ما من شك أن الخلاف العقائدي بين تنظيم الدولة الإسلامية وحركة طالبان أفغانستان كان أصلا في الخلاف الذي سرعان ما تحول إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين، سقط خلالها مئات القتلى والجرحى.
يعرف عن حركة طالبان عقديّا أنها ماتُريدِيّة، نسبة إلى أبي منصور الماتريدي، بينما يدين تنظيم الدولة بمختلف فروعه بالسلفية ورائديها ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، فتراه مناقضا في توجهاته العقدية لطالبان حتى أنه وصف مقاتليها في أكثر من مناسبة بالقبوريين والمرتدين
من الناحية الفقهية، تتبع حركة طالبان المدرسة الديوبندية التي تستمد أصولها من المذهب الحنفي الذي يعتبر المذهب الرسمي للدولة، حيث تم الحكم به في المحاكم الشرعية التي كانت تعمل تحت إدارة الحركة قبل الغزو الأمريكي عام 2001، كما عُرفت تلك الفترة بانتشار الصوفية بمختلف مراتبها، في المقابل يولي تنظيم الدولة اعتناء كبيرا بالمدرسة الفقهية الحنبلية لصاحبها الإمام أحمد بن حنبل.
وفي هذا السياق يقول المؤرخ الجهادي أبو مصعب السوري في كتابه “أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام اليوم” “تنتشر في أفغانستان القبور والأضرحة كما معظم بلاد العالم الإسلامي ويقصدها الناس للزيارة وينصبون عليها الأعلام وعلى بعضها خدم يجمعون الصدقات للقائمين بخدمتها والفقراء وكثير من الأفغان يعلقون التمائم والتعاويذ والأحجبة ويعتقدون أن فيها قرآن وفعلاً فكثير منها فيها القرآن وكثير آخر فيه طلاسم وأرقام وحروف ورسوم، وبعض الطالبان مثل عوام الأفغان يزورون الأضرحة للتبرك بآثار الصالحين ولدعاء الله تعالى وسؤاله عندها ولكن عهد عنهم أنهم لا يسألون القبور ولا يطوفون عندها ويمنعون الصلاة عندها وبعضها لبعض الصحابة الذين استشهدوا عند فتح كابل.”
ويضيف “ينكر بعض الأخوة على حكومة الطالبان أنهم لم يلغوا القبور والأضرحة ولم ينكروا على أصحابها وزوارها ولم يمنعوا كاتبي التعاويذ والأحجبة. بل بني في عهدهم قبور وأضرحة على بعض القواد والشهداء والمولوية الذي توفوا في عهدهم. ومع ذلك رغم البلاء المنتشر فقد وجدنا بعض الطالبان من الكبار وحتى بعض الصغار ينكر هذا وينسبه للجهل وعموم البلوى وللطالبان بعض الجهد في مكافحة بعض هذه المظاهر.”
اتخذ تنظيم الدولة من التوجه العقدي لطالبان ذريعة لإعلان الحرب عليها وتكفيرها والعمل على استئصالها من مناطق يتواجد بها، ففي أكثر من إصدار مرئي، أكد التنظيم أن حركة طالبان “صوفية قبورية مرتدّة”، كما أشار في عدد من المقالات المنشورة بصحيفة النبأ الأسبوعية الناطقة باسمه، إلى أن حربه على طالبان لن تتوقّف حتى استئصالها.
أثّر الخلاف العقدي بين حركة طالبان وتنظيم الدولة على الحاضنة الشعبية داخل البلاد، فبينما يجاهر التنظيم بتكفيره للشيعة وإعلان الحرب عليهم، ذكرت تقارير إعلامية غربية أن الشيعة الأفغان بدؤوا بالانضمام إلى الحركة ونصرتها
أثّر الخلاف العقدي بين حركة طالبان وتنظيم الدولة على الحاضنة الشعبية داخل البلاد، فبينما يجاهر التنظيم بتكفيره للشيعة وإعلان الحرب عليهم، ذكرت تقارير إعلامية غربية أن الشيعة الأفغان بدؤوا بالانضمام إلى الحركة ونصرتها، وهو ما دفع صحيفة “الديلي بيست” الأمريكية للقول إن الصراع بين التنظيم وطالبان يمكن أن يحسم لمصلحة الثاني لأسباب عدة من بينها انضمام شيعة أفغانستان إلى طالبان خشية من تغوّل تنظيم الدولة وما يمكن أن يفعله بهم.
صراع الإمارة والزعامة الذي غذّته البيانات من هنا ومن هناك حتى وصل الأمر لاتهام تنظيم الدولة بأنه مشروع أمريكي، وجب اجتنابه لأنه “العدو وهدف للمجاهدين أينما ثقفوهم” ولأنه “محاولة فاشلة للاستبدال بالاحتلال الأمريكي في أفغانستان” بـ”أتباع عدو الله البغدادي” وفق ما صرّح بذلك عبد الله الوزير عضو اللجنة الإعلامية في طالبان، لم تحرّكه الخلافات العقدية وحسب، بل ساهمت في تأجيجه أطماع السيطرة وحبّ السلطة.
مقاتلين يبايعون أبو بكر البغدادي في أفغانستان وتشكيل ما يسمى “ولاية خرسان”
تحتل أفغانستان موقعا جغرافيا هاما داخل القارة الآسيوية، وهو ما جعلها محطّ أطماع السوفييت والأمريكان على التوالي، ورغم حملتيهما العسكرية البربريرة الضخمة إلا أنهما فشلا في القضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان، كما أنهما عجزا عن تأليب القبائل الأفغانية وجعلها في صفهم في مواجهة ما أسموه بـ”الإرهاب”.
إن المتأمل في أدبيات الجهاديين سيكتشف بما لا يدع مجالا للشك، أن أفغانستان احتلت مكانة هامة في أدبياتهم، فرائد الجهاد الأفغاني عبد الله العزام كان قد كتب كتاب “آيات الرحمان في جهاد الأفغان” إثر فشل الغزو السوفييتي، شرح في صفحاته الأولى أهمية هذه البلاد على عديد الأصعدة، وهو ما كشفه أيضا أبو مصعب السوري، في موسوعته دعوة المقاومة الإسلامية.
مكانة أفغانستان وتاريخها ودورها المحوري في التاريخ الإسلامي جعل منها مطمعا لتنظيم الدولة صاحب المشروع العابر للحدود، مقابل مشروع وطني قومي تهدف من خلاله حركة طالبان للسيطرة على البلاد وتطبيق الشريعة الإسلامية والانغلاق على نفسها
مكانة أفغانستان وتاريخها ودورها المحوري في التاريخ الإسلامي جعل منها مطمعا لتنظيم الدولة صاحب المشروع العابر للحدود، مقابل مشروع وطني قومي تهدف من خلاله حركة طالبان للسيطرة على البلاد وتطبيق الشريعة الإسلامية والانغلاق على نفسها من دون المساس بأمن الدول الأخرى، وهو ما أحدث تصادما بين أبناء الوطن الواحد.
ففي أهدافها التي أكدت عليها في أكثر من مناسبة، قالت حركة طالبان إنها تسعى إلى توثيق العلاقات مع جميع الدول والمنظمات الإسلامية، مع تحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية، إضافة إلى طلب المساعدات من الدول الإسلامية لإعمار أفغانستان، وهو ما يرفضه تنظيم الدولة، الذي جاهر بتكفيره لكل الدول الإسلامية بدون استثناء، كما شنّع أنصاره والمؤسسات الإعلامية المناصرة له، على الحركة واتهموها بالعمالة والمهادنة وغيرها من التهم.
على صعيد آخر، يعرف عن الأفغانيين والطالبانيين بصفة خاصة حبّهم الجمّ وتقديرهم الكبير لعلماء الإسلام داخل البلاد وخارجها، في المقابل يرى تنظيم الدولة الإسلامية كفر وردّة عدد كبير من هؤلاء العلماء، إمّا لخلافات عقدية أو بسبب مواقفهم من “الخلافة” و”مهادنتهم” للحكّام، وفق ما كشفت إصداراته الدعائية التي دعت صراحة إلى قتل عدد من مشايخ المسلمين.
إن رهان تنظيم الدولة على أفغانستان لم يكن عدميّا وما صراعه المحتدم مع طالبان من أجل السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة وخاصة منها الحدودية مع الجارة باكستان إلا مؤشّر على نيّة التنظيم اتخاذ هذه الدولة المعروفة بقبائلها العصيّة منطلقا للتمدّد إلى العمق الآسيوي.
خطر توسّع التنظيم أجبر مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان زامير كابلوف على التصريح في شهر أبريل الماضي بأن تنظيم الدولة الإسلامية يستعد لشن هجمات في آسيا الوسطى وروسيا، وحذر من أنه يوجد في أفغانستان حاليا أكثر من عشرة آلاف مسلح للتنظيم، مقابل نحو مئة مسلح قبل عام.
جنوب آسيا قد أصبح سوقا رائجة لتنظيم الدولة، لأن المنطقة لديها تاريخ طويل من دعم المجموعات الجهادية منذ 1980 في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي
بدوره حذّر مركز “راند” الأمريكي، أواخر شهر نوفمبر الماضي، من أن جنوب آسيا قد أصبح سوقا رائجة لتنظيم الدولة، لأن المنطقة لديها تاريخ طويل من دعم المجموعات الجهادية منذ 1980 في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، كذلك لكونها حازت على بعض العوامل، التي جعلتها جذابة بالنسبة لقادة التنظيم مثل الضعف النسبي لحكومات المنطقة، الذي وفر مناطق ومساحات آمنة لا تصل إليها أيدي هذه الحكومات.
المركز الأمريكي القريب من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، أشار إلى أن التنظيم استغل ضعف الحكومات المحلية لإيجاد موطِأ قدم له في مقاطعة نانجرار في أفغانستان كأبرز مثال على ذلك، مضيفا أن الحكومة الأفغانية وكذلك طالبان فشلا في السيطرة على بعض المناطق في المقاطعة.
تنظيم الدولة ورغم حداثة سنّه في المنطقة إلا أنه تمكّن من تنفيذ عمليّات نوعيّة وتفجيرات دموية داخل أفغانستان وجارتها باكستان، ولعلّ الهجوم الأخير على المستشفى العسكري الواقع بالعاصمة الأفغانية كابل أبرز دليل على قدرة التنظيم في اختراق الدفاعات الأمامية المحصّنة لخصومه بإمكانيات بسيطة لا تتجاوز بضع بنادق كلاشينكوف وقنابل يدوية.
صراع طالبان وتنظيم الدولة مازالت فصوله الرئيسية لم تكتب بعد، خاصة أمام عجز حكومي عن بسط الأمن حتى داخل العاصمة غير المحصّنة من هجمات الجماعتين المتناحرتين، ما يؤكد أن مسلسل نزيف الدماء سيتواصل في أفغانستان، البلد الذي لم يعرف الهدوء منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، فلمن ستكون الغلبة؟ وهل سيواصل تنظيم الدولة تمدّده داخل العمق الآسيوي أم أن التحالفات الطالبانية الإيرانية الروسية التي بدأت بالظهور على الساحة ستمنع ذلك؟