تزور ديزني من جديد قصّة الجميلة والوحش، لتقدّم هذه المرة نسخة حيّة منها، وذلك بعدما دخلت نسخة الصور المتحرّكة التاريخ من نواح عديدة. ماذا يمكن أن تضيفه نسخة حيّة؟ وكيف يمكن أن نقرأ هذه القصّة التي باتت أدبا شعبيّا يتربّى عليه الأطفال في مختلف بقاع الأرض؟
بعد النجاح الكبير الذي حقّقه فيلم عروس البحر سنة 1989، قرّر المشرفون في ديزني الاستمرار في ذلك الخطّ، ووضعوا ميزانيّة أرفع لإنتاج فيلم الصور المتحرّكة الجميلة والوحش سنة 1991. وقد استغلّ المخرجان كيرك وايز وغاري تروسدايل ذلك لاستعمال تقنية الصور المُحدَثة بالكمبيوتر CGI وإدماجها بالمشهد المصوّر يدويّا. برز ذلك في مشهد رقصة الجميلة والوحش، إذ أصبح أيقونيّا لدرجة أنّ شركة Pixar التي قدّمت لديزني التقنية البرمجية اللازمة لصنعه آنذاك، قرّرت إنتاج فيلم كامل باستعمال هذه التقنية، فكان فيلمُ “قصّة دمية” Toy Story الصادر سنة 1995، نتاجا مباشرا لهذا النجاح.
بعد نحو ستة عشر سنة من صدور نسخة الصور المتحرّكة، قرّرت ديزني العودة إلى الجميلة والوحش، في إطار خطّتها لإحياء هذه القصص التي سبق وقدّمتها. ونعني بالإحياء، تقديم نسخة حيّة، أي بأشخاص حقيقيّين عوض الصور المتحرّكة. ويعود ذلك إلى التطوّر التقنيّ الكبير الذي عرفته السينما الرقميّة في السنوات الأخيرة، وتحديدا تقنية الـCGI التي باتت تسمح بتصوير مشاهد ذات طابع عجائبيّ fantastic بأشخاص حقيقيّين. عشرات أفلام الأبطال الخارقين ليست إلاّ نماذج مباشرة لهذا التطوّر.
كانت البداية بفيلم أليس في بلاد العجائب سنة 2010 الذي أخرجه تيم بورتن Tim Burton على طريقته المعهودة مع بعض التنازلات لصالح إيديولوجيا ديزني. ثمّ جاء فيلم “الشريرة” أو “الطّالحة” Maleficent لأنجلينا جولي الذي يعيد صياغة قصّة الجميلة النائمة. ثمّ فيلم سندريلا سنة 2015، وفي السنة الماضية تلقّى فيلم كتاب الأدغال The jungle book إشادة كبيرة وفاز بأوسكار أفضل مؤثّرات بصرية. لقد بلغت ديزني بهذا الفيلم مستويات رائعة في استعمال الـCGI داخل القصص العجائبيّة وباتت جاهزة لإنتاج الجميلة والوحش بما يليق.
لا يعرف الكثيرون أنّ قصّة الجميلة والوحش من أكثر القصص التي تعرّضت للتحوير والتزوير
لا يعرف الكثيرون أنّ قصّة الجميلة والوحش من أكثر القصص التي تعرّضت للتحوير والتزوير. تعود أصول القصّة الأولى إلى القرن الثامن عشر، وبالتحديد سنة 1740 حين نشرت الكاتبة الفرنسية طويلة الإسم غابريال سوزان باربو دوفيلنوف Gabrielle-Suzanne Barbot de Villeneuve مجموعتها القصصيّة “الأمريكيّة الشابّة والقصص البحرية” La jeune américaine et les contes marins وتضمّن روايةً قصيرة بعنوان الجميلة والوحش.
في قصّة De Villeneuve كانت الجميلةُ ابنة تاجر كبير خسر ثروته ونزل بعائلته للعيش في القرية بعد حياة المدن. ولم تكن الجميلةُ وحيدتَه بل كانت شقيقاتُها يغرن منها ويُضمرن لها الحقد خصوصا لقبولها بحياة الريف وتكيّفها معها. وعندما يعلق التاجرُ في قبضة الوحش، يتفق معه على مقايضته بإحدى بناته، فيعود إليهنّ بهذا الغرض، ويقع الاختيار على الجميلة التي قبلت أن تضحّي من أجل أبيها.
وتركّز De Villeneuve على مقابلات العشاء الكثيرة بين الجميلة والوحش، التي لم يخف فيها الوحش مشاعره تجاه الجميلة، لكنّها كانت غير قادرة على إبداء الودّ لذلك الوجه الرهيب. لكنّها في النهاية تتعلّم الدرس وتدرك أنّ المظاهر خادعة، وأنّ جوهر المرء في قلبه إلى غير ذلك من هذا الكلام.
كانت نسخة De Villeneuve ابنة عصرها، حيث يمكن أن نتلمّس من خلالها ملامح المجتمع الفرنسيّ قبيلَ الثورة، وخصوصا تطلّع البرجوازية التي ازداد نفوذُها للانقضاض على منزلة النبلاء الاجتماعية والسياسيّة مع تقلّص نفوذ هؤلاء الاقتصاديّ، فعكست شخصية الأب التاجر الثريّ هاجس النبلاء وأملهم في أن تعود البرجوازيةُ إلى منزلتها التي تستحقّها أي ريفيّة فقيرة هشة. أما على المستوى الاجتماعيّ، فقد عكست صورة الوحش، هواجس النساء اللاتي يتعرّضن لزواج المصالح. لا ننسى أنّ هذه الزيجات كانت المسارَ الطبيعيّ ولم يكن للنساء دخل كبير في اختيار أزواجهنّ، وكلّ ما عليهنّ فعلهُ هو تعويد أنفسهنّ على حبّ الزوج بطول العشرة. فكانت صورة الوحش، كناية عن خوف نفسيّ لا يلبث أن يتلاشى رويدا رويدا.
عكست شخصية الأب التاجر الثريّ هاجس النبلاء وأملهم في أن تعود البرجوازيةُ إلى منزلتها التي تستحقّها أي ريفيّة فقيرة هشة
لا تشبه القصّةُ الأصليّةُ إذا كثيرا ما روته لنا ديزني، وذلك لأنّ تغييرات مهمّة وقعت في نسخة الكاتبة دو بومون De Beaumont (أعفيكم من الإسم الكامل) حيث اختصرت الرواية كثيرا وبسّطتها وجعلتها خرافة للأطفال وركّزت كثيرا على المغزى فجعلت من اللعنة التي أصابت الوحش، عقابا له على حكمه على ظاهر الناس دون بواطنهم. وقد كان هذا القالب هو الذي اعتمدت ديزني عليه بعد قرنين.
لكنّ ديزني أيضا تملك بعض الهواجس، خصوصا مع التغييرات الاجتماعية الكبيرة التي حدثت طوال قرنين ما جعل ما يمكن أن يقدّم للأطفال قديما، ربّما لا يصلح لأطفال المجتمع الأمريكيّ في نهاية القرن العشرين.
وفيما يلي أبرز ما أضافته ديزني للقصّة:
-الأسلوب الغنائيّ، فالفيلم يضمّ لوحات غنائية رائعة فعلا، وهو ما أخرج القصّة من طابعها الكئيب وجعلها ميلودراما رومانسيّة جديرة بهوليود.
-شخصيّة غاستون Gaston الصياد الذي يهيم عشقا بالجميلة. يمثّل نقيض البطل، وأشبه بصورة negative لشخصية الوحش (وسيم، بشريّ، قاس ومتوحّش، وأحمق يكره القراءة ويحتقر النساء) وهو بشكل ما موجود لتأكيد مغزى القصة.
-الأواني المسحورة وأساسا شخصيّتا لومياغ Lumière وكوغسورث Cogsworth وهما الجانب المرح في الفيلم، لا ننسى أننا نتحدّث عن غنائيّة.
-ولع الجميلة بالكتب. والحقيقة أنّها ليست فكرة ديزني، فقد ظهرت في نسخة سابقة في بداية القرن العشرين، ولكن ديزني نفضت عنها الغبار واعتمدتها ربّما كتأكيد على هذه الفكرة الرئيسيّة : جمال الجسد / جمال الروح والعقل. وقد عكست ذلك على شخصيّتي غاستون والوحش، فالأول يكره الكتب ويعاديها والثاني يمتلك مكتبة ضخمة تسيل اللّعاب.
كما حذفت من القصّة شقيقات الجميلة وأشقائها وعوضت كلّ ذلك بثلاث فتيات معجبات بغاستون وبالتالي يحسدن الجميلة لمكانتها في قلبه. يساهم وجود هذا الثلاثيّ في التأكيد على تميّز الجميلة عن مجتمعها، إذ يمثّلن تلك الصورة النمطية للنساء كما يراها المجتمع. وحذفت أيضا مقايضة الأب والوحش، بل إنّ الأب تحوّل إلى شخص رقيق يعطف على ابنته ويحبّها، وتمّ لذلك بناء سيناريو سجن الجميلة في قصر الوحش، على الصدفة بشكل أكبر. وباختصار حذفت ديزني كلّ تلك التفاصيل التي تعبّر عن مجتمع الجميلة وعن سياق القصة السيوسيوتاريخيّ ليتمّ التركيز على المغزى الرئيسيّ من القصّة.
استلم المخرج بيل كوندون Bill Condon مهمّة إحياء الجميلة والوحش
في هذا السياق استلم المخرج بيل كوندون Bill Condon مهمّة إحياء الجميلة والوحش. من هو بيل كوندون؟ إنّه مخرج فيلمي الشفق Twilight الأوّلين. لا يبدو ذلك مبشّرا ولكنّ آلة ديزني تعمل، تتعاقد مع النجمة التي تعوّد الأطفال على رؤيتها في سلسلة هاري بوتر، وأعني هنا إيما واطسون Emma Watson، وذلك رغم ترشيحها للعمل في فيلم La la land. لقد كان ذلك انتصارا مهمّا لديزني، فحضور إيمّا في هذا الفيلم كان مفاجأة جميلة فعلا. لم يكن سهلا أن أقتنع أنّ ذلك الصوت الجميل في أغنية البداية كان لها، بل إنّها سجّلت إحدى الأغاني بشكل مباشر خلال التصوير. أضف إلى ذلك تشابه ملامحها الرقيقة مع ملامح الجميلة كما رسمت سنة 1991.
اِختار كوندون (أو رؤساؤه) أن يحافظوا على أغلب المقاطع الغنائيّة مع بعض التحويرات البسيطة، والاهتمام أكثر بالكوريغرافيا. الظاهر أنّ هذا الخيار كان تكريما لكاتب الأغنيات، هاورد آشمان، ولكن أعتقد أنّهم ماكانوا ليجدوا أفضل منها. والمهمّ أنّ ذلك سمح لهم بالتركيز على تحدّي نقل الرقصات المرسومة سنة 1991 إلى كوريغرافيا حيّة ومعقّدة، وأعتقد أنّهم نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير. أخصّ بالذكر مشهد أغنية غاستون المثيرة لأدائها في مساحة ضيّقة جدا، مع كثافة عناصر المشهد، وهو ما ذكّرني بمشهد المزحة الثقيلة في رائعة أمير كوستوريتشا “قط أسود، قطّ أبيض”.
لقطة من مشهد أغنية غاستون
ما من شكّ أنّ الجانب الحيّ قد أضاف كثيرا للمشهد الغنائيّ، ولكن لم يكن ذلك كلّ شيء، فجودة الCGI كانت مبهرة بحق. يجب أن نذكر أنّ أكثر الشخصيات حضورا في الفيلم ليست الأب أو غاستون أو أهل القرية. بل كانت الشمعدان لومياغ Lumière والساعة Cogsworth والبيانو والابريق وابنها الفنجان وخزانة الثياب، وغير هؤلاء من الخدم الذين تعرّضوا للعنة الجنّيّة مع الوحش. لقد صُمّم كلّ هؤلاء بواسطة الCGI استنادا إلى أدوات حيّة (أعني جامدة)، فكان الانتقال من وضع الجمود حيث الصورة طبيعيّة حقيقيّة، إلى الحركة حيث الصورة محدثة بالكمبيوتر، شفّافا وطبيعيّا وغير ملحوظ. ولقد ساهمت الإضاءة واختيار الألوان داخل القصر في إضفاء لمسة المعقولية هذه، إذ تمنح المشهد في الغالب صبغة ذهبيّة تقرب من لون Lumière وصديقه.
وكان العمل الأكبر في هذا المستوى، يتعلّق بالوحش، حيث أراد المخرجُ كونودون أن يصمّم وجهه باستخدام الماكياج، ولكن في مرحلة ما بعد الانتاج قرّرت ديزني تغيير ذلك إلى الـCGI. ربّما كنتُ أميل إلى الخيار الأوّل ولكن النتيجة ليست سيئة على كلّ حال وتشي بالتقدّم التقني المذهل الذي تحدّثت عنه.
على مستوى السيناريو، فقد حافظت ديزني على هيكل مُنجزها السابق، مع إحداث إصلاحات كان بعضُها موفقا وفي محلّه
– في هذه النسخة تحوّل غاستون إلى مجرم حقيقيّ حاول ارتكاب جريمة قتل. ورغم أنّ دوافعه وراء ذلك لا تبدو قويّة، إلا أنّ ديزني لا بدّ وأن لاحظت أنّ غاستون في نسخة الصور المتحرّكة كان في النهاية شخصا مظلوما. فلا ذنب له في غبائه مثلا (الحقيقة أنني لا أجد غباء في صيّاد يشهد له الجميع بالتفوق، الصيد لا يصلح للأغبياء أيضا)، ولا ذنب له في عشقه للجميلة، وكلّ السوء الذي مارسه هو ملازمته الكريهة لظلّها، لكنّه على الأقل لم يسجنها عنوة مثلما فعل الوحش. كما أنّه في النهاية أبدى شجاعة كبيرة بقبوله مواجهة الوحش وقتله حماية للقرية، وبحثا عن المجد وأملا في استرجاع الجميلة.
في هذه النسخة، كان غاستون خبيثا، ماكرا، مخادعا، وهو بذلك أبعد ما يكون عن الغباء أوالطيبة.
-طوّر كوندون علاقة الجميلة والوحش بالكتاب. ففي نسخة الصور المتحرّكة، كان الكتاب تعلّة فقيرة لافتعال اختلاف حادّ بين الجميلة المثقّفة الحالمة بعالم آخر، وقريتها البائسة وأناسِها الجهلة الغارقين في مستنقع العادات البائسة، وكان غاستون حامل لواء كلّ ذلك بعدائه الصريح لكلّ نفس تقدّمي (الكتب، المعرفة، المساواة بين الجنسين، تقديم على العقل على الجسد الخ)، أمّا الوحش، فكان يملك مكتبة ضخمة تحتاج إلى مئات السنين للانتهاء منها. لكن بمجرّد تبين هذا الاختلاف وذاك التقارب في مشهد أو مشهدين، تختفي كلّ علاقة للجميلة بالكتب، ولا نجد لها أي أثر تقريبا. بل إنّ شخصيتها أبعد ما تكون عن المثقفة أو الحكيمة.
تمّ استدراك ذلك في هذه النسخة، فتعدّدت مشاهد ظهور الكتب، وتحدّث الحبيبان عن الكتب، في حوار مفتعل نوعا ما، ولكنّه موجود على أيّة حال. كانت أشعار شكسبير حاضرة، وكانت مطيّة ضمنيّة للحديث عن الحبّ وأفكار كلّ من الشخصيّتين، ولحظة لبداية تقاربهما.
– أسوأ مشاهد الفيلم الأول، كان مشهد المقايضة المريع الذي قبل فيه الأب العجوز أن تُسجن ابنته في مكانه، وخرج طوايعية ليبحث عن النجدة. لم يكن المشهد طبيعيّا أبدا، لأنّ الأب كان مذعورا ويرى في الوحش موتا محقّقا، وهو مع ذلك يقبل بترك ابنته تحت رحمته. ولقد سوّقت النسخة الأصليّة هذا المشهد على أنّه حزين ومؤثر، كأنّه من الممكن أن يفعل الأب ذلك لابنته بدافع الحبّ.
حاولت النسخة أن تصنع مصادفة أكثر ملاءمة لحلول الأب بمنزل الوحش وقطفه للوردة التي تسبّبت في سجنه. فاستعانت بالعاصفة لفتح الطريق المهجورة التي لم تطأها قدم إنسان منذ وقت بعيد
تجاوزت النسخة الحيّة هذه الصورة بغدر الجميلة بأبيها لتحلّ محلّه داخل الزنزانة، ثم باستعمال الوحش لقوته العاتية لطرد الأب خارج المنزل، وهكذا لم يجد الرجل بدّا من المغادرة لطلب العون.
كما حاولت النسخة أن تصنع مصادفة أكثر ملاءمة لحلول الأب بمنزل الوحش وقطفه للوردة التي تسبّبت في سجنه. فاستعانت بالعاصفة لفتح الطريق المهجورة التي لم تطأها قدم إنسان منذ وقت بعيد، واستعانت بالذئاب لتحمل الأب على الفرار واللجوء إلى قصر الوحش. على أنّها فيما بعدُ وقعت في فخّ صنيعتها، فكانت الذئاب تظهر فقط وقت الحاجة (ساعة قدوم الأب إلى القصر، وساعة هروب الجميلة من القصر) بينما تختفي وقت الحاجة أيضا (مغادرة الجميلة في المرة الثانية، ومغادرة الأب لطلب العون).
التنوّع الإتني لأهالي القرية في النسخة الجديدة
وبينما تظاهرت نسخة الصور المتحرّكة بالحياد الإيديولوجي من خلال التخلّص من لوازم السياق التاريخيّ والمكانيّ بشكل نسبيّ، كانت النسخة الجديدة أكثر التزاما بإيديولوجيا عصرها. برز ذلك في عناصر كثيرة على هامش القصّة كان أبرزُها شخصيّة “لُفُو” LeFou أو المجنون، وهو تابع غاستون المخلص. ففي نسخة 1991 كان الغرض من وجود المجنون، إبراز عظمة غاستون، ومكانته في بيئته. كان المجنون شخصا حقير القيمة، سخيفا، ومضحكا. أمّا في هذه النسخة، فقد تمّ الاعتناء به ليصبح ذا طبيعة رقيقة، وتتحوّل علاقته بغاستون إلى شيء معقّد يراوح بين الانبهار والعشق.
يبدو المجنون طوال القصة محتارا بين أن يطمح ليكون مثل غاستون، أو يطمح لينال إعجاب غاستون، في النهاية وبدون التصريح بذلك، يعلن المجنون عن ميوله بالثورة على غاستون ومعاداته، والتحرّر من ظلّه. يقول Josh Gad صاحب دور المجنون إن شخصيّته تكريم لمؤلّف أغاني الجميلة والوحش، هاورد آشمان Howard Ashman الذي توفّي قبل عرض الفيلم سنة 1991، ويبدو أنّه كان مثليّا. تعتبر شخصيّةُ المجنون أوّل شخصية مثليّة في عالم ديزني، وبالتالي فلا يمكن أن نتحدّث عن مصادفة أو شيء كهذا.
كان الاعتماد الواضح على غير البيض في طاقم التمثيل. طبعا لا يمكن أن يشمل هذا الاعتمادُ، الأدوار الرئيسيّة، فيجب أن تبقى الجميلةُ “جميلة” بالمعايير الأمريكيّة التقليديّة
أمّا العنصر الإيديولوجيّ الثاني البارز في هذه النسخة، فكان الاعتماد الواضح على غير البيض في طاقم التمثيل. طبعا لا يمكن أن يشمل هذا الاعتمادُ، الأدوار الرئيسيّة، فيجب أن تبقى الجميلةُ “جميلة” بالمعايير الأمريكيّة التقليديّة، وكذلك الوحش (بعد تحوّله) وغاستون. يأتي الاعتماد على السود واللاتينيّين كسكّان لقرية فرنسية نائية في القرن السابع عشر أو الثامن عشر (لنقل في الحقبة الباروكيّة)، في إطار حملة هوليود لإدماج الأقليّات بالمشهد السينمائيّ، والتشجيع على ذلك ـ ربّما على حساب القيم الجماليّة للعمل نفسه. تفتح هذه العمليّةُ تساؤلا مهمّا، فمن ناحية، يمكن اعتبار الجميلة والوحش قصّة عجائبية لا تنتمي إلى إطار ثقافيّ محدّد، ما يجعل تغيير خلفيّة القصّة بما يخدم الإيديولوجيا أمرا مشروعا.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن إنكار أهمّية هذه الخلفيّة الثقافيّة، فاسم الجميلة في الفيلم هو بال Belle، والحديث عن باريس كان صريحا. إنّنا لا نتحدث فقط عن قصر وأميرة وملك يمكن أن نجدهما في أي مكان وزمان، إنّنا نتحدث عن مشهد تاريخيّ لفرنسا، يصبح فيها الأسود الذي يملك مكتبة في قرية فرنسية في القرن السابع عشر، شيئا أغرب من الشمعدان المتكلّم. تخيّلوا ردود الفعل لو اعتمدت ديزني على ممثلين بيض كسكّان قبيل هنديّة في فيلم بوكاهونتاس Pocahontas، وستفهمون ما أعنيه.
تعتبر شخصيّةُ المجنون أوّل شخصية مثليّة في عالم ديزني
في النهاية، أعتقد أن هذه الأدلجة ليست أسوأ صنعا من إيديولوجيا القصّة في جوهرها. إنّني أستحسن الفيلم في عمومه، وأعتبره من أفضل المعارضات (Remake) الممكنة لفيلم جيّد بالفعل. ولكنّ استحساني هذا لا يتعارض ورفضي العميق لمواعظ القصّة الشهيرة وجوهرها المنافق.
لقد انبنى كلّ شيء هنا على نفاق عميق، وهروب مستمرّ من الطبيعة البشريّة. فقد عبّر الفيلم عن رفضه لعنف غاستون وتعامله البدائيّ مع الأمور، وشجّع على القراءة والعلم (كان والد الجميلة في نسخة الصور المتحرّكة مخترعا) على أنّ جميع العقد في النهاية لم يحلّها أيّ كتاب، بل كان للعنف يد عليا (أنقذ الوحشُ الجميلة من براثن الذئاب بواسطة العنف، واستمالها إليه بفضل ذلك أوّلا، قبل أن تبدأ المحادثة عن شكسبير، ثم لا ننسى المعركة الأخيرة، التي تعتبر حفلة عنف وقوّة).
أما الجميلة، فرغم كلّ ما توحي به من تميّز واختلاف عن الآخرين، كان أوّل ما عبّرت عنه في أغنية البداية، أملها في إيجاد ذلك الشخص الغريب المتميّز مثلها، الذي سيأخذها بعيدا عن القرية وأهلها. فهي في النهاية شأنها شأن بنات قريتها، تبحث عن رجل يكمّل نقصا فيها، وإن اختلفت مواصفات الرجل المناسب في ذهنها.
إن الجمال لغة الطبيعة تقودنا إلى كل ماهو سليم وقويّ وحيّ، ولذلك أيضا كان الجمال نسبيّا، مختلفا، متنوّعا بتنوّع الحياة وثرائها
ولا تشذّ شخصيّة الوحش عن هذا التعامل المنافق مع القيم. كانت لحظة العقاب دوما بعيدة في الزمن، تأتي عبر استرجاع فني مقتضب، وما يعلق بالأذهان، هو لحظة “الجائزة”، أو لحظة “المنح” التي تحدث للجميلة، ذلك أنّها حين تجاوزت مظهر الوحش القبيح، وأحبّت قلبه النقيّ، كوفئت باستعادة الوحش لمظهره الجميل. لقد كان قبح المظهر، عقوبةً للوحش وامتحانا للجميلة، وكانت وسامته جائزة لها ومبتغى له إذ كانت تساوي حياته.
والقصّة بذلك تعلّمنا عكس ما كانت تريد قوله. إنّنا نريد الجمال لأنّنا بشر، ولأنّنا مفتونون بفطرتنا. إن الجمال لغة الطبيعة تقودنا إلى كل ماهو سليم وقويّ وحيّ، ولذلك أيضا كان الجمال نسبيّا، مختلفا، متنوّعا بتنوّع الحياة وثرائها، ولذلك فلكلّ حظّ من الجمال إذا ما وجد العيون الّتي تجيد التطلّع إليه، ولذلك تبقى الطبيعة بقسوتها وعشوائيّتها أرحم كثيرا من هذه الإيديولوجيا المزيّفة.