إخفاقات أكتوبر: “إسرائيل” ما بين 1973 و2023

ترجمة وتحرير نون بوست
وفي وقت كتابة هذا التقرير؛ كان عناصر المقاومة الفلسطينية من غزة يسيطرون على عدة مستوطنات إسرائيلية، معظمها يحيط بغزة في منطقة النقب. لقد مضت ما يقرب من ست عشرة ساعة، وما زال الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن الأخرى تسعى جاهدة للعثور على مفتاح الضوء، إذا جاز التعبير. وفي عملية عسكرية مشتركة شملت هجمات صاروخية وغزوًا بريًا واسع النطاق، شن الفلسطينيون من غزة هجومًا غير مسبوق على الأراضي المحتلة منذ سنة 1948.
والصحفي الإسرائيلي عوديد بن عامي، الذي نشر خبر الهجوم المفاجئ في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كان على الهواء أمس. ووصف هجوم أمس بأنه صدمة ضبابية بينما وصف سنة 1973 باعتباره فشل 6 تشرين الأول/ أكتوبر. وقال أمس إننا نشهد الآن فشل 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وفي كلتا الحالتين، انهارت كل الأنظمة التي كان من المفترض أن تمنع أو على الأقل تحذر من هجوم مفاجئ بهذا الحجم.
لقد مرت أكثر من عشر ساعات، والإسرائيليون في المستوطنات في جميع أنحاء النقب، وخاصة حول غزة، تحت الحصار، مع سيطرة عناصر المقاومة الفلسطينية ووجود عسكري إسرائيلي صغير فقط. وربما يكون الأمر الأكثر صعوبة في الفهم هو أن عناصر المقاومة الفلسطينية دخلوا ويسيطرون الآن على مقر لواء غزة التابع للجيش الإسرائيلي – وهو المكان الذي يتمركز فيه قائد اللواء، وهو جنرال. ويتجول الفلسطينيون من غزة بحرية حول قاعدة عسكرية وسط حالة من الذهول للدبابات الإسرائيلية المهجورة.
وفي الوقت نفسه؛ هناك آلاف الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية في المنطقة، مع تدفق التقارير عن مقتل أكثر من 200 إسرائيلي من هذا الهجوم، وأفاد الفلسطينيون في غزة أن لديهم عشرات الرهائن.
في كل سنة، خلال الأيام والأسابيع التي سبقت 6 تشرين الأول/ أكتوبر، تنشر الصحافة الإسرائيلية مقالات وقصصًا – ومن وقت لآخر – مقطعًا سينمائيًا أو شهادة تعرض لأول مرة حول حرب تشرين الول/ أكتوبر 1973، المعروفة أيضًا باسم “حرب يوم الغفران”. كان الهجوم المفاجئ الذي شنه الجيشان المصري والسوري في يوم الغفران سنة 1973 مدمرًا ليس فقط للجيش الإسرائيلي، بل أيضًا للشعب الإسرائيلي. والآن، وبعد مرور خمسة عقود على كارثة السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، وجه الفلسطينيون للإسرائيليين نداء فظاً آخر للاستيقاظ.
لن أنسى أبدًا اليوم الذي بدأت فيه حرب 1973. لقد كان عصرًا مشمسًا في يوم الغفران، ولأننا كنا بيتًا يهوديًا غير متدين، لم نكن في الكنيس أو نصوم. كنت أتسكع في منزل أحد الأصدقاء عندما اندلعت أخبار الحرب، وبدأت صفارات الإنذار. واقترح والد صديقي أن أعود إلى المنزل، وهو ما فعلته. كان منزلي على بعد خمس دقائق فقط سيرًا على الأقدام، لكنه بدا غريبًا، فقد كنا نعيش في مجتمع هادئ أعلى التل من الطريق رقم 1، وهو الطريق السريع الرئيسي بين القدس وتل أبيب. لقد كان يومًا هادئًا للغاية لأنه كان يوم الغفران، ولم تكن هناك حركة مرور أو مواصلات عامة، وكان من الغريب معرفة أن حربًا أخرى كانت تدور.
حتى تلك اللحظة، اعتاد الإسرائيليون على حروب قصيرة وحاسمة وعمليات بطولية حيث كان الجيش الإسرائيلي، أحد أفضل الجيوش في العالم – أو هكذا اعتقدنا – منتصرًا دائمًا والعرب مذلين. عندما وصلتُ إلى المنزل، كان والدي يتحدث عبر الهاتف مع صديقه ورفيق السلاح السابق، الجنرال المتقاعد عازر وايزمن. وكانا كلاهما عضوين بارزين في القيادة العليا الإسرائيلية قبل سنوات قليلة من ذلك، وكلاهما تقاعد بعد حرب سنة 1967.
وقال مراسل إسرائيلي يبث على الهواء مباشرة من تل أبيب إن “الإسرائيليين يعتقدون أن عصر الحروب الكبرى قد انتهى”؛ حيث يتم عرض مشاهد القتال مع عناصر المقاومة الفلسطينية في سديروت والمستوطنات الإسرائيلية الأخرى في الوقت الحقيقي. وما نسيه الإسرائيليون، أو ربما لم يدركوه قط، هو أن الجنود الإسرائيليين ليسوا شجعاناً، ومن المؤكد أنهم ليسوا محصنين ضد الهزيمة. لقد ثبت منذ عقود من الزمن أن الإسرائيليين، أقل شأناً من نظرائهم العرب.
وكانت الحكمة السائدة هي أنه بعد الهزيمة والإذلال في حرب سنة 1967، “لن يجرؤ العرب على مهاجمتنا”. حسنًا، لقد قاموا بالهجوم وفي سنة 1973 وقبضوا على جنود الجيش الإسرائيلي وهم عرايا. لقد كان جنود الاحتياط الإسرائيليون نائمين في مخابئهم بينما كان الجيش المصري يبني الجسور للسماح لآلاف الجنود بعبور قناة السويس إلى شبه جزيرة سيناء. ثم شرعت هذه القوات المصرية في دخول المخابئ الإسرائيلية وقتلت وأسرت جنودًا إسرائيليين. ثم استولت على صحراء سيناء، والآن كامل المستوطنات الإسرائيلية التي تحتلها القوات الفلسطينية.
فسار الجيش المصري بارتياح ومن دون مقاومة إلى شبه جزيرة سيناء، وزحف الجيش السوري إلى مرتفعات الجولان، وهي المنطقتان اللتان احتلتهما “إسرائيل” في سنة 1967. ويقال إن السوريين كان بوسعهم أن يستولوا على مرتفعات الجولان ويصلوا إلى الجليل من دون مقاومة لو لم يتوقفوا خوفًا من أنهم يسيرون نحو الفخ.
الفلسطينيون يسيطرون على دبابة إسرائيلية بعد عبور السياج الحدودي مع “إسرائيل” من خان يونس في جنوب قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
ما زلت أتذكر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال ديفيد إليعازر وهو يتحدث سنة 1973 قائلاً: “سوف نكسر عظامهم، وسوف نهزمهم”، وكانت والدتي تضحك بمرارة وهي تقول لنفسها في الغالب: “كان من المفترض أن تمنع هذا والآن مات الكثير من الأولاد الصغار”. بمعرفتها، كان الألم الذي عبرت عنه هو موت الأولاد من جميع أطراف الحرب.
تقاعد عازر وايزيمان وانضم إلى حزب حيروت اليميني – سلف حزب الليكود اليوم – وتقاعد والدي لبدء مهنة أكاديمية، فضلًا عن ما كان يعتبر في السياسة الإسرائيلية سياسة يسارية، وظل الاثنان صديقين مدى الحياة. عندما اندلعت الحرب، كان رد الفعل غير المحسوب هو استدعاء الجنرالات الذين شكلوا القيادة العليا سنة 1967 حتى يتمكنوا من إنقاذ الوضع.
بعض هؤلاء الجنرالات كانوا لا يزالون في الخدمة، لذلك تم استدعاء الجنرالات الذين تقاعدوا – جميعهم باستثناء اثنين: ماتي بيليد، والدي، وعازر وايزمن. لقد أصبح الأخير الآن سياسيًا؛ لذلك لا يمكن استدعاؤه. بينما كان والدي شوكة في خاصرة رئيسة الوزراء غولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان – الثنائي غولدا وديان – لأنه ظل يدعو الحكومة الإسرائيلية منذ عدة سنوات إلى صنع السلام مع جيرانها العرب.
إن قائمة الاتهامات التي يمكن توجيهها ضد الثنائي غولدا- ديان طويلة جداً بالنسبة لهذا المقال، لكن يمكن توجيه الاتهام الرئيسي لهما، في رأيي المتواضع، بأنه كان من الممكن تجنب الحرب تمامًا لولا غطرستهما. فمنذ سنة 1970، عندما أصبح أنور السادات رئيساً لمصر، كان يدعو إلى اتفاق سلام مع “إسرائيل”، وتجاهلته الحكومة التي قادتها غولدا وديان. وبعد ثلاث سنوات من محاولته استعادة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من مصر سلميًا اختار الحرب.
لقد ظل الفلسطينيون يطالبون بحريتهم لعقود من الزمن؛ لذا كان ينبغي توقع هذا الهجوم، الذي تم التخطيط له وتنفيذه بشكل جيد. ومع ذلك، فقد أظهرت “إسرائيل” مرة أخرى أن جيشها هو جيش غير كفؤ، ومفرط في الكبرياء، ومفرط في الثقة.
في تلك السنوات، كان والدي يكتب لصحيفة معاريف الإسرائيلية اليومية وألقى الكثير من الخطابات أمام الجمهور. ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى الدخول في محادثات سلام مع جيرانها العرب، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، التي وصفها بأنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وانتقد بشكل خاص الثنائي جولدا وديان. وكان لاذعًا في تصريحاته بشأن جبنهما وافتقارهما إلى البصيرة، وتصرفهما غير المسؤول بتجاهلهما دعوة السادات للسلام، وغني عن القول أنه لم يكن يفعل ذلك انتقامًا منهما.
جانب شخصي آخر من القصة يتعلق بأخي يوآف، والذي كان يدرس في الولايات المتحدة في ذلك الوقت وكان جزءًا من مبادرة لحث الضباط الإسرائيليين السابقين الذين كانوا في الولايات المتحدة على العودة فورًا والقتال من أجل بلادهم. وعاد أيضًا، وأذكر أنني التقطته في المطار وأخذته مباشرة إلى قاعدة عسكرية حتى يتمكن من تولي قيادة وحدة دبابات والانضمام إلى الحرب ضد المصريين. إذا كان هذا يبدو جنونًا، فهذا لأنه كان كذلك بالفعل. ومع ذلك، كان هذا هو الجو السائد في ذلك الوقت.
وكانت القيادة الإسرائيلية آنذاك – كما هي اليوم – في حالة فوضى عارمة، فلقد فقدنا الاتصال بأخي، ولم يعرف أحد مكانه. وتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة. وفُقد أعداد كبيرة من الجنود أثناء القتال، ولم تكن هناك طريقة لمعرفة ما إذا كان جندي معين ميتًا أو حيًا أو ربما تم أسره. واليوم يصدق هذا أيضاً، مع استثناء واحد: وهو أن المدنيين الإسرائيليين هم الذين قُتلوا وجرحوا وفقدوا، لأن أحداً لم يتخيل أن العرب قادرون أو شجاعون بالدرجة الكافية لشن مثل هذا الهجوم الجريء.
وكما كان الحال آنذاك – كذلك اليوم – انقطعت الاتصالات، لكن الأمر الأسوأ حينها هو أنه بسبب عودة بعض الجنرالات المتقاعدين، لم يكن هناك تسلسل قيادي واضح، مما يعني أن انهيار القيادة كان على أعلى مستوى في الجيش.
وبعد انتهاء الحرب، برأت لجنة تحقيق الحكومة من ارتكاب أي مخالفات وألقت كل اللوم على قيادة الجيش. ولكن كان هناك الكثير من اللوم، وكان تبرئة الحكومة خطأً كبيراً؛ لأن الجيش كان يتلقى أوامره من الحكومة، وليس العكس.
وكانت هناك معلومات استخباراتية موثوقة تشير إلى أن المصريين كانوا يعتزمون الهجوم في سنة 1973. وجاءت هذه المعلومات من مصادر مختلفة، بما في ذلك الموساد، والمخابرات العسكرية، وحتى العاهل الأردني الراحل الملك حسين، الذي حذر الحكومة الإسرائيلية من أن الحرب كانت وشيكة، ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا كان ذلك توقيعًا بين البلدين، وتم التصويت على خروج الثنائي غولدا وديان من منصبيهما، على الرغم من تمكن ديان من العودة إلى منصب رفيع في الحكومة اليمينية الجديدة. وحافظت غولدا على إرثها كقائدة عظيمة، رغم أنه من الواضح أنها لم تكن كذلك.
وبينما لا يزال الإذلال الذي خلفته حرب سنة 1973 مشتعلاً في قلوب وعقول الإسرائيليين، فقد أصبح الآن هناك إذلال جديد، وربما أعظم. ففي الحروب التي سبقت سنة 1973، كانت “إسرائيل” تهاجم دائماً عندما يكون أعداؤها ضعفاء وغير مستعدين. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ومرة أخرى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تذوق الإسرائيليون ما كانوا قد أذاقوه للعرب من قبل، والأكثر من ذلك أنها انهارت عسكريًّا وسياسيًّا.
هناك شيء واحد مؤكد: بغض النظر عن مدى نجاح هذه العملية، فمن المرجح أن يدفع الفلسطينيون ثمنًا باهظًا. وبحسب ما ورد فقد تعرض صديقي الناشط عيسى عمرو من الخليل للضرب المبرح والاعتقال على يد الجنود الإسرائيليين، وبحسب تقرير من مدينة الخليل، فهو بحاجة إلى رعاية طبية؛ وما هو إلا مثال واحد. ونأمل أن يؤدي هذا النجاح العسكري الفلسطيني إلى مكاسب سياسية حقيقية لجميع الفلسطينيين.
المصدر: موندويس