بعد وقتٍ قصيرٍ من سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل شمال العراق في حزيران 2014، وتمدّده سريعًا في مناطق واسعة أخرى، وتهديده لعاصمة إقليم كردستان العراق (أربيل)، أُعلن تشكيل تحالف دولي يضم العديد من الدول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ويهدف لمحاربة التنظيم ووقف تقدمه في العراق وسوريا.
لسنا ضد محاربة الإرهاب كعراقيين، فنحن أكثر من عانى منه، فبسببه سالت أنهارٌ من الدماء، وشُرِّدَ بفعله ملايين المدنيين، وطُحِنَت بحجّته قرى ومدن، ودُفِنَت تحت أنقاضها جثثٌ لا تحصيها أرقام، ولا يستطيع وصف بشاعة ما جلبه للأبرياء ألف مقالٍ ومقال، لكننا ضد أسلوب وكيفية محاربته.
الدول الكبرى استخدمت مصطلح “الحرب على الإرهاب” كغطاءٍ دَثَّرَتْ تحته أهدافًا مرسومة، جلّها يصب في مشروع تفتيت فرائسها قبل الانقضاض على إرادتها وخيراتها
فالدول الكبرى استخدمت مصطلح “الحرب على الإرهاب” كغطاءٍ دَثَّرَتْ تحته أهدافًا مرسومة، جلّها يصب في مشروع تفتيت فرائسها قبل الانقضاض على إرادتها وخيراتها، بدأت المسرحية بذرف دموع التماسيح على الأقليات، وهيّج إعلامها الرأي العام الدولي، وأوعزت لمصانعها العسكرية أن استعدّي لصفقات مجنونة، فهذا وقت الحصاد، ثم أتت بجنودها وطائراتها لتقاتل إرهابًا صنعته هي وأنظمتها الوظيفية.
لا أحد يختلف على أنَّ ما قام به تنظيم داعش من ممارسات تندرج تحت طائلة الإرهاب، فالمجازر التي ارتكبتها عناصره بحق آلاف من المدنيين في العراق وسوريا ودولًا أخرى – عربية وغير عربية – لا تزال شاخصة للعيان، ونتفهّم غضب المجتمع الدولي من بشاعة التنظيم، لا بل إنَّ غضبنا يفوق غضبه، كوننا نعايش جرائمه في مجتمعاتنا وذاق الجميع من بطشه ما قُدِّر له، لكن ماذا بشأن إرهاب التحالف الدولي الذي نتعرض له؟
الإرهاب الذي يقتل باسم مكافحة الإرهاب، هذا الإرهابٌ المسموح له بالإبادة والتدمير والتعدّي دون اعتذار
هذا الإرهاب الذي يقتل باسم مكافحة الإرهاب، هذا الإرهابٌ المسموح له بالإبادة والتدمير والتعدّي دون اعتذار، والمباح له الخطأ مهما كانت فداحته، ودون تعويض بالطبع، ومهمّته “السامية” تمكّنه من أن يفعل تحت مظلتها ما يشاء، بمن شاء، وقتما يشاء، وكيف شاء، دون أن يُقال له أي شيء.
فقط خلال الأسبوع الماضي، المئات من الأبرياء من نساءٍ وأطفالٍ وشبابٍ وشيوخٍ في الموصل العراقية والرقة السورية، قتلتهم ودفنتهم تحت أنقاض منازلهم طائرات التحالف الدولي التي حلّقت فوق رؤسهم بحجة حمايتهم من إرهابٍ أسود ووعدتهم بتحريرهم منه، لكن لا خفت عتمة السواد ولا المدنيون ذاقوا طعم الأمان، بل العكس تمامًا حصل.
ففي الموصل أعلن المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن فرق الدفاع المدني والأهالي انتشلوا جثث 500 مدني قتلوا بقصف طيران التحالف الدولي لأحياء المدينة التي أصبح أغلبها أثرًا بعد عين لشدّة القصف، أما في محافظة الرقة السورية فقد بلغ عدد المدنيين الذين قُتلوا نتيجة غارات التحالف أكثر من 440 مدنيًا، حسب إحصائيات منظمة Air wars، وتشير تقارير أنه منذ آب 2014 حتى الأيام الأخيرة، قتل التحالف ما بين 7091 و9790 مدنيًا غير مقاتل في كلٍّ من العراق وسوريا.
تعاطف المجتمع الدولي مع الضحايا يعتمد على نوعية القاتل والمقتول
ولأن تعاطف المجتمع الدولي مع الضحايا يعتمد على نوعية القاتل والمقتول، فقد وقف مجلس الأمن دقيقة حدادٍ على خمسةِ بريطانيين قتلهم داعشي في لندن، وأُرسِلت برقيات التعزية من كل حدبٍ وصوب لتعزية حكومة بريطانيا بقتلاها، بينما مئات الأبرياء في الموصل والرقة، تجاهلهم الجميع، وكأنَّ شيئًا لم يكن، فقط لأنَّ قاتلهم رجل البيت الأبيض، وهذه الازدواجية ليست الأولى كما أنها ليست مستغربة، لكنها تأكيد جديد على انحطاط هذا العالم وسفالته.
ما يجري اليوم ليس بأكثر من إرهاب أُعطي صفة الشرعية، فالقتلى غالبيتهم العُظمى عُزَّل وليسوا مقاتلين، قُتِلوا بشكلٍ لا يقلُّ بشاعة عن الهجمات التي تنفذها الجماعات الإرهابية، لذلك يجب أن توضع هذه الممارسات في الحقيبة نفسها كأعمال إرهابية، ولو كان هناك مثقال ذرّة من العدالة في هذا العالم الذي انسلخت منه كل معاني الإنسانية، لتم سوق القتلة إلى المحاكم الدولية باعتبارهم مجرمي حرب.
طريقة التعامل مع الإرهاب بهذا الشكل ستولّد إرهابًا أكبر وأخطر من الإرهاب الذي اجتمع الشرق والغرب على محاربته اليوم
وفي حقيقة الأمر إن طريقة التعامل مع الإرهاب بهذا الشكل ستولّد إرهابًا أكبر وأخطر من الإرهاب الذي اجتمع الشرق والغرب على محاربته اليوم، فكما أنَّ ظلم بعض الأنظمة الديكتاتورية العربية وقهرها لشعوبها ولد داعش وأخواتها، فإن همجية التحالف الدولي وجرائمه بحق المدنيين، بلا شك تغذّي التطرف وتُكسبه مزيدًا من المتعاطفين.
“إن الإرهاب ليس كالحرب التقليدية، لا يمكن للأسلحة المعقدة ولا الرؤوس النووية أن تهزم الإرهاب، الهجمات الإرهابية هي نوع جديد من الحرب، إنها حرب الضعفاء ضد الأقوياء، وطالما يوجد هذا الفارق الهائل بين القوي والضعيف في القدرة على القتل، لا بد أن تحدث هجمات إرهابية ردًا على أنواع القهر التي يذيقها القوي للضعيف”، بهذه الكلمات يصف مهاتير محمد الإرهاب.