت قوات السرايا الهجوم على الموانئ وماذا لو وجدت مضادات الطيران المحمولة على الكتف طريقها إلى أيادي جنود السرايا في هجومها المرتقب وماذا ستكون ردة فعل الجزائريين لو حاول حفتر العبث بما يعتبرونه عمقا لأمنهم القومي و كيف ستكون ردة فعل الجنرال علي كنة المعروف بقربه من الجزائريين و المتواجد مع قواته على الحدود الجزائرية الليبية في حال حمي وطيس الحرب و تصاعد دخانها من الجنوب ؟
بعدد هذه الأسئلة تتزاحم الاحتمالات التي يبدو المشهد الليبي مفتوحا عليها بيد أن كل هذه الأسئلة التي تحمل في ثناياها تقديرات وقراءات ليست سوى مجموعة من الفرضيات في بلد عودنا منذ ثار على القذافي ومع كل حدث ومحطة على انبثاق فرضيات وأحداث تفلت في كثير من الأحيان من أشد المتابعين فهما للأحداث وأكثرهم استيعابا لتفاصيلها وخفاياها.