ترجمة حفصة جودة
بعد أيام قليلة من إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابًا متبجحًا في الأمم المتحدة، يعلن فيه تأسيس شرق أوسط جديد متمركز حول “إسرائيل” وشركائها العرب الجدد، قام الفلسطينيون الذين تجاهلهم تمامًا في خريطته الإقليمية الخيالية، بالتعامل معه وتوجيه ضربة قاضية سياسيًا وإستراتيجيًا نحو “إسرائيل”.
شنت حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” غارة مخطط لها بعناية وسريعة التنفيذ من غزة إلى “إسرائيل” جوًا وبحرًا وبرًا، عززتها آلاف الصورايخ التي أُطلقت تجاه المناطق العسكرية والمدنية الإسرائيلية جنوب البلاد، ما أدى إلى مقتل 300 إسرائيلي على الأقل وأسر العشرات من الجنود والمدنيين الإسرائيليين.
أهداف حماس من تلك العملية ليست سرًا، فالهدف الأول: الانتقام من “إسرائيل” وعقابها على الاحتلال والقمع والمستوطنات غير الشرعية وانتهاك المقدسات الدينية الفلسطينية خاصة المسجد الأقصى في القدس.
ثانيًا: استهداف التطبيع العربي مع “إسرائيل” الذي احتضن نظامها العنصري في المنطقة، وأخيرًا: تأمين أي تبادل آخر للأسرى لإطلاق سراح أكبر عدد ممكن من السجناء السياسيين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
من المهم أن نتذكر أن قائد حماس في غزة هو يحيى السنوار الذي قضى أكثر من عقدين في السجون الإسرائيلية وأطلق سراحه في عملية تبادل للأسرى، أما محمد ضيف قائد الجناح العسكري لحماس ففقد أحبابه – مثل كثير من الفلسطينيين – في أحد الاعتداءات الإسرائيلية – طفله الرضيع وابنته ذات الثلاث سنوات وزوجته – لذا هناك أيضًا جانب انتقامي وعقابي واضح في تلك العملية.
لذا، فربما كان الهجوم صادمًا لكنه ليس مفاجئًا تمامًا، لقد قضت غطرسة “إسرائيل” عليها وعلى قادتها المغرورين الذين اعتقدوا لفترة طويلة أنهم لا يُقهرون وقللوا من شأن أعدائهم، منذ الهجوم العربي المفاجئ في أكتوبر/تشرين الأول 1973، تعرض قادة “إسرائيل” المتعاقبون للصدمات والرعب مرة تلو الأخرى، بكل ما أوتي به الشعب المقهور من قوة.
ستظل صور الإسرائيليين الفارين من منازلهم وبلداتهم في ذعر، محفورة في الذاكرة الجمعية لعدة سنوات قادمة
لقد فُوجئوا بالمقاومة اللبنانية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والانتفاضة الفلسطينية في الثمانينيات والألفية، ثم بالمقاومة الفلسطينية بعد أكثر من 5 عقود على الاحتلال الإسرائيلي و4 حروب متعاقبة على قطاع غزة.
من الواضح أن الجيش الإسرائيلي والقادة المدنيين أيضًا لم يتوقعوا عملية حماس الضخمة، التي يكشف نجاحها عن فشل كبير في الاستخبارات والجيش الإسرائيلي، فرغم شبكة الجواسيس الإسرائيلية المتطورة وطائرات الدرونز وتكنولوجيا المراقبة، لم تستطع أن تتنبأ مسبقًا بالهجوم.
لكن الضرر الذي لحق بـ”إسرائيل” يتجاوز الفشل الاستخباري والعسكري، فهو بمثابة كارثة نفسية وسياسية، فالدولة التي لا تُقهر كشفت عن ضعفها ووهنها، وهذا ليس جيدًا لخططها في قيادة إقليمية لشرق أوسط جديد.
ستظل صور الإسرائيليين الفارين من منازلهم وبلداتهم في ذعر، محفورة في الذاكرة الجمعية لعدة سنوات قادمة، وهذا اليوم ربما هو أسوأ يوم في تاريخ “إسرائيل”، فهو إذلال تام.
ونتنياهو – أستاذ المراوغة – لن يصبح قادرًا على تغيير ذلك بغض النظر عن محاولاته للمراوغة، لن تستطيع “إسرائيل” أن تغير ما رآه العالم صباح السبت: دولة مسعورة تخسر أمام أوهامها الخيالية.
لا شك أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ستحاول استعادة مبادرتها العسكرية والإستراتيجية من حماس، بالتعامل الفوري مع إخفاقها العسكري الكبير، وكما فعلت في الماضي ستشن حملة قصف واغتيالات تتسبب في معاناة كبيرة وخسائر لا حصر لها في صفوف الفلسطينيين، وكما حدث في الماضي مرة تلو الأخرى فلن يدمر ذلك المقاومة الفلسطينية.
من المتوقع بالتأكيد أن يبالغ نتنياهو في رد فعله، في محاولة يائسة منه لقلب هذا الفشل الشخصي والحفاظ على تحالفه الهش
لهذا السبب قد تفكر “إسرائيل” في إعادة نشر جيشها في المدن والبلدات الفلسطينية وبين مخيمات اللاجئين عبر قطاع غزة والضفة الغربية بذريعة التخلص من حماس وبقية الفصائل الفلسطينية.
هذا الاحتلال الكامل يمثل الرغبة التاريخية لأكثر التحالفات الإسرائيلية الحاكمة تطرفًا التي ترغب في تدمير السلطة الفلسطينية والاستيلاء على كامل فلسطين التاريخية أو ما يطلقون عليه “أرض إسرائيل الكبرى” والتطهير العرقي للفلسطينيين.
لكن ذلك سيكون خطأ فادحًا، فسيؤدي إلى حرب غير متكافئة وعزل “إسرائيل” أكثر من أي وقت مضى، حتى القادة الغربيين الذين يدعمون نتنياهو وينافقوه بالتضامن مع الفصل العنصري الإسرائيلي قد يبدأون في الابتعاد عن الحكومة الإسرائيلية.
الآن، تقوض تلك الفضيحة المذلة الموقف الإستراتيجي والسياسي لـ”إسرائيل” في المنطقة، أما الأنظمة العربية التي طبّعت العلاقات مع “إسرائيل” وشركات حكومة نتنياهو فتبدو أكثر حمقًا مع مرور كل ساعة.
من المتوقع بالتأكيد أن يبالغ نتنياهو في رد فعله، في محاولة يائسة منه لقلب هذا الفشل الشخصي والحفاظ على تحالفه الهش، وفي تلك العملية سينفر منه الكثير من شركائه الإقليميين المحتملين والجدد.
وأيًا كانت طريقة سير الأمور، فإن إرث نتنياهو سيخالطه الفشل، وربما يأخذ معه نظيره الفلسطيني العجوز محمود عباس إلى مقبرة التاريخ، فقد فشل عباس سياسيًا أيضًا في أثناء محاولته الموازنة بين إدانة الاحتلال الإسرائيلي والتنسيق الأمني معه، هذا التوازن لم يعد ممكنًا.
لكن التغيير القادم يتجاوز الأشخاص، فهو يتعلق بشعبين بأكملهما وسواء أرادا العيش في سلام أم الموت في أثناء القتال، فقد انقضى الوقت والمساحة الممكنة لأي شيء فيما بينهما.
لقد أوضح الفلسطينيون تمامًا أنهم يفضلون الموت واقفين من أجل الحرية والعدالة على الموت راكعين في ذل، وقد حان الوقت لأن ينتبه الإسرائيليون لدروس التاريخ.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية