“في الحرب، لا رابح” هذه هي الحقيقة الوحيدة المجردة مهما قالت كتب التاريخ ومهما ادّعى المنتصرون، في الحروب يخسر الجميع، تخسر كل الأطراف المتصارعة جنودًا وعتادًا وأموالاً، وتتدمر بلادهم وبناهم التحتية، ويخسر الجنود أرواحهم التي تتآكل بفعل المعارك ورؤية أشلاء الرفاق وموت الأصحاب والابتعاد عن الأهل والأحباب.
في نهاية الحرب عندما ينتصر طرف ما، وفي الوقت الذي تُقرع فيه الأجراس ويشرب القادة في قلاعهم الحصينة نخب الانتصار، ويرقص الناس فرحًا في الشوارع، يعود الجنود الذين حاربوا على أرض المعركة، إلى البيت مصابين ومهترئين ومهلهلين، يتألمون من فقد أطرافهم ومن ندبات بشعة أُورثوها وستظل تذكرهم بما مروا به هناك، ويعانون من كرب ما بعد الصدمة ومن كوابيس ستطاردهم إلى الأبد، ليرتعد الواحد منهم إذا ما طُرق باب بيته، ظنًا منه أنه بداية قصف.
دخان يتصاعد من خلف جسر البرج بعد إلقاء أول قنبلة نهارية في لندن
الحرب العالمية الثانية هي الحرب الأكثر كلفة في تاريخ البشرية، قُتِل فيها ما يزيد على 60 مليون شخص ما بين عسكري ومدني، حيث امتدت هذه الحرب الشمولية عبر 4 قارات لمدة 6 سنوات، وشاركت فيها قوات مسلحة من 70 دولة، 6 سنوات من الدمار والخراب والقتل والشقاء المتبادل، حتى انتهت أخيرًا باستسلام اليابان وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
تجاوز عدد ضحايا هذ الحرب الدولية المدمرة 62 مليون نسمة من العسكريين والمدنيين، أي ما يعادل 2% من سكّان العالم، بالإضافة إلى عشرات الملايين من الجرحى والمشوهين، كما شهدت هذه الفترة انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان، فمات الملايين من الأبرياء بسبب الغارات الجوية، وفي معسكرات الإبادة والتعذيب، زيادة على اعتقال الأطفال والنساء.
كما ارتُكبت المجازر الوحشية في حق العديد من الشعوب، واستُعملت الأسلحة الكيماوية والذرية، وكان الاتحاد السوفييتي وبولندا وألمانيا من أكثر البلدان الأوروبية التي عانت من ويلات تلك الحرب.
بعض القادة النازيين يتفقدون جنودهم خلال الحرب العالمية الثانية
ولأن ما حدث في هذه الحرب أبشع من قدرة العقل البشري على الاستيعاب، حازت هذه الحرب على اهتمام الكثير من الكُتاب والأدباء وصانعي الأفلام الذين تناولوها من وجهات نظر مختلفة، في محاولة لتخليد ما يعتقده البعض صوابًا، ومن أجل رصد التضحيات التي قام بها البعض في سبيل وطنه ومن أجل ما يؤمن به.
وبعيدًا عن أسباب الحرب وأفعال الأجهزة الاستخبارتية التي أججت نيرانها، وبعيدًا عن الفريق المنتصر والفريق المهزوم، تظل حقيقة أن “الكل” خاسر هي التي تحتل المشهد، ويظل للحرب وجوه متعددة غير المدونة في كتب التاريخ.
في هذا التقرير، نتناول معكم بعض هذه الوجوه المتعددة للحرب، بعيدًا عن أي أيدلوجيا مقنّعة، أو انحياز لأي فكرة غير فكرة الإنسانية الخالصة، في فيلمين سينمائيين رصدا حكايات شخصية ولقطات مروعة حقيقية لحرب “تنذكر ما تنعاد”.
“عازف البيانو”.. شاهد عيان
ملصق فيلم عازف البيانو
“أنا مجرد عازف بيانو”
فيلم The pianist، من إنتاج عام 2002، حاصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي، وثلاث جوائز أوسكار، وجائزتي من جوائز البافتا، من إخراج البولندي – الناجي من المحرقة النازية – رومان بولنسكي، ومأخوذ عن كتاب يحمل نفس الاسم، لعازف البيانو اليهودي البولندي فلاديسلاف شبيلمان، أحد الناجين من المحرقة بالقليل من المساعدة والكثير الكثير من الحظ.
المخرج رومان بولنسكي الذي نجا من المحرقة بعدما دفعه والده عبر الأسلاك الشائكة في مخيم الاعتقال، ليمضي وحيدًا خائفًا في شوارع كراكوف ووارسو، يتلقى الرعاية والعطف من الغرباء، قال إنه انتظر طويلاً حتى واتته الفرصة ليعبر عن هذه المعاناة التي عاشها وعايشها وفقد فيها أمه، وأنه عندما قرأ السيرة الذاتية لعازف البيانو البولندي فلاديسلاف شبيلمان، أدرك على الفور أنه وجد ضالته، فالكتاب يدور حول الحياة الغريبة التي عاشها شبيلمان متخفيًا وسط الأخطار خلال تلك السنوات المرعبة، وكيف ساعدته الصدفة أحيانًا والغرباء كثيرًا، على النجاة بحياته، دون أن يكون لهذه النجاة طعم الفرح، بعدما فقد أحبائه.
مشهد من فيلم “عازف البيانو”
يبدأ الفيلم كما الكتاب، بالعازف الشاب وهو يعزف في استوديو الإذاعة البولندية عام 1939، مقطوعة “ليلية” لشوبان، لكن القصف الألماني الذي يبدأ معلنًا عن بداية الحرب العالمية الثانية، يقطع عليه العزف ويضطره مع الجميع إلى الهرب نحو الملاجئ، بعد ذلك بست سنوات وحين ينهزم النازيون ويُحرر السوفييت بولندا، يكون أول ما يفعله شبيلمان – بعدما عاد للعزف – هو إكمال عزف مقطوعة شوبان، من حيث توقف بالضبط، وما بين عزف القسم الأول من “ليلية” شوبان، وعزف القسم الأخير منها، تدور أحداث الكتاب والفيلم.
بعد قصف مبنى الإذاعة البولندية، يعود شبيلمان إلى منزله ليجد أسرته المكونة من والديه وأختيه وأخيه، بدأوا في حزم أمتعتهم، استعدادًا للرحيل، لكن الراديو يذيع أن بريطانيا وفرنسا أعلنوا الحرب على ألمانيا، مما يمنحهم طمأنينة – زائفة – بأن الحرب ستنتهي قريبًا ولن يُضطروا إلى مغادرة الوطن.
الحرب لا تنتهي والاحتلال يرسم أصابعه الخمس فوق الجباه الضعيفة
لكن الحروب لا تنتهي بهذه السرعة كما تأمل الشعوب، بل تأخذ في السيطرة والتوغل، ويبدأ الاحتلال بإعلان نفسه دون استحياء، يُسيطر الألمان على وارسو ثم يبدأون في التضييق على اليهود، في البداية يطلبون منهم الاحتفاظ بمبلغ معين من المال، ثم يمنعون وجودهم في الأماكن العامة والمتنزهات، ثم يطالبونهم بوضع شارة تحمل النجمة السداسية وارتدائها في أثناء الخروج من المنزل ليسهل التعرف عليهم واضطهادهم.
الشارة التي تحمل النجمة السداسية التي كان يُجبر اليهود على ارتدائها للتعرف عليهم
لتجد أسرة شبيلمان نفسها – هي وما يقرب من ثلاثمئة ألف يهودي – مجبرة على الانتقال إلى الحي اليهودي المغلق “جيتو”، والذي يفصله جدار عازل عن باقي المدينة.
في “جيتو” كان اليهود يتساقطون يوميًا، من الجوع أو رميًا بالرصاص، لذا عندما أخبروهم أنه سيتم ترحيلهم إلى “تريبلينكا” ظنّوا لوهلة أن الوضع سيكون أحسن، دون أن يخطر ببالهم، أنهم يُساقون إلى الموت زُمرًا، حيث معسكر الإبادة الجماعية.
في أثناء شحنهم في القطار كالأغنام، قام ضابط يهودي بانتشال شبيلمان من بين الجموع وإزاحته بعيدًا، ليقف شبيلمان عاجزًا وهو يشاهد أسرته تُساق للذبح دون أن يتمكن حتى من وداعهم.
وهذا المشهد، هو ما عاشه المخرج رومان بولانسكي عندما دفعه والده بعيدا عبر الأسلاك الشائكة لمعسكر الاعتقال، لينجو الصغير، ويذهب أبواه إلى المحرقة.
الجانب الآخر من الجدار
يصبح شبيلمان عامل سخرة لدى الألمان، ورغم علمه بأن هناك انتفاضة ستشتعل في الحي اليهودي، إلا أنه يُقرر ألا يمضي ما تبقى من حياته بين هذه الجدران العازلة، فيساعده صديق له داخل الحي على الهرب، بعد تواصله مع صديقته غير اليهودية جانينا وزوجها أندريك اللذين أمّنا له مكانًا يختبئ فيه بالقرب من الحي اليهودي، ليقبع هذه مرة خلف الجانب الآخر من الجدار.
يشاهد شبيلمان انتفاضة اليهود من نافذته، يراها وهي تشتعل وتتوهج، ومن ثم تنطفئ، وعن طريق الرجل الذي كان يؤمن له الطعام، يعلم أن أندريك وجانينا أُلقي القبض عليهما وينصحه بترك المكان، يدبر هذا الرجل وزوجته دورتا مكانًا آخر لعازف البيانو، بالقرب من منشآت ألمانية، ويوشك على الموت جوعًا ويصاب بالتهاب المرارة والصفراء وينجو من الموت بأعجوبة ومصادفة جديدة.
الحرب للقادة، وللجنود رأيٌ آخر
الضابط الألماني يستمع إلى عزف شبيلمان في مخبأه
يعثر على شبيلمان أحد الضباط الألمان الذي يطلب منه أن يعزف له، عندما يعرف أنه عازف بيانو، يعزف شبيلمان للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، مقطوعة لـ”شوبان”، فيطرب لها الضابط الألماني ويساعده على الاختباء، رغم علمه بأنه يهودي، بل ويتكفل أيضًا بإطعامه، وقبل أن يرحل عن المدينة بسبب اقتراب الجيش السوفييتي، يخلع معطفه ويمنحه لشبيلمان كي يبقيه دافئًا حتى يصله الإنقاذ، ويسأله عن اسمه، ويخبره أنه سيتمع إلى عزفه لاحقًا عند إعادة بث الإذاعة البولندية.
وبالفعل تصل قوات الجيش السوفييتي، وعندما خرج إليهم شبيلمان كادوا أن يقتلوه، ظنًا منهم أنه ألماني بسبب المعطف الذي يرتديه.
لاحقًا، وبعدما تم القبض على الضابط الألماني هوسفيلند، ونقل إلى معسكر الاعتقال مع جنود آخرين، يلتقي بعازف كمان بولندي، فيسأله عن شبيلمان ويطلب منه أن يُخبر شبيلمان أن يأتي لإنقاذه، وعندما يذهب عازف البيانو ليرد له الجميل، يكتشف أنه تم نقله إلى مكان آخر ولا يعثر عليه.
ينتهي هذا الفيلم بمشهد كمشهد البداية، حيث يجلس شبيلمان أمام بيانو في الإذاعة البولندية، ليُكمل عزف مقطوعة “ليلية” لشوبان، من حيث توقف عند بدء الحرب قبل ست سنوات، ليؤرخ الحرب المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس، لكنها لم تستطع أن تقضي على ما في بعض النفوس من إنسانية.
“امرأة في برلين”.. ما نُجبر على فعله لننجو
ملصق فيلم امرأة في برلين
لا يعلم المرء ما الذي قد يضطر لفعله كي ينجو بحياته وحياة من يُحب، فإطلاق الأحكام، عادة بشرية قميئة، والكل شريف حتى تأتي العاهرة.
في هذا الفليم الذي تم إنتاجه عام 2008، والمأخوذ عن كتاب صدر للمرة الأولى تحت اسم مجهول عام 1959، يحكي يوميات امرأة ألمانية، وما لاقته هي وجاراتها في المبني الذي كانت تقطن فيه في برلين المحتلة، ثم صدر في عام 2003، وهو يحمل اسم كاتبته الصحفية الألمانية مارتا هيلرس، بعد وفاتها بعامين.
لنتعرف على الجانب الآخر من الحرب، فبعد انتصار السوفييت على ألمانيا النازية، وبعدما أصبحت ألمانيا تحت نير الاحتلال، بعدما كانت هي المحتل اللعين، بدأت عمليات الانتقام البشعة والاغتصاب الجماعي للنساء البرلينيات، بغض النظر عن السن والعجز.
الممثلة “نينا هوس” بطلة فيلم امرأة في برلين
ففي أبريل عام 1945 وبعد دخول الجنود السوفييت إلى برلين، تحصنت النساء والأطفال والشيوخ في المخابئ الآمنة، دون طعام، على أمل أن تنجلي هذه الغارة، ويغادر السوفييت مدينتهم.
ولأن السوفييت لم يغادروا، ولأن النساء في المخابئ لا يملكن إلا أجسادهن، بدأت عمليات بيع الجسد مقابل الطعام.
“كم مرة؟”.. الجسد مقابل الطعام
مشهد يجمع الألمانية الشقراء بالقائد الروسي
“هل ما أفعله شيئًا أخلاقيا؟”
“كم مرة؟” كان السؤال الأول الذي تبادر به امرأة ألمانية، امرأة أخرى في حال التقيتا في أي مكان، وكأنها التحية العامة في هذا الوقت، فالسؤال عن عدد مرات الاغتصاب التي تعرضن له على أيدي الجنود الروس، هو السؤال المحوري في حياة هؤلاء النسوة.
في البداية حاولت أنونيما الشقراء أن تحافظ على نفسها، لكنها فشلت، وفي لحظة من العجز الشديد وفي محاولة للسيطرة على مجريات أمورها، ولأنها تتحدث الروسية تجذب القائد الروسي إليها وتسأله “هل تستطيع أن تساعدنا؟”، فيمنحها وعده بأن يحميها هي ونساء أسرتها من اغتصاب الجنود، وتصبح الأمور – بشكل ما – تحت سيطرتها.
ترافق “أنونيما” القائد الروسي، من أجل إنقاذ نفسها وأسرتها من التضور جوعًا ومن حفلات الاغتصاب الجماعي، وفي المقابل، يتكفل القائد الروسي بحمايتها، حتى إن ذلك أوغر صدور الجنود، وتسبب في نشوب معارك في منزلها، وتسبب لاحقًا في توقيع الجزاء عليه.
مشهد من فيلم امرأة في برلين
وفي كل مرة كانت تفعل ذلك، كانت تسأل نفسها: هل ما أفعله شيئًا أخلاقيًا؟ ثم تعود وتطرد هذا السؤال من رأسها وهي تجيب نفسها” “هذا ما يوفر لي الحماية وإلا كيف كانت ستستمر حياتي وحياة نساء عائلي دون هذه المقايضة؟”.
تسلك نساء البناية، نفس مسلك أنونيما، ويبدأن في إقامة علاقات مع جنود بعينهم، كي يمنحنهن الحماية من اغتصاب جنود آخرين لهن، ويعكس الفيلم هذه العلاقة المعقدة جدًا والمثيرة للشفقة أحيانًا، والغثيان أحايين أخرى.
بعد عودة الرجال الألمان من الحرب، يصيبهم الاشمئزاز مما اقترفته نسائهم، ويرحل بعضهم وعلى وجهه علامات الخيبة والتقزز، دون أن يعترفوا، بأن ذهابهم إلى الحرب السبب الرئيسي لاقتراف هؤلاء النسوة لمثل هذا الفعل.