“الرسالة التي كتبها بشار إلى السيد (خامنئي).. شاهدوا كأن جنديًا كتب رسالة إلى قائده.. التقدير والشكر”، هكذا وصف العميد حسين همداني برمزية شكل العلاقة بين الرئيس السوري بشار الأسد والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، ويقول العميد همداني نقلًا عن المرشد الأعلى للثورة في موضع آخر: “بشار الأسد يقاتل بالوكالة، يقاتل نيابة عنا، يقاتل لنا”.
جاءت هذه العبارات في خطب للعميد همداني نقلها الفيلم الوثائقي القصير الذي أذاعته قناة الجزيرة الإخبارية ببرنامج للقصة بقية عن كتاب رسائل الأسماك، صدر الكتاب بعد مقتل العميد حسين همداني في مدينة حلب في أواخر عام 2015 ليسرد تاريخه الشخصي وجهوده في الملف السوري، في ذلك الفيلم، سُلط الضوء على تفاصيل مهمة في المراسلات التي تمت بين النظام السوري وفيلق القدس (وحدة النخبة) بالحرس الثوري الإيراني الذي كان العميد همداني يقوده في سوريا.
لا يمثل حزب الله ذراع طولي (وإن كان يتمتع باستقلالية معتبرة) لإيران في وجه إسرائيل فقط، ولكن قوة بشرية أيضًا تعمل كقوة إسناد عسكرية وأمنية بل ومالية لنشاطات الجمهورية في الإقليم والعالم
أولًا.. إيران ودوافع التدخل
لماذا تدخلت إيران إلى جانب النظام في دمشق لقمع الثورة السورية؟ يظل هذا السؤال المركزي غير محسوم حتى الآن رغم مرور ما يقارب سبع سنوات على اندلاع الثورة.
تندرج تحت هذا السؤال عددًا من الأسئلة الفرعية: هل تدخلت إيران للحفاظ على حليفها الاستراتيجي في دمشق وخطوط الإمداد المارة لحزب الله؟ أم كانت فرصة لإخضاع سوريا لها لتحويلها لمعقل شيعي؟ أم تدخلت لأنها رأت أن فقدان دمشق يعني عزل طهران؟ أم تدخلت بحوافز اقتصادية؟ أم جميع ما سبق مضافًا لهم أسئلة أخرى؟
هناك تكهنات سادت الكثير من المنصات الإعلامية الداعمة للثورة السورية، وعلى الرغم من عدم يقينيتها بوصفها تكهنات، فقد تحولت إلى كليشيهات من الصعب إخضاعها للمراجعة.
يظل الملمح الأساسي للكثير من هذه الكليشيهات هو اتسامها بالنزوع الطائفي، أو بتعبير آخر أكثر دقة اختزال دوافع تدخل إيران في سوريا في البعد الديني/ الطائفي (الشيعي)، الاختزال ممارسة سهلة في أوقات الاستقطاب، خاصة في وقت ربما رأى فيه الكثير من ناشطي الثورة ضرورة اصطفاف الجميع بأي ثمن، هكذا تعمل آلة الإعلام التي تحكمها قوانينها الخاصة والتي تهيمن على القائمين عليها.
كبلد يسعى للتحول إلى مهيمن إقليمي (Regional hegemon)، بجميع ما يحمله هذا المسمى من دلالات، لم تكن هذه التحركات تعني ضرب مشاريعها فقط، بل توجيه ضربة للصورة الذاتية ((Self-image للنخب السياسية الحاكمة قبالة المجتمع الإيراني
يقول العميد همداني نقلًا عن المرشد في إحدى كلماته التي نقلها وثائقي الجزيرة: “لو قبل أن يقوم بدعم حزب الله (في إشارة إلى بشار الأسد)، فهذا يكفي، لن نطالبه بشيء آخر”.
يعكس التصريح الأهمية المحورية لحزب الله بالنسبة لطهران وأهمية استمرار سوريا كممر لإمدادات طهران للحزب، لا يمثل الحزب ذراع طولي (وإن كان يتمتع باستقلالية معتبرة) لإيران في وجه إسرائيل فقط، ولكن قوة بشرية أيضًا تعمل كقوة إسناد عسكرية وأمنية بل ومالية لنشاطات الجمهورية في الإقليم والعالم.
كما أن استمرار الحزب يعني وجود قوة رادعة للنفوذ المناوئ لها القادم من المملكة العربية السعودية وشركائها في لبنان، ولم تكن خسارة سوريا بالنسبة لطهران لتعني خسارة خطوط الإمداد إلى حزب الله فقط بل تعني أيضًا خسارة قواعد بحرية على شواطئ سورية مطلة على شرق البحر المتوسط تستطيع السفن العسكرية الإيرانية التمركز فيها، فخسارة سوريا ومن ثم حزب الله يعني ضرب معركة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد ما يسمى “قوى الاستكبار العالمي” بالنسبة لصناع القرار في طهران.
وكبلد يسعى للتحول إلى مهيمن إقليمي (Regional hegemon)، بجميع ما يحمله هذا المسمى من دلالات، لم تكن هذه التحركات تعني ضرب مشاريعها فقط، بل توجيه ضربة للصورة الذاتية ((Self-image للنخب السياسية الحاكمة قبالة المجتمع الإيراني.
كان توسع وتطور وسائل نقل القوات الإيرانية والقوى المسلحة الشيعية الموالية لها في هذه الفضاءات الجغرافية الواسعة يعني ضرورة خلق ممر بري يربط إيران بسوريا عبر العراق في النهاية
مع توسع عسكرة الثورة السورية في عامها الثاني بعد القمع المتواصل الذي واجهته، جاءت الانتصارات المتتالية للفصائل السورية المعارضة أمام قوات النظام السوري في وقت فرض فيه الاتحاد الأوروبي عقوبات على استيراد النفط الإيراني وعزل فيه المصارف الإيرانية عن منظومة “السويفت” ((SWIFT الدولية في منتصف عام 2012 (على خلفية الملف النووي).
وفي الوقت الذي تم فيه توجيه ضربة موجعة للاقتصاد الإيراني الذي يعتمد على عائدات النفط كمصدر دخل رئيسي، ربما كان تصاعد النشاط العسكري المعارض للأسد يعني لصانعي القرار في طهران أن الغرب يوجه ضربات بصورة متزامنة ومخطط لها بهدف تركيعهم، وفي وقت ربما أدرك فيه صناع القرار في طهران فداحة استمرار اعتماد اقتصاد بلادهم على النفط، فإن فقدان سوريا يعني فقدان شريك تجاري واستثماري يستطيع مستقبلًا الإسهام في تنويع دخلها بتنمية صادراتها غير النفطية إليه، وربما استخدامه ليصبح ممرًا لإعادة تصدير صادراتها غير النفطية إلى الشرق الأوسط وأوروبا عبر موانيه البحرية.
بفعل توسع العمليات العسكرية لإيران في سوريا لصد تقدم قوات المعارضة والفصائل الإسلامية من جهة وصعود خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق من جهة أخرى، كان توسع وتطور وسائل نقل القوات الإيرانية والقوى المسلحة الشيعية الموالية لها في هذه الفضاءات الجغرافية الواسعة يعني ضرورة خلق ممر بري يربط إيران بسوريا عبر العراق في النهاية.
منذ الألفية الجديدة وتسعى إيران لإنشاء مجموعة طرق برية وسكك حديدية تربط موانيها الجنوبية بآسيا الوسطى، روسيا، وأخيرًا إلى أوروبا، وقد ظهرت ملامح المشروع عمليًا بعد العقد الأول
وهو تطور ليس له نتائج استراتيجية – عسكرية مهمة فقط لبلد يسعى لنشر نفوذه إقليميًا، ولكن له أيضًا نتائج على المستوى الاقتصادي إذ إن خلق ممر بري يعني إمكانية استنساخ الفكرة لخلق ممرات برية أخرى بهدف تجاري، بعد تطهير العمق السوري والعراقي من تنظيم الدولة الإسلامية.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية تقريرًا استقصائيًا بعنوان “وسط الفوضى السورية، خطة اللعب الإيرانية تنشأ: ممر إلى البحر المتوسط”، يتحدث التقرير عن جهود إيرانية حثيثة لإنشاء ممر بري يبدأ من إيران ويمر بوسط وشمال العراق وحتى شمال سوريا وصولًا إلى سوريا وسواحلها، ووفقًا لما نقله تقرير الأوبزرفر، يرى مسؤولون عراقيون وأوروبيون مطلعون أن ملامح الممر البري الذي تسعى إيران لإنشائه بدأت تظهر منذ عام 2014.
الممر الإيراني (المصدر: صحيفة الأوبزرفر)
منذ الألفية الجديدة وتسعى إيران لإنشاء مجموعة طرق برية وسكك حديدية تربط موانيها الجنوبية بآسيا الوسطى وروسيا وأخيرًا إلى أوروبا، وقد ظهرت ملامح المشروع عمليًا بعد العقد الأول.
تأتي الحرب السورية لتعجل من توسيع طموحات إيران الاقتصادية بفتح ممرات ربما تتمكن من خلالها من ربط موانيها المطلة على الخليج وبحر العرب جنوبًا وسككها الحديدية مع دول آسيا الوسطى والقوقاز شمالًا بالمواني السورية المطلة على شرق البحر المتوسط مستقبلًا.
في هذا السياق، في يناير/ كانون الثاني 2017، وقع مسؤولون من طهران ودمشق على خمس مذكرات تفاهم لتنفيذ مشاريع اقتصادية في سوريا، كان أبرز ما جاء في هذه المذكرات ضخ استثمارات إيرانية في مواني بحرية سورية وتأسيس إيران شركة تشغيل هواتف محمولة.
بصورة واضحة، تستهدف الجمهورية الإسلامية الاستثمار في قطاعات الاقتصاد السوري الحيوية في سياق أهداف كبرى ترسمها، إلا أنه من المهم تذكر أن الحضور الروسي القوي في سوريا ربما لا يجعل من تنفيذ طموحات طهران أمرًا يسيرًا.
ترتسم سوريا المفيدة بصورة أساسية على الفضاءات الجغرافية التي تسعى كل من إيران وحزب الله إلى إعادة توطين شيعة (غالبًا) فيها لإنشاء كردون يحيط بالعاصمة دمشق والحدود مع لبنان تصل حدوده إلى مدينة حمص لتصبح منطقة حماية
في إحدى المراسلات التي جرت بين العميد حسين همداني والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، التي أوردها كتاب رسائل الأسماك (التي نقلها وثائقي الجزيرة)، أعدت إيران بقيادة فيلق القدس خطة تتشكل من خمسة أبواب (عسكرية، أمنية، اقتصادية، سياسية، ثقافية) وتتضمن 100 بند عملي.
وإن لم يكن واضحًا ما تضمنته تلك الخطة، إلا أنها على الأرجح تعكس ما يصطلح على تسميته بـ”سوريا المفيدة” بالنسبة لطهران، وعلى الرغم من أن ما يتبدا من سوريا المفيدة حتى الآن لا يمثل، على الأرجح، سوى قمة جبل الجليد أو نصف جبل طموحات طهران، إلا أنها تعكس أيضًا كيف تتقاطع عوامل الهوية مع عوامل المصلحة (الاقتصادية) على أرض الواقع، ترتسم سوريا المفيدة بصورة أساسية على الفضاءات الجغرافية التي تسعى كل من إيران وحزب الله إلى إعادة توطين شيعة (غالبًا) فيها لإنشاء كردون يحيط بالعاصمة دمشق والحدود مع لبنان تصل حدوده إلى مدينة حمص لتصبح منطقة حماية، كانت مدن الزبداني ومضايا والقلمون والقصير مشاهد لعملية “الترانسفير”.
في مقال كتبه الصحافي إبراهيم حميدي، مختص الملف السوري بجريدة الحياة اللندنية، بعنوان “هندسة اجتماعية ترسم ملامح سورية المفيدة أرضًا وشعبًا” (سبتمبر/ أيلول 2015)، يشرح حميدي مشاريع تقوم إيران بتنفيذها في دمشق حول سفاراتها على مساحات واسعة يصل عدد ساكنيها إلى 200 ألف شخص، وفقًا لمراسيم تشريعية، تتضمن المشاريع الإيرانية “إقامة أبراج سكنية ونقاط طبية ومدارس وقسم تجاري” حول سفاراتها، ومن خلال تجار محسوبين على طهران، تشتري طهران معظم العقارات المحيطة بمزار السيدة رقية قرب الجامع الأموي في دمشق القديمة.
تندمج كل من الهوية (المعتقد الديني، التاريخ القومي، المخيال الجغرافي) والمصلحة (المادية والاقتصادية) ليصيغا بعضهما البعض تلقائيًا في صورة المشاريع الإقليمية العملاقة لدولة إيران
ويشير حميدي في هذا السياق أيضًا إلى تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” المعنون “التسوية بالأرض: عمليات الهدم غير المشروع لأحياء سكنية في سوريا بين 2012 و2013” الذي يتناول عمليات تدمير ممنهج لمناطق كان من المخطط أن تدخل ضمن مشاريع إيران، ولكن يشير حميدي أيضًا إلى العامل الروسي في سوريا ودوره المحتمل في إعاقة المشروعات الإيرانية.
النقطة المهمة هنا، تشكل عمليات الهندسة الاجتماعية التي تسعى طهران إلى تنفيذها حاضنة ديموغرافية وأيدولوجية لوجودها العسكري ومصالحها الاقتصادية.
في الحقيقة لا يمكن فهم الحضور الاقتصادي المتزايد لإيران في سوريا إلا في سياق حضورها العسكري والهوياتي ولا يمكن فهم حضورها الهوياتي والعسكري أيضًا في غياب حضورها الاقتصادي.
الدولة الإيرانية، كدولة حديثة، تمثل شبكات معقدة من العلاقات التي ينتج عنها هذه المشاريع التي تقودها في جوارها المشرقي – العربي، نظريًا، تندمج كل من الهوية (المعتقد الديني، التاريخ القومي، المخيال الجغرافي) والمصلحة (المادية والاقتصادية) ليصيغا بعضهما البعض تلقائيًا في صورة هذه المشاريع الإقليمية العملاقة.
ثانيًا: آليات التدخل الإيراني
أمر المرشد الأعلى بأن تكون السياسات الكلية لمحور المقاومة وسوريا تحت إشراف الأمين العام لحزب الله
إن فهم محركات دوافع إيران للتدخل إلى جانب النظام السوري ودوافع الانخراط في هذه المشاريع لا يفسر قدرة صناع القرار في طهران على تشغيل وتثبيت هذه المشاريع بصورة مستدامة.
ما الآليات التي تستخدمها إيران لإبقاء الآلاف من الحشود من المقاتلين الإيرانيين والأجانب الموالين لها الذين يحاربون في مساحات جغرافية شاسعة، تحت سلطتها؟ عندما أعد العميد همداني الخطة السابق ذكرها وعرضها على قائده الجنرال قاسم سليماني، أمر المرشد الأعلى بعرض الخطة على الأمين العام لحزب الله حسن نص رالله لأخذ موافقته.
وفقًا لما ورد في وثائقي الجزيرة، نقلًا عن كتاب رسائل الأسماك، “أمر المرشد الأعلى بأن تكون السياسات الكلية لمحور المقاومة وسوريا تحت إشراف الأمين العام لحزب الله”، بعد عرض همداني للخطة على السيد نصر الله، رد الأخير بأن الخطة جيدة ولكن يجدر على الجانب الإيراني وضع هذه الخطة جانبًا والتركيز على الشقين العسكري والأمني منها فقط الآن لأن الأولويات تحتم ذلك مع إمكانية تنفيذها مستقبلًا بعد إنقاذ النظام.
يمكن أن تستخدم دراسات “الحوكمة” (Governmentality)، التي تمثل امتدادًا لمدرسة المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، كمدخل لفهم علاقة طهران بالمجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة بها في المشرق العربي
أهم ما تشير له هذه المراسلات أن حزب الله يتمتع باستقلالية معتبرة في اتخاذ القرار في الملف السوري، ولكن ما تشير له أيضًا المراسلات هو أن حزب الله يتم التعامل معه ليس ككيان تابع ولكن كشريك أيدولوجي أو كمؤسسة لا يتجزأ كيانها عن الكيان المؤسس في طهران، وما يمكن استنتاجه أيضًا أن طهران لا تحتاج إلى الإشراف بنفسها على الساحة الميدانية في سوريا وفرض رقابة عليها، إذ يوجد لديها من يعمل من خلال آليات تفكيرها وأولوياتها تقريبًا في الساحة.
يمكن أن تستخدم دراسات “الحوكمة” (Governmentality)، التي تمثل امتدادًا لمدرسة المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، كمدخل لفهم علاقة طهران بالمجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة بها في المشرق العربي، يشير مصطلح الحوكمة إلى عمل القوة خارج نطاق الفضاءات الرسمية والمركزية للقوة ذاتها وخاصة على المستوى الجزئي Micro-level. تتمحور الحوكمة في السياق النيوليبرالي، الذي تناوله فوكو، حول مد نظام ومنطق السوق إلى بقية مجالات النشاط المجتمعي خارج النشاط الاقتصادي.
ووفقًا لهذا النظام الجديد، تتطور آليات القوة لتنتقل من السلطة المركزية إلى الرعايا، فعوضًا عن تولي الدولة عملية الانضباط، تجعل الحوكمة الأشخاص مسؤولين عن تولي هذه العملية ليتحولوا إلى كيانات موجهة ذاتيًا ومنظمة ذاتيًا، إذن، تقوم النيوليبرالية بنقل عملية صنع القرار إلى الصعيد المحلي الجزئي حتى تظهر الحوكمة للرعايا كما لو أن ممارسة القوة تنطلق من سلطتهم أو من مساحتهم.
إن قيام الدولة السورية بدمج قوات الدفاع الوطني في هيكل القيادة العسكرية كان بسبب خشية دمشق من طهران
في سياق غير نيوليبرالي، يرى بيمان شمسيان أن إيران قامت بحوكمة حزب الله من خلال مستويين، المستوى الأول يتعلق بدمج ذاتية حزب الله في ذاتية الدولة الإيرانية أو إنشاء ذاتيتها (Subjectification) حتى تهمين إيران على شيعة لبنان، المستوى الثاني يتعلق بإخضاع حزب الله للأجندة الإيرانية دون الحاجة إلى وجود تراتبية أو رقابة إيرانية دائمة على الكيان، وقد قامت إيران بذلك من خلال معسكرات تدريب والنفوذ الديني الأيدولوجي فضلًا عن الخطاب المعادي لإسرائيل.
إذا صحت افتراضات شمسيان عن حوكمة إيران لحزب الله، فربما يمكن مد منطق هذه العلاقة الثنائية إلى علاقة إيران بالمجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة بها في سوريا والعراق، ولكن ماذا يعني ذلك للنظام السوري خصيصًا؟
يرى هنري جونسون في مقال بعنوان “من قلب رماد الحرب ينشأ ترتيب (إقليمي) إيراني جديد” أن الإسهام الأساسي للحرس الثوري الإيراني (من خلال فيلق القدس) في الملف السوري كان تطوير القوة العسكرية بنقلها إلى لاعبين محليين وإضعاف المؤسسة العسكرية السورية.
كان العميد حسين همداني مسؤولًا عن ذلك الإسهام من خلال إنشاء ما يسمى بقوات الدفاع الوطني التي تشكلت من مجموعات مسلحة داعمة للنظام، ووفقًا لجونسون، صمم همداني قوات الدفاع الوطني على أساس هيكلية كتائب الإمام الحسين (التابعة لقوات الباسيج الإيرانية) التي تتعاون في أوقات الأزمات مع الحرس الثوري الإيراني، وقد لعب الحرس الثوري دور المشرف على قوات الدفاع الوطني.
يرى جونسون أن قيام الدولة السورية بدمج قوات الدفاع الوطني في هيكل القيادة العسكرية كان بسبب خشية دمشق من طهران، ولكن ترتب على ذلك أيضًا تخصيص الدولة السورية قوة وموارد إلى هذه المجموعات المسلحة المحلية التي أصبحت جزءًا من القوات النظامية، ويرى جونسون أنه كلما ذابت الدولة السورية في هذه القوى المسلحة، ضعفت شرعية الدولة ذاتها.
أصبح وجود الأسد بالنسبة لإيران أولوية أداتية تهدف إلى منح الشرعية لهذه المجموعات كي تستطيع التحرك بغطاء تحت المظلة الإيرانية
في الحالة السورية، قامت إيران بمنح القوة إلى هذه المجموعات المسلحة المحلية التي تعطي الدولة السورية (بقيادة الأسد) الشعور بالسلطة. تبدو هذه العملية كمعكوس منطق الحوكمة النيوليبرالية كما يراها فوكو، بصورة من الصور، فإذا كانت الدولة السورية من المفترض أن تعطي القوة إلى هذه المجموعات المسلحة المحلية كي تنشر قوتها عبر واجهات فإن العكس حدث، فعلى الصعيد المحلي، أسست إيران هذه المجموعات التي رممت سلطة الأسد العسكرية المتداعية وأعطت إيران السلطة الحقيقية.
بوجه من الوجوه، أصبح وجود الأسد بالنسبة لإيران أولوية أداتية تهدف إلى منح الشرعية لهذه المجموعات كي تستطيع التحرك بغطاء تحت المظلة الإيرانية، ولكن لم تعد سلطة تلك المظلة الإيرانية مقتصرة على الشيعة والعلويين فقط بل امتدت إلى المجتمعات السنية الداعمة للأسد التي أصبحت متشيعة سياسيًا كما يشير هنري جونسون في المقال السابق ذكره.
حينما طلب الرئيس الأسد العون من إيران لقمع الثورة السورية، كان طلبه مقتصرًا على دور إسنادي بتقديم الإمكانات للنظام، إلا أن الجانب الإيراني (ممثلًا في العميد همداني) رفض الصيغة التي طلبها الأسد قائلًا: “لا.. نريد أن نهديكم تجربة ثماني سنوات من الحرب وتجربة التعامل مع الأزمات وأعمال الشغب، فالعدو الذي خطط هذه المؤامرة لبلادكم هو نفسه الذي حاك المخططات ضدنا، استطعنا أخيرًا أن نقنع السوريين، وسمحوا لنا بالبدء في تدريب القوات”، كان مشروع إعادة عسكرة النظام السوري هو المفتاح الرئيسي للطموحات الإيرانية في سوريا.