أضحت بيئة الأعمال والاستثمار خلال السنوات السبع الماضية أسهل من أي وقت مضى، بفضل “منصات التمويل الجماعي” التي انتشرت في العالم الأجنبي والعربي ودخلت في المنطقة العربية مؤخرًا، لأنها تقوم بعمل البنوك والمؤسسات المالية التقليدية بشكل أكثر مرونة، وتمكنت من لفت انتباه صندوق النقد والبنك الدوليين، بسبب حجم التمويل والمشاريع التي تمكنت من تمويلها. فإلى أي مدى ممكن أن تؤدي تلك المنصات في مساعدة بيئة العمل؟ وهل نقف اليوم أمام شكل جديد من التمويل قد يتغلب على التمويل التقليدي السائد في البنوك؟
ثورة التمويل الجماعي
قد لا يجوز أن نطلق على هذه الطريقة من التمويل، ثورة، ولكن نسبة إلى حجم الأعمال والمشاريع التي استطاعت إطلاقها قد يسمح بذلك، على أنها لم ولن تلغي التمويل البنكي التقليدي، إلا أنها تشاركه سوق التمويل، وتخفف الضغط على البنوك، مع إمكانية القول أن هذا النوع يتمتع بقدر جيد من المرونة لا يتمتع بها قطاع البنوك.
بالنسبة للشخص الذي يملك فكرة عمل -مشاريع صغيرة- ويريد تنفيذها على أرض الواقع، يقف التمويل عائقًا أمام تنفيذ فكرته، وبقدر تساهل الجهاز المصرفي مع ذلك الشخص وتقديم التسهيلات اللازمة له، يرى مشروعه النور وإلا يبقى حبيس الأدراج. فالبنوك هي القطاع الأساسي المسؤول عن تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
هناك دول تعطي تلك المشاريع التي تحتاج لرأس مال يبدأ من 50 ألف دولار – يختلف هذا الرقم بين بلد وآخر- ويوظف على الأقل شخصين، أهمية بالغة بسبب مساهمتها في نسبة العمالة في البلاد وحجم الناتج الذي تضيفه على الاقتصاد، وتحفيز بيئة الاستثمار والعمل وهذا كله يعود على الدولة بالنفع والفائدة.
هناك دول تعطي المشاريع الصغيرة أهمية بالغة بسبب مساهمتها في نسبة العمالة وحجم الناتج الذي تضيفه على الاقتصاد، وتحفيز بيئة الاستثمار والعمل
وبعد ظهور التمويل الجماعي أصبح صاحب فكرة المشروع الصغير أو المتوسط ) ليس بحاجة للذهاب إلى البنك وطلب قرض مالي لتمويل مشروعه، والدخول في معمة القرض والفائدة ودفع الأقساط، أو الاستعانة برجل أعمال/شركة حكومة يجبر صاحب الفكرة لتقديم امتيازات وإغراءات أو حتى تنازلات لقبول الطرف الآخر بتمويل المشروع. فبفضل تلك المنصات لم يعد بحاجة لكل هذا، الشيء المهم هو عمل حملة تمويلية بشكل محترف تبين فيها فكرة المنتج ومحاسنه أمام الجمهور لإقناعهم بتمويل المشروع، ويبدأ بعدها الإنتاج بعد نجاح الحملة التمويلية.
الانترنت غير كل شيء
قبل البدء بتفاصيل منصات التمويل الجماعي، يجب التنويه لأمر مهم هو انتشار شبكة الانترنت في العالم وتطور آليات العمل من خلالها في العالم وفي المنطقة العربية بشكل نسبي، والأمر الآخر يتعلق بالتسوق الإلكتروني وآليات الدفع الإلكترونية والتي لا تزال قليلة نسبيًا في العالم العربي على الرغم من ازدهار التجارة الإلكترونية في بلدان عربية عديدة، فنسب استخدام بطاقات الائتمان للتسوق بقيت متواضعة حيث اعتمد نحو 80% من المتسوقين في العام 2015 على الدفع نقدًا عند التسليم.
نسب استخدام بطاقات الائتمان للتسوق في العالم العربي بقيت متواضعة حيث اعتمد نحو 80% من المتسوقين في العام 2015 على الدفع نقدًا عند التسليم
بالنسبة إلى عدد مستخدمي الانترنت، فقبل عقد من الزمان كان عدد المتصلين على الانترنت حول العالم لا يزيد عن 1% من إجمالي عدد السكان، وذكر تقرير صادر عن لجنة النطاق العريض التابعة للأمم المتحدة أن عدد مستخدمي الإنترنت عالميًا سيصل إلى 3.5 مليار شخص بحلول نهاية 2016 وهو ما يمثل 47% من إجمالي سكان العالم.
وبحسب التقرير أيضًا فإن آيسلندا لا تزال تسجل أعلى نسبة مئوية من حيث الأفراد الذين يستعملون الإنترنت، وذلك بنسبة 98.2%. أما بالنسبة للوطن العربي فإنه من المتوقع أن يكون هناك 226 مليون مستخدم للانترنت بحلول العام 2018 حسب تقرير اقتصاد المعرفة العربي للعام 2015 – 2016 الذي تم إطلاقه في مارس/آذار 2016. ويذكر أن المعدل في العام 2014 بلغ 37.5%.
وكانت دول الخليج الست تصدرت التصنيف العام فى مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى العالم العربى خلال العام 2015، حيث جاءت البحرين فى المرتبة الأولى بعد أن سجلت 74.15% فى معدلات استخدام شبكة الإنترنت، فيما حققت الكويت أعلى نسبة فى انتشار الهواتف النقالة بـ 194.62%.
من المتوقع أن يكون هناك 226 مليون مستخدم للانترنت في العالم العربي بحلول العام 2018
أسهم الانترنت في جلب السوق إلى البيت والدفع بواسطة بطاقة إلكترونية، وأدى أيضًا إلى إيجاد بديل عن العملة النقدية الفيزيائية وهي البيتكوين، وبات غير ضروري ذهاب المواطن إلى الدوائر الحكومية لإجراء المعاملات الرسمية فصار كله بين يديه من خلال خدمة الحكومة الإلكترونية، وصارت الدول تتنافس بين أسرع دولة في تأسيس شركة من خلال الاعتماد على الانترنت، بعد كل هذا، كان من الطبيعي أن يؤدي هذا التطور إلى إيجاد وسائل أخرى لتمويل المشاريع بديلا عن البنوك، بطريقة احترافية وهي التمويل الجماعي، لتؤكد أن العالم يتوجه نحو مزيد من التطور ونحو مزيد من استخدام التقنية والانترنت في كافة مجالات الحياة.
بزوغ فكرة التمويل الجماعي
المنطق الذي يقوم ورائه التمويل الجماعي هو أن صاحب الفكرة يطلب المساعدة من الناس لتمويله ليصبح قادر على تنفيذ فكرته ونقلها من الورق إلى أرض الواقع. لجوء صاحب الفكرة إلى هذه العملية، ليس من قبيل الصدفة! فلماذا خرج بعد العام 2009 ولم يخرج بعد العام 2000 مثلا، والسبب يعود إلى أمرين؛ الأول يتعلق بالأزمة المالية العالمية التي حلت كنذير شؤم على العالم عام 2008 بسبب أزمة الديون البنكية والتي أدت لإفلاس بنوك كثيرة وهبوط الأسهم وانهيار في أسواق المال واتخذت الحكومات إجراءات تقشفية بسبب الركود في الاقتصاد وفصلت الشركات موظفين لتحفيض التكاليف بعد تكبدها خسائر مالية، كما أن البنوك لم تعد تعطي قروض كما في السابق، والأمر لا يقتصر على الوطن العربي بل على العالم بكامله.
والأمر الآخر هو أن هذا الحال فرض صعوبات كثيرة على الشباب العاطل عن العمل والمتخرج حديثًا من الجامعات، فخُلقت حاجة ماسة عند أولئك الشباب ليأخذوا هم زمام المبادرة ويخلقوا فرص عمل لأنفسهم، وإلا فإن الفقر والبطالة ينتظرهم، لذلك لم يكن لديهم خيار، فـ”الحاجة أم الاختراع” فعادوا إلى أهم قيمة يمكن استثمارها في المجتمع وهي “التكافل الاجتماعي”.
العالم يتوجه نحو مزيد من التطور ونحو مزيد من استخدام التقنية والانترنت في كافة مجالات الحياة
بحيث يشارك مجموعة من الأشخاص من خلال دفع مبالغ قليلة لجمع التمويل اللازم لتنفيذ أمر ما، ومن أبرز المنصات الأجنبية التي تأسست هي “اندياغوغو” في العام 2008 و”كيك ستارتر” في العام 2009 في الولايات المتحدة وهما أكبر منصتين في العالم وتم استنساخ التجربة في الكثير من الدول حول العالم، ووصلت الفكرة إلى العالم العربي في العام 2015 حيث تم تأسيس منصة “ذوو مال” ومنصات أخرى مختصة في أنواع أخرى من التمويل الجماعي.
المنطق الذي يقوم ورائه التمويل الجماعي هو أن صاحب الفكرة يطلب المساعدة من الناس لتمويله ليصبح قادر على تنفيذ فكرته ونقلها من الورق إلى أرض الواقع
أشكال التمويل الجماعي
وجدت العديد من الأشكال من التمويل الجماعي أشهرها المساهمة مقابل المكافآت، إذ يقوم المنتج/صاحب الفكرة بتقديم مكافأة للممولين بحسب حجم التمويل ونوع المنتج كما في حالة منتج معنوي؛ كتمويل حملة إغاثية أو شيء مادي كتمويل إنتاج ساعة مثلا، أو شيء أكاديمي ككتابة كتاب.
تبدأ بمكافأة رمزية ككلمة شكرًا، وقد يقدم له المنتج (أو عدد معين منه) ذاته الذي شارك بتمويله، أو اشتراكًا مجانيًا في الموقع أو التطبيق أو اللعبة..إلخ. ويعد هذا الشكل من التمويل الجماعي الأشهر على الإطلاق والأكثر استخدامًا بين منصات التمويل الجماعي.
والشكل الآخر هو التبرعات، بحيث يتبرع الممولون للمشروع دون توقع أي مردود مادي أو نسبة من الأرباح، ويعد هذا الشكل مناسب للحملات الخيرية، وأشهر منصة تقوم بهذا الشكل هي منصة “كيفيا”، التي تقوم على فكرة القرض الحسن، وهي عبارة عن مجتمع متعاون يساهم في مساعدة الآخرين لتحسين حياتهم أو إكمال تعليمهم.
حيث يمكن للأفراد التقدم للحصول على القروض الشخصية من أجل بدء عمل جديد أو إكمال تعليم جامعي أو لأي نشاط آخر يحسن حياتهم، والممولون يمكنهم دفع أي مبلغ مالي لدعمهم، على أساس أن يعود إليهم المال بعد المدة المحددة. والشكل الثالث هو الاستثمار، بحيث يكون للممولين نسبة من حق الملكية في المشروع، أو المشاركة في الأرباح على حسب الاتفاق، وهذا الشكل يعد الأكثر تعقيدًا.
المساهمة مقابل المكافآت، إذ يقوم المنتج/صاحب الفكرة بتقديم مكافأة للممولين بحسب حجم التمويل ونوع المنتج
نتائج منصات التمويل الجماعي
تمكنت منصة كيك ستارتر في العام 2016 من خلق أكثر من 300 ألف فرصة عمل بدوام كامل وجزئي بفضل المشاريع التي تم تنفيذها حسب دراسة صدرت عن جامعة بنسلفانيا الأمريكية في العام 2016 وبلغت قيمة تلك المشاريع نحو 5.3 مليار دولار.
وتمكنت المنصة أيضًا من تمويل 12.098 ألف من أصل 19.235 ألف في العام 2016 وتم إطلاق 57.515 ألف مشروع جديد على المنصة في مختلف الاختصاصات، بنسبة 80% من الأشخاص ممن يبدأون أعمالهم للمرة الأولى و 20% منهم سبق وأن أطلقوا أعمال سابقة على المنصة.
تمكنت منصة كيك ستارتر في العام 2016 من خلق أكثر من 300 ألف فرصة عمل بدوام كامل وجزئي بفضل المشاريع التي تم تنفيذها
وتشير الإحصائيات أن 19.235 ألف مشروع نجح في حملته التمويلية، وعدد من ساهم في تمويل تلك المشاريع بلغ حوالي 4 ونصف مليون من كل أنحاء العالم. أما المشاريع التي تم تمويلها فتعدد بين العديد من القطاعات، من صناعة الأفلام للكتابة والتصميم والتكنولوجيا وأشياء كثيرة أخرى. ويجدر بالذكر أن المنصة تأخذ نسبة تتراوح بين 5 و 10% من أصل المبلغ الإجمالي.
هذا بالنسبة لنتائج أشهر المنصات الأجنبية التي تعرضها على الصفحة الرئيسية على موقعها الرسمي، أما العربية والتي تعتبر ذو مال أشهرها، فلا تزال نتائجها متواضعة مقارنة مع الأجنبية بالنسبة لحجم التمويل ونوعية المنتجات المعروضة في المنصة، وحجم التمويل غير معروض على الموقع الرسمي لها.
وفي النهاية فإن ما يحكم تطور هذا الشكل من التمويل الحديث في منطقتنا، هو انتشار الانترنت بشكل أكبر، وهذا شيء تجاوزته الدول العربية نوعًا ما بدليل أن النمو في انتشار واستخدام الانترنت مرتفع، والنقطة الأخرى تعتمد على انتشار التسوق الالكتروني واستخدام بطاقات الدفع الإلكترونية، إضافة إلى الأمر الأهم وهو انتشار ثقافة المشاركة والمساهمة في التمويل بمبالغ مالية صغيرة لنقل المشروع من الورق إلى الواقع، خصوصًا وأن الدول العربية جميعها بحاجة لمشاريع صغيرة ومتوسطة تلبي حاجة السوق المحلية وتشجع الشباب على ثقافة الإنتاج والعمل.