كانت أشهر وسيلة للدفاع عن النفس، وأبرز طريقة لمقارعة الأعداء في الحروب، لا يشتد عود الرجل حتى يبرع بها، ولا تكتمل فروسية الفارس حتى يتقن فنونها، إنها رياضة المبارزة بالسيف، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر في زمن مضى، قبل أن تتحول اليوم إلى مجرد لعبة رياضية.
فماذا عن تاريخ هذه اللعبة التي سُميت برياضة النبلاء؟ وما الدور الذي لعبته في حياة أجدادنا العرب والمسلمين؟ وما أهم التحولات التي طرأت على المبارزة في عصرنا الراهن؟ ومن هم أبرز أبطالها الصناديد في الماضي والحاضر؟ كل ذلك سنعرفه في سياق التقرير الموسع التالي:
النقوش الأثرية تظهر ممارسة المصريين القدامى لرياضة المبارزة قبل 3000 عام
ليس هناك تاريخٌ واضحٌ لظهور فن المبارزة، فهو من أساليب البقاء التي ابتكرها الإنسان القديم لدرء الأخطار عن نفسه، ولكن أقدم برهان مادي دل على ممارسة المبارزة بانتظام، وُجد على جدران المقابر الفرعونية في مصر، حيث أظهرت كثيرٌ من النقوش والرسوم التي يعود تاريخها إلى أكثر من 3000 عامًا، أشخاصًا يحملون في أيديهم العصي والسيوف، ويتبارزون بها بأساليب قريبة من الأساليب التي عُرفت لاحقًا، والتي راجت بين شعوب جل الحضارات القديمة، كالإغريق والفرس والرومان، الذين أولوا المبارزة اهتمامًا كبيرًا في تجهيز مقاتليهم وتقوية جيوشهم، من أجل خوض المعارك التي كان سلاح السيف هو الأبرز فيها.
لا غرابة إذًا في رواج فن المبارزة بالسيف عند أجدادنا العرب، فقد كان جزءًا من حياتهم العامة وموروثهم الشعبي الذي تناقله الأبناء عن الآباء، إلى درجة كان فيها فخر العربي وعزته يكمن في سيفه!
وجاء الدين الإسلامي ليحافظ على هذا الموروث، بل ويشجعه ويزكيه باعتباره الوسيلة المعروفة لدفاع المرء عن نفسه وأرضه وعرضه، حيث كان النبي محمد “صلى الله عليه وسلم” أحد من أتقنوا استخدام السيف، إلى جانب عدد من كبار الصحابة الكرام “رضي الله عنهم”، كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرو، وجميعهم كانوا من خيرة المقاتلين والقادة العسكريين، إلا أن أشهرهم على الإطلاق في فنون القتال والتخطيط العسكري، كان القائد والصحابي الجليل خالد بن الوليد، الذي اشتُهر بلقب أسبغه عليه رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وهو: “سيف الله المسلول”.
أجدادنا العرب أتقنوا استخدام السيف
ولم يقتصر تأثير السيف في حياة العرب على الأمور العسكرية، بل كان له دور الملهم في أعمال أشهر أدباء وشعراء عصرهم، فهذا الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد، يتغزل بحبيبته مشبهًا لمعان أسنانها ببريق السيوف بقوله:
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها .. لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وهذا الشاعر العباسي أبو تمام يفتتح رائعته الشعرية التي وصف بها انتصار المعتصم في عمورية بقوله:
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب.. في حده الحدُ بين الجد واللعب
وهذا أبو الطيب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره، يفخر بإتقانه استعمال السيف قائلًا:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني .. والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
وهذا غيضٌ من فيض بالطبع، إذ يصعب حصر الدور الكبير الذي لعبه السيف في الأدب العربي، كما يصعب إحصاء الأسماء التي أطلقت عليه في لغتنا العربية، ومنها:
الحسام، المهند، البتار، الصارم، البارق، القاطع، الأحدب، العضب، الصمصام، الظامي.
لوحةٌ فنيةٌ تمثل المبارزة بين النبلاء في أوروبا
وفي عز زهوته وتألقه، تلقى السيف طعنةً في الصميم، أخمدت جذوته وأخملت ذكره حتى حين، وذلك باختراع البارود وظهور الأسلحة النارية في القرن الـ14، ليتضاءل دور الأسلحة البيضاء عمومًا، وتختفي المبارزة بالسيف من قاموس الأساليب الحربية، وتتحول إلى مجرد رياضة ترفيهية راجت بين صفوف بعض أبناء طبقة النبلاء في دول غرب القارة الأوروبية، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، حيث كانت تُعقد المنازلات بينهم على مرأى من الناس، وتنتهي غالبًا بمقتل أحدهم أو إصابته بجرح بليغ، وقد تنامت تلك الظاهرة مع الوقت وبلغت مبلغًا خطيرًا مطلع القرن الـ16، حيث قُتل جراءها أكثر من 2000 نبيل في فرنسا وحدها، مما حدا بالملك الفرنسي إلى تحريم تلك المنازلات وحظرها.
ولأن الحاجة أم الاختراع، لجأ عشاق المبارزة على مدى العقود التالية، لابتكار طرق جديدة بغية حمايتها من النسيان والاندثار، فقاموا بتعديل أنواع الأسلحة لتصبح أكثر أمنًا، كما قاموا بتطوير سبل الوقاية للجسد والرأس، وسنوا بضعة قوانين من شأنها الحد من أذى هذه الرياضة مع الحفاظ على متعتها، فأصبح النصر في المبارزة يتحقق بإحراز النقاط عبر الضربات الصحيحة، بعد أن كان يتطلب القضاء على الخصم أو جرحه، لتعود الحياة إلى هذه الرياضة، وتصبح لها أنديتها ومدارسها على امتداد القارة الأوروبية، وتُتوج تلك الجهود باعتماد المبارزة ضمن منهاج الألعاب الأولمبية الصيفية، منذ دورتها الأولى التي أقيمت في أثينا عام 1896.
رسمٌ يوضح أنواع الأسلحة الـ3 والفروق في استخدامها
وتعتمد رياضة المبارزة بشكلها الحديث على 3 أسلحة، تختلف من حيث المواصفات والشكل، كما تختلف من حيث القوانين الناظمة:
-أولها سلاح الشيش Foil، الذي يبلغ وزنه 500 غ، وطوله 110 سم، وطول نصله 90 سم، ويُسمح فيه باللمسات على الصدر والجذع والظهر فقط.
-والسلاح الثاني هو سيف المبارزة Epee، وهو أثقل الأسلحة وزنًا، إذ يزن 770 غ، ويبلغ طوله 110 سم، وطول نصله 90 سم، ويسمح فيه باللمسات على جميع أجزاء الجسم.
-أما السلاح الثالث فهو السيف العربي Sabre، الذي يعد أخف الأسلحة وزنًا وأقصرها طولًا، إذ يزن 400 غ، ويبلغ طوله 105 سم، وطول نصله 88 سم، ويُسمح فيه باللمسات على جميع أجزاء القسم العلوي من الجسم، بما في ذلك الرأس والذراعان.
معدات المبارز
ويرتدي المتبارزون بزات بيضاء مبطنة، إضافةً إلى أقنعة واقية وقفازات، وتُقام منافسات اللعبة على ملعب مصنوع من معدن عازل للمسات الأرضية، بطول 14 مترًا وعرض مترين، يتميز بوجود جهاز التحكيم الالكتروني، الذي يتكون من سلك كهربائي ملصق بنصل السلاح، ومتصل بمصابيح حمراء أو خضراء، تضيء بمجرد تسجيل المبارز لمسةً صحيحة، ويفوز بالمنازلة المبارز الذي يسبق خصمه بتسجيل 5 لمسات صحيحة في منافسات الدور الأول، و15 لمسةً في منافسات أدوار خروج المغلوب، التي تتألف من 3 جولات مدة كل منها 3 دقائق، بعكس الأدوار الأولى التي تتكون من شوط واحد مدته 4 دقائق.
وفي حال فشل المتبارزين في تحقيق عدد اللمسات المطلوبة للفوز المباشر، يربح المبارزة من يسجل عدد لمسات أكبر عند نهاية الزمن المخصص، ويحق للحكم توجيه إنذار للمبارز عند مخالفته، ومن ثم تسجيل لمسة ضده في حال التكرار، وصولًا إلى الطرد النهائي في حال رفض المبارز الانصياع لتعليمات الحكم، وتتشابه قوانين منافسات الفرق مع الفردي من حيث طرق احتساب النقاط، وتختلف عنها فقط في عدد الجولات وزمنها وعدد اللمسات الحاسمة المطلوبة.
جانبٌ من منافسات المبارزة في أولمبياد ريو 2016
وبالانتقال إلى أهم بطولات اللعبة وأبطالها، نجد أن المبارزة تحظى بركن ثابت ضمن دورات الألعاب الأولمبية، حيث تُقام 5 فعاليات للرجال ومثلها للسيدات، في رياضات الأسلحة الـ3 للفردي والمنتخبات، وتتفوق الدول الأوروبية في الترتيب العام للمبارزة الأولمبية، إذ تتصدر إيطاليا الترتيب متبوعةً بفرنسا فالمجر، وفي منافسات أولمبياد ريو الأخير عام 2016، شارك 212 مبارزًا ومبارزةً من 48 بلدًا، وتفوق مبارزو روسيا على الجميع بإحرازهم المركز الأول في الترتيب النهائي للميداليات.
أما في منافسات بطولة العالم للمبارزة، التي تقام منذ عام 1921 تحت إشراف الاتحاد الدولي للعبة FIE، الذي تأسس منذ عام 1919، فيتفوق أبطال وبطلات روسيا والاتحاد السوفييتي سابقًا، على نظرائهم من إيطاليا والمجر وفرنسا، الذين يحتلون المراكز التالية تباعًا، علمًا أن بطولة العالم الأخيرة أقيمت في موسكو عام 2015، بمشاركة 912 مبارزًا ومبارزةً من 108 بلدان، قد انتهت بتصدر روسيا وإيطاليا جدول الترتيب النهائي للميداليات.
التونسية إيناس بوبكري حققت ميداليةً برونزيةً في أولمبياد ريو
ونختتم حديثنا بالحديث عن إنجازات المبارزة العربية على الصعيد العالمي، حيث تأخر حصاد المبارزين العرب في الألعاب الأولمبية حتى دورة لندن عام 2012، والتي شهدت إحراز المصري علاء الدين أبو القاسم أول ميداليات العرب الأولمبية في لعبة المبارزة، وذلك بفوزه بفضية سلاح الشيش، قبل أن تنجح البطلة التونسية إيناس بوبكري في إحراز برونزية السلاح نفسه، خلال دورة ريو دي جانيرو الأولمبية الأخيرة عام 2016.
وعلى صعيد بطولات العالم، تمتلك مصر تاريخًا جيدًا في سجلات اللعبة، حيث تزخر خزائنها بـ7 ميداليات برونزية، جاء معظمها في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي، فيما نجحت تونس في تدوين اسمها ضمن سجلات بطولات العالم مؤخرًا، بعد فوز بطلتيها إيناس بوبكري وسارة بسباس بميداليتين برونزيتين، تحققتا خلال بطولتي العالم الأخيرتين اللتين أقيمتا عامي 2014 و2015.