يبدو أن مسألة حقوق الإنسان في تونس بدأت تأخذ منحى جديدًا، بعد أن قررت عائلات المعتقلين السياسيين تدويل قضية الانتهاكات التي يتعرض لها ذووهم، عبر تقديم قضية أمام محكمة الجنايات الدولية، وهي المرة الأولى منذ انقلاب قيس سعيّد وسيطرته على حكم البلاد صيف 2021.
قضية من شأنها أن تسلط الضوء دوليًّا على انتهاكات نظام سعيّد بحق التونسيين، خاصة معارضيه والمهاجرين الأفارقة، وأن تزيد من عزلة النظام في وقت يبحث فيه عن تمويل موازنة البلاد “شبه الفارغة”، لكن كيف سيتعامل سعيّد مع هذا الأمر؟ هل سيوقف الانتهاكات بحق التونسيين أم أنه سيواصل طريقه غير مكترث؟
تفاصيل القضية
بدأ اليأس يتسلل إلى عائلات المعتقلين السياسيين في تونس من أن ينصفهم قضاء بلادهم، فمنذ 8 أشهر والمعتقلون في السجون دون أن يسمعهم قضاة التحقيق، رغم أن التهم الموجهة إليهم خطيرة وتصل أحكام بعضها إلى الإعدام.
تصرّ العائلات على براءة المعتقلين، فالتهم الموجهة إليهم واهية وفق محامي الدفاع، لكن القضاء ومن ورائه نظام الرئيس قيس سعيّد، يصرّان على مواصلة اعتقالهم دون النظر في قرائن البراءة، ودون تقديم أي أدلة تدينهم.
دفع هذا الأمر عائلات بعض المعتقلين إلى تقديم قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة التونسية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقّ المدنيين، وبشكل خاص ضد قادة وأحزاب المعارضة والتونسيين السود والمهاجرين والقضاة والصحفيين والمجتمع المدني.
عوض الإنصات لمطالب المضربين عن الطعام والنظر في القضية المرفوعة ضد الحكومة، ارتأى سعيّد مهاجمة معارضيه
رُفعت هذه القضية ضد كلّ من الرئيس قيس سعيّد، ووزيرة العدل ليلى جفال، ووزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين، ووزير الداخلية كمال الفقيه، ووزير الدفاع عماد مميش، وكل من سيكشف البحث عن ضلوعه في مظالم وممارسات لا إنسانية والتنكيل المعنوي والنفسي.
طالبت عائلات المعتقلين السياسيين بتدخل الوكيل لدى محكمة الجنايات الدولية، قصد تعيين وفد لزيارة تونس والبحث في وقائع هذه القضايا بشكل مستقل، في غياب سلطة قضائية مستقلة في هذا البلد العربي الذي يقوده نظام انقلابي منذ يوليو/ تموز 2021.
وقدمت القضية نيابة عن أفراد عائلات زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، والمعارض سعيد الفرجاني، والأمين العام السابق لحزب التيار غازي الشواشي، والناشطة السياسية شيماء عيسى التي قيد الإقامة الجبرية حاليًّا.
انتهاكات طالت الجميع
سلّطت القضية المرفوعة أمام محكمة الجنايات الدولية، الضوء على الانتهاكات التي أقدم عليها نظام سعيّد في السنتَين الأخيرتَين، خاصة المتعلقة بالمعتقلين السياسيين، ومنذ فبراير/ شباط الماضي شهدت تونس حملة واسعة من الاعتقالات استهدفت المعارضين لقرارات سعيّد، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين السابقين بالدولة وبرلمانيين، من بينهم قادة سياسيين تم اتهامهم فيما عُرف إعلاميًّا بقضية التآمر.
وفق جمعيات حقوقية، يتعرض المعتقلون على خلفية نشاطهم السياسي، أو لصفتهم كمسؤولين سابقين في الدولة التونسية، داخل السجن للتمييز، مع انتهاك لأغلب حقوقهم كموقوفين ما زالت لم تصدر ضدهم أي أحكام نهائية تقضي بسجنهم.
نتيجة وجبات الأكل غير الصحية، تدهورت صحة المعتقل عصام الشابي وأيضًا حالة جوهر بن مبارك، كما تم إيواء القاضي المعزول بشير العكرمي في مستشفى الأمراض العقلية، كما تعكرت الحالة الصحية للسياسي الصحبي عثيڨ، وكذلك ساءت الحالة الصحية لعبد الحميد الجلاصي، وتعرض مؤخرًا لأزمة صحية حادة على مستوى الكلى، ما استلزم نقله للمستشفى في أكثر من مناسبة للقيام بفحوصات مع تقديم مسكّنات لا أكثر.
تقول منظمة العفو الدولية إن “السلطات في تونس عادت بسرعة مخيفة إلى الأساليب القمعية القديمة، وإن اعتقال المعارضين وسجنهم بتهم غامضة يبعثان برسالة مروعة مفادها أنه لا يمكن لأحد في تونس التعبير عن آرائه بحرية دون خوف من انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال والاحتجاز التعسفيَّين”.
الانتهاكات لم تطل المعتقلين فقط، إنما شملت أغلب التونسيين، إذ مُنع عليهم التعبير عن نقدهم للوضع السائد، وتم إصدار المرسوم 54 لهذا الغرض، وتم منع التظاهرات والاحتجاجات بحجّة قانون الطوارئ، وطالت الانتهاكات الصحفيين ووسائل الإعلام أيضًا، وتم تسليط رقابة مسبقة عليهم.
يقبع في سجون سعيّد صحفيان (شذى الحاج مبارك وغسان بن خليفة)، ووُجّهت إليهما تهم في علاقة بالإرهاب، كما اُعتقل مؤخرًا الصحفي ياسين الرمضاني للتحقيق في تدوينة منسوبة إليه، انتقد فيها وزير الداخلية الأسبق توفيق شرف الدين، ويواجه الرمضاني تهمة التشهير بالغير والإضرار به معنويًّا عبر استخدام أنظمة معلوماتية، وذلك ضمن شكوى حرّكها ضده الوزير الأسبق.
كما سلطت القضية أيضًا الضوء على الانتهاكات بحقّ المهاجرين واللاجئين من أفريقيا جنوب الصحراء، فضلًا عن تونسيين من ذوي البشرة السمراء، تعرضوا للاضطهاد وسوء المعاملة على يد السلطات، حسب شهاداتهم.
إذ تعرض المهاجرون الأفارقة في الأشهر الأخير لعدة انتهاكات وتضييقات في تونس، خاصة بعد خطاب الرئيس سعيّد ضد المهاجرين القادمين من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، إذ قال إن هؤلاء المهاجرين جزء من مؤامرة تستهدف تغيير التركيبة الديموغرافية لبلاده الواقعة في شمال أفريقيا.
في أعقاب تصريحات سعيّد، تسارعت الانتهاكات بحقّ المهاجرين الأفارقة، وشُنّت حملة أمنية ضدّهم، وتم طرد عدد منهم من منازلهم وطُرد الكثير من أعمالهم، كما تم اقتيادهم إلى الصحراء، ما أدّى إلى موت بعضهم عطشًا وجوعًا.
معركة الأمعاء الخاوية
بالتزامن مع رفع القضية أمام القضاء الدولي، بدأت شخصيات سياسية وحزبية في تونس وخارجها إضرابًا عن الطعام، “مساندة للمساجين السياسيين” الذين بدؤوا إضرابًا قبل أيام، وشارك في هذه الإضرابات الرمزية التضامنية العشرات من السياسيين.
ومن أبرز الشخصيات التي أعلنت خوضها “معركة الأمعاء الخاوية” من خارج تونس، الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، فضلًا عن المعارض المصري أيمن نور.
يخوض حاليًّا كل من جوهر بن مبارك وعصام الشابي وعبد الحميد الجلاصي وغازي الشواشي وخيام التركي ورضا بلحاج إضرابًا عن الطعام، احتجاجًا على تواصل ما وصفوه بـ”المهزلة القضائية التي تتذرّع بها السلطة لحرمانهم من حريتهم طيلة أشهر عديدة، من دون تقديم أي دليل على الاتهامات التي وُجّهت لهم”.
واضطر هؤلاء لخوض معركة الأمعاء الخاوية رغم خطورتها على صحتهم، رغبة منهم في تسليط الضوء على المعاناة التي يواجهها المعتقلون السياسيون منذ نحو 8 أشهر، دون أن ينظر القضاء في التهم الموجهة إليهم.
سعيّد يواصل التجاهل
عادة ما تلجأ الحكومات للتفاوض مع المساجين في حال دخولهم في إضراب عن الطعام أو قرارهم الاحتجاج بأي طريقة كانت ضد الانتهاكات التي يتعرضون إليها، لكن الأمر في تونس مختلف، فالسلطة، وعلى رأسها قيس سعيّد، غير مكترثة بما يحصل من انتهاكات بحقّ المعتقلين والتونسيين بصفة عامة.
يبدو أن السلطة في تونس بقيادة رجل القانون الدستوري قيس سعيّد، مكترثة فقط بتوطيد أركان حكمها، وبسط نفوذها في كامل مؤسسات الدولة حتى يعبّد إليها الطريق، وتنفّذ مخططاتها التي لا تضع أي اعتبار لحقوق التونسيين ومشاغلهم.
يصرّ سعيّد على مواصلة نهجه بحجّة الحفاظ على السيادة الوطنية.
عوض الإنصات لمطالب المضربين عن الطعام والنظر في القضية المرفوعة ضد الحكومة، ارتأى الرئيس سعيّد كعادته مهاجمة معارضيه، منتقدًا قرارهم الإضراب عن الأكل، قائلًا: “كانوا يعارضون بشدة طيلة السنوات الماضية الأحزاب الحاكمة، واليوم يتحالفون معها”.
وتابع سعيّد بالقول أثناء جولة ليلية، إن الأمر بلغ حد وصف رئيس أحد هذه الأحزاب بـ”السفاح”، واليوم “يتحالفون معهم ويتضامنون معهم في إضراب الجوع”، وفق تعبيره، وختم حديثه بالقول: “لا إضراب جوع ولا شيء”.
هذه ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها سعيّد معارضيه، إذ دائمًا ما يصفهم بالخونة والمتآمرين والعملاء، ويرفض الرئيس التونسي الاتهامات الموجهة إليه بانتهاك حقوق الإنسان، واستغلال قطاعَي الأمن والقضاء للتنكيل بالمعارضة.
مزيد العزلة للنظام
لم يسمع الرئيس قيس سعيّد من قبل مطالب المحامين وعائلات المعتقلين ولا المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية، بشأن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووضع حد للانتهاكات التي يتعرض لها التونسيون الذين يعارضون نظام الحكم.
ما دفع عدة دول إلى التعبير عن قلقها وعدم ارتياحها للوضع العام في تونس، ودفعها إلى اتخاذ قرارات أحادية وجماعية بتقييد المساعدات لتونس، في وقت يشهد فيه اقتصاد هذا البلد العربي أزمات كبرى لها أن تجرّه نحو الانهيار.
وسبق أن جمّد صندوق النقد قرضًا لتونس بقيمة 1.9 مليار دولار، ومن جملة الأسباب التي دفعت الصندوق لذلك واقع حقوق الإنسان في هذا البلد، ومع ذلك يصرّ سعيّد على مواصلة نهجه بحجّة الحفاظ على السيادة الوطنية.
من شأن تجاهل سعيّد مطالب المعتقلين ومنحه الضوء الأخضر للقضاة وقوات الأمن لمواصلة الانتهاكات بحقّ التونسيين، أن يزيد من متاعب الشعب واقتصاد البلاد، ويسرّع انهيار تونس.