“التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، والتعلم في الكبر كالنقش على الماء”
هذا ما أخبرونا إياه، وآمنا به، وبسبب هذه المقولة، صارت أي معلومة قيلت لنا ونحن صِغار، محفورة في أذهاننا، لا يُمكن مراجعتها أو التشكيك في صحتها، أو البحث وراء أصلها وفصلها، وكأنها ناموس من نواميس الكون، ثم زاد الطين بلة، انتشار الإنترنت ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، فصار كل شخص طبيب نفسه وأسرته عبر البحث عما يريد معرفته خلال محركات البحث ومتابعة البرامج الحوارية التي يتصدر مشهدها مقدمون لهم “كاريزما” وحضور طاغٍ، مما يجعل أي معلومة يقولونها وكأنها قرآن منزل، دون الأخذ في الاعتبار، وجود رعاة وشركات معلنة، في القنوات التليفزيونية والصحف، تَدفع مقابل كل ما يُقال ويخدم مصلحتها الشخصية وأجندتها الخاصة.
لكن العلم والأبحاث العلمية والتجارب التي لا تتوقف، تفند وتدحض كل يوم واحدة من هذه المفاهيم التي نظن أنها نواميس راسخة لا يجوز المساس بها، وتؤكد خطأها وعدم صحتها بأدلة قاطعة.
ورغم ذلك لا تزال هذه الخرافات – التي تم إثبات خطئها – تتردد في وسائل الإعلام وبين الآباء وتُلقن لصغار آخرين – سواء عبر ذويهم، أو معلميهم في المدارس – وكأنها حقائق مطلقة مُثبتة علميًا وتاريخيًا، ولا يمكن أن يُشكك فيها إلا خَرِف أو مهرطق.
في هذا التقرير نستعرض معكم بعض أشهر هذه الحقائق العلمية الزائفة التي كنا – في وقت ما – نعتقد في صحتها المطلقة، ولا تزال تتردد يوميًا، دون أن نعلم أن العلماء والأبحاث أثبتوا خطأها منذ أمد.
سنحترق جميعًا وستفنى الحياة على الأرض لو اقترب كوكبنا من الشمس عشرة أقدام!
“سنحترق لو اقتربنا من الشمس، وسنتجمد لو ابتعدنا عن الشمس”
واحدة من الخرافات التي صدقناها وآمنا بها وظللنا نرددها عن يقين تام، حتى إن البعض يعتقد فيها ويظن أن هذه المعلومة – المغلوطة – دليل على عظمة إله الكون، الذي كل شيء لديه بمقدار.
حيث تقول الخرافة الشائعة، إن متوسط المسافة المقدرة بين كوكب الأرض والنجم الساطع، تُقدر بنحو 150 مليون كيلومتر، ومجرد اقتراب الأرض أو ابتعادها عن الشمس بمسافة 10 أقدام/ 3 أمتار أخرى، قد يتسبب في هلاك الحرث والنسل.
لكن الحقيقة غير ذلك، فنحن نقترب من الشمس ونبتعد عنها طول العام، دون أن نحترق أو نتجمد، وذلك لأن الأرض تدور حول الشمس في مدار بيضاوي، مما يجعل المسافة بينهما غير ثابتة ومتغيرة.
ففي شهر يناير تقترب الأرض من الشمس لتصل المسافة بينهما نحو 147 مليون كيلومتر، وفي يوليو تبتعد الأرض عن الشمس بمسافة 152 مليون كيلومتر، وابتعاد الأرض واقترابها من الشمس بهذه الملايين الكيلومترية الخمسة، يؤثر بلا شك في درجات الحرارة التي نشعر بها على الأرض، لكنها لا تتسبب في احتراقنا وتجمدنا.
النظام الشمسي
حتى إن العلماء أكدوا مؤخرًا أن انتقال الأرض لتحل محل كوكب الزهرة الذي يبتعد عن الشمس نحو مئة مليون كيلومتر، من شأنه رفع درجة الحرارة على الكوكب 40 درجة مئوية، مما يجعلها غير مناسبة للسكن والحياة، لكنه لن يحرقها كما نتخيل، وكما يردد مدرسو العلوم للأطفال في المدارس!
معظم البشر لا يستخدمون إلا 10% من قدرتهم العقلية!
” هل تعرف أنك تستخدم فقط 10% من دماغك؟ تخيل ما يمكن أن تنجزه إذا استخدمت الـ90% الباقية”
هذه المعلومة الشائعة والتي يتغنى بها مدربو التنمية البشرية، ويعتبرها العلماء والباحثون أسطورة خرافية، يعود أصلها إلى نظريات الطاقة الاحتياطية التي وُضعت من قِبل علماء النفس وليام جيمس وبوريس سيديس، في جامعة هارفارد في أواخر القرن التاسع عشر.
حيث قاما باختبار نظرية معجزة جيمس/ سيديس في درجة البلوغ والذكاء على 250-300 طفل، وتوصلا إلى أن الناس لا تلبي سوى جزء بسيط من إمكاناتهم العقلية الكاملة، وهي مطالب معقولة.
لكن خرافة الـ10%، انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم، بسبب ما كتبه توماس لويل عام 1936، في مقدمة كتاب “ديل كارنيجي”، الشهير: كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟، حين ادّعى زورًا أن البروفيسور ويليام جيمس من جامعة هارفارد كان يقول إن الإنسان العادي يستخدم 10% فقط من قدراته العقلية الكامنة، رغم أن نتيجة اختبار جيمس/ سيديس كانت تتحدث عن الإمكانات غير المستغلة، لا القدرات العقلية، ولم تحدد نسبة كما يدعي مدربو التنمية البشرية والتفكير الإيجابي حول العالم.
باحث في علم المخ والأعصاب، يحمل بين يديه “مخًا بشريًا”
وفي محاولة من العلماء لدحض هذه المعلومة الخاطئة والتي للأسف يرددها ثلث أخصائيو علم النفس و6% من علماء الأعصاب حول العالم، فقد ذكروا العديد من الأسباب العلمية المثبتة التي تجعل أسطورة الـ10%، مجرد معلومة عارية من الصحة:
– أشعة تصوير الدماغ، تُظهر بوضوح أن كل مناطق الدماغ تقريبًا، تنشط في أثناء تأدية المهام الروتينية حتى مثل الكلام والمشي والاستماع إلى الموسيقى.
– لو أن أسطورة الـ10% صحيحة، لما تأثر الناس الذين يعانون من تلف في الدماغ، بسبب الحوادث أو السكتة الدماغية من أي تأثير حقيقي، فالحقيقة الملموسة، تؤكد أنه لا توجد منطقة واحدة في الدماغ يمكن أن تتلف دون أن تسفر عن خلل ما في الجسم.
– لو كنا نستعمل هذا القدر الضئيل من قدارتنا العقلية، لما استطاعت البشرية أن تتقدم هذا التقدم الهائل.
– يستخدم الدماغ نحو 20% من طاقة الجسم.
– بحوث رسم خرائط الدماغ لم تجد أي منطقة من الدماغ لا تخدم وظيفة معينة، فأنواع عديدة من دراسات تصوير الدماغ لم تظهر أن أي منطقة من الدماغ صامتة تمامًا أو غير نشطة، وقد كتبت د. راشيل فريمان، ود. آرون كارول”، في كتاب دراسة الأساطير الطبية: “الدراسة المفصلة للدماغ قد فشلت في تحديد منطقة الـ90% غير العاملة”.
الحلوى السكرية تزيد نشاط الأطفال وفرط الحركة لديهم!
“إذا أردت أن تفقد عقلك أو تصاب بلوثة عقلية، اطعم طفلك أطعمة سكرية”
واحدة من أكثر الأساطير شيوعًا بين الآباء والأمهات، فالكثير من الأهالي يمنعون أطفالهم من تناول المأكولات التي تحتوي على سكر أو الحلوى والمثلجات اللبنية والشوكولاتة، بعد الخامسة مساءً، لاعتقادهم الجازم أن السكر، يتسبب في زيادة نشاط أطفالهم وفرط حركتهم وبالتالي تمنعهم من النوم.
وانتشرت هذه المعلومة الخاطئة بعد انتشار “حمية فينجولد” عام 1974، تلك الحمية الغذائية منزوعة مواد النكهة والصبغات المصنعة والمضافات الغذائية، التي وضعها الطبيب بنجامين فينجولد بعد أبحاث علمية أوجدت صلة بين مضافات الأغذية وفرط الحركة، وعلى الرغم من أن هذه الأبحاث لم تذكر السكر، فإن السكر تم وضعه تحت تصنيف المضافات الغذائية، ثم صار لاحقًا هو المتهم الوحيد – دون مواد النكهة والصبغات والمواد الحافظة – بفرط الحركة والسلوك السيء للأطفال.
وبسبب شيوع هذه المعلومة الخاطئة، أجرى الباحثون العديد من الدراسات الطبية والنفسية والعديد من التجارب، التي أثبتت خطأ هذه المعلومة المسلّم بصحتها، حيث قاموا بمنح الأطفال أطعمة خالية من السكر وأطعمة أخرى تحتوي على السكر، دون أن يوضحوا أي الأطعمة خالية والأخرى تحتوي، ولم يلاحظ الباحثون أي تغيّر في سلوك الأطفال بعد تناول الخالية من السكر، عن سلوكهم بعد تناول الأطعمة السكرية.
كما قاموا في تجارب أخرى بإعطاء الأطفال أطعمة خالية تمامًا من السكر، وادّعوا أنها أطعمة سكرية، فجاءت ردود فعل الآباء وملاحظاتهم على سلوك الأطفال، متماثلة مع نفس الملاحظات التي أبدوها عند تناول أطفالهم أطعمة تحتوي فعلاً على السكر.
وفي عام 1982، أعلن المعهد الأمريكي الوطني للصحة، أنه لا صلة بين فرط الحركة وتناول السكر علميًا، وبرر الأطباء النفسيون والباحثون، الحماس وفرط الحركة والنشاط والتصرف بعشوائية والميل للمشاكسة وعدم إطاعة الأوامر والتعليمات الذي يعاني منه الأطفال، بعد تناول الحلوى والأطعمة السكرية، إلى إحساسهم الزائد بالمرح والفرح بعد تناول طعام سكري محبب إليهم، خاصة في حفلات أعياد الميلاد وتجمعات الأعياد.
كما أشاروا إلى أن الآباء يميلون إلى اتهام “السكر” بأنه المتسبب في سوء سلوك أطفالهم، بدلاً من الاعتراف بأن عدم إطاعتهم للأوامر، ناتجة عن خلل تربوي ما، لذلك لا يزال السكر “البريء” متهمًا بفرط حركة الأطفال، ولا يزال الآباء يرددون هذه المعلومة الخاطئة، كي يُبرروا نشاط أطفالهم الزائد.
اللقاحات تُسبب التوحد
“اللقاحات التي صنعتها شركات الأدوية كي تجني ثروات طائلة، تُصيب الأطفال بالتوحد”
هذه المعلومة الزائفة، الأكثر تداولاً بين الآباء حتى يومنا هذا، جاءت بسبب مقال نُشر عام 1998، في مجلة The Lancet – واحدة من أقدم وأشهر المجلات الطبية ذات السمعة الحسنة في العالم – يدّعي فيه الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد أن اللقاح الثلاثي ضد الحصبة والحصبة الألمانية والتهاب الغدة النكافية والمعروف باسم MMR، يُسبب داء التوحد، بعدما قام – على حد قوله – بإجراء دراسة على بعض الأطفال الذين تم تلقيحهم بلقاح الـMMR، وظهر عليهم بعد أربعة عشر شهرًا من التطعيم، أعراض توحدية.
الطبيب البريطاني النصاب أندرو ويكفيلد
ثم جاء في عام 2001، وزعم أنه وجد أجزاء من فيروس الحصبة في أنسجة بعض الأطفال المصابين بالتوحد، ونشر ورقة بحثية أخرى، يتهم فيها مادة الثمروزال الموجودة في اللقاح بأنها المتسببة في إصابة الأطفال بالتوحد، ومن هنا بدأ حماس الصحافة والبرامج الحوارية التليفزيونية في شن حملة ضد اللقاحات.
الأمر الذي تسبب في حالة ذعر بين الآباء البريطانيين، وبدأت حملات تضامنية من أجل عدم تلقيح الأطفال، كما بدأ ذوو الأطفال المتوحدين في مقاضاة شركات الأدوية المصنعة للقاح، وقلت نسبة استخدام اللقاح إلى 60% في عام 2006، وفي الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة الأطفال المصابون بالحصبة – تم تسجيل حالة وفاة لطفل من جرّاء إصابته بالحصبة -، لم تقل نسبة الأطفال المصابون بالتوحد.
لاحقًا، أثبت الصحفي بجريدة الصنداي تايمز برايان دير، أن بحث “ويكفيلد” ملفق، وأن الرجل مجرد محتال تلاعب بالأرقام والتواريخ وملاحظات الآباء ليتناسب مع ما يريد، وأن دراسته لم تخل من التحايل والممارسات الخاطئة وغير الأخلاقية مع الأطفال الذين شملتهم الدراسة.
وعلى الرغم من أن المجلس الطبي البريطاني قام بشطب ويكفيلد من سجل الممارسة الطبية عام 2010، بعدما تأكد من أنه لا توجد أي صلة بين اللقاحات وداء التوحد، وأعلنت الجريدة الطبية البريطانية أن هذا الأمر أسوأ خدعة طبية في تاريخ العلم، إلا أن هذه المعلومة الطبية الزائفة لا زالت تتردد حتى الآن بين الآباء، وفي برامج التليفزيون وفي الصحف.
الجانب الأيمن من الدماغ مسؤول عن السلوك الإبداعي والفني، والجانب الأيسر مسؤول عن التفكير العلمي والمنطقي
” إذا كنت مهتمًا بالتناسق والألوان والخيال فأنت تستخدم الجزء الأيمن من مخك، أما إذا كنت تميل إلى الأرقام والكلمات والمنطق والتحليل، فأنت تستخدم الجزء الأيسر من مخك”
تدّعي هذه المعلومة الزائفة أن ميول الناس وتخصصاتهم العلمية والدراسية وبراعتهم في مجال دونًا عن غيره، يتحكم فيه نصف المخ الذي يعمل لديهم دون النصف الآخر.
حيث تقول هذه المعلومة إن نصف المخ الأيمن والذي يتحكم في الجانب الأيسر من جسدك، يتحكم في السلوك الإبداعي والخيال والفن والموسيقى والشعر والأدب والألوان والرسم، أما الجانب الأيسر من مخك والذي يتحكم في الجزء الأيمن من الجسد، فهو المسؤول عن العمليات الحسابية والتجارب والدراسات العلمية والتفكير المنطقي التحليلي وتعلم اللغات.
وبناءً عليه انتشرت العديد من اختبارات الدماغ في كتب التحفيز النفسي وفي الصحف والمجلات ومن خلال الإنترنت، لتُرسخ لدى الناس هذه الحقيقة الزائفة.
صورة لنتيجة أحد اختبارات الدماغ الشائعة في مواقع التواصل الاجتماعي
وكان نظرية جزأي المخ الأيمن والأيسر، قد نشأت عندما قام روجر سيبري بدراسة الآثار الناتجة عن مرض الصرع، واكتشف أن عملية قطع الجزء التقني “الهيكل المسؤول عن ربط نصفي الدماغ” يعمل على تقليل أو إزالة التشنجات العصبية.
لكن الدراسات العلمية، أثبتت أن المخ يعمل كجزء واحد في العديد من المجالات، ولا يعمل منفصل بجزأيه، فمثلاً أظهرت الأبحاث الأخيرة أن الأشخاص يبرعون في الرياضيات وحل العمليات الحسابية عندما يعمل جزآ الدماغ معًا، ويؤكد علماء الأعصاب أن جزأي المخ، يتعاونان معًا لتنفيذ مجموعة واسعة من المهام وذلك من خلال تواصل الجسم التقني.
وفي دراسة قام بها باحثون في جامعة ولاية يوتا، شارك فيها أكثر من 1000مشترك، عن طريق تحليل أدمغتهم، من أجل تحديد ما إذا كانوا يستخدمون أحد أجزاء الدماغ بشكل تفضيلي عن الجزء الآخر، كشفت النتائج أن هناك نشاط أعلى في بعض المناطق الحساسة من الدماغ، إلا أن جزأي الدماغ متساويان في متوسط نشاطهما.
وعلى الرغم من اتفاق العديد من الدراسات العصبية على هذه النتيجة، فإن شعبية هذه الفكرة ورواجها لا يزال مستمرًا.