في مكان يلتقي فيه البحران، الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، بين القارة الأوروبية والإفريقية، على خليج مضيق جبل طارق، تقع مدينة طنجة المغربية، المدينة التي تفتح للزائر أبواب المغرب وتأسره باللون الأبيض الطاغي على معظم شوارعها وأحيائها القديمة، وبشواطئها ذات الرمال الذهبية وجبالها التي تلبس حلة خضراء مجسدة في غاباته الكثيفة، وبآثارها القديمة، وتسحره بشخصيتها وتاريخها وحاضرها.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي إلى عروس الشمال “طنجة المغربية” التي جمعت بين الأصالة والمعاصرة، التاريخ والفن، الجبل والبحر، في لوحة فسيفسائية قلّ نظيرها.
“طنجة يا طنجة عروسة الشمال”
“طنجة يا طنجة عروسة الشمال، طنجة يا طنجة عروسة الشمال يا أم الرجال يا عشق الأجيال، يا أندلسية، طلّي على أوروبا يا محبوبة، قولي أنا مغربية…” بهذه الكلمات تغنت الفنانة المغربية مريم بلمير بعروسة الشمال، طنجة، التي تربعت بثوبها الأبيض وجمالها وسحر جبالها الممزوج برمالها الذهبية وبحورها العريضة على عرش جمال مدن الشمال بالمملكة المغربية.
يعتبر شاطئ أشقار من أفضل شواطئ المدينة وإن صعب تفضيل أو تمييز واحد على آخر
مدينة تجذب السياح بسحرها وجمال طبيعتها، فجاذبيتها كما كانت عليه في الماضي لم تتغير ولم تنقص، فهي كالعصفورة الواقفة على كتف إفريقيا، فيها كل شيء يبتدئ من البحر ويعود إلى البحر، واجهتان بحريتان كافيتان لجعلها من المدن المفضلة للسيّاح من داخل المغرب وخارجه، البحر المتوسط والمحيط الأطلسي الذي يعانق الجبال المغطاة بأشجار القصب أو البلوط.
شاطئ أشقار
ويعتبر شاطئ أشقار من أفضل شواطئ المدينة وإن صعب تفضيل أو تمييز واحد على آخر، فهو مناسب جدًا لمحبي الرياضات المائية بكل أنواعها، وفيه أيضًا مغارة هرقل التي توجد على كاب سبارتل، قمة صخرية جبلية على الساحل، تعدّ المدخل الأساسي لجبل طارق ونقطة التقاء المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتعتبر مغارة هرقل أكبر مغارات إفريقيا في المنطقة، والتي تمتد على مسافة 30 كيلومترًا في باطن الأرض، وعبارة عن كهف عميق مظلم وله فتحة مضيئة تتّخذ شكل القارة الإفريقية.
هناك تعايش وانسجام بين معظم مساكن طنجة، بين المعمار العربي الإسلامي والفن المعماري الأندلسي والفن المعماري الكولونيالي الفرنسي والإسباني
إضافة إلى جمال بحرها، تسحرك بجمال أزقتها وشوارعها الضيقة الملتوية، التي طُليت معظمها باللونين الأخضر والبنفسجي، وساحاتها ومنازلها التي وضعت أمامها أوانٍ من الطين مزروعة بالزهر، وجدرانها التي علقت عليها أوانٍ مزركشة وملونة وزهور، ونوافذها المطلية بالزرقة والخضرة – لون البحر والطبيعة التي جُلب على حبهما الإنسان الطنجي -، وأبوابها المزخرفة، وسوقها الكبيرة التي تعتبر القلب النابض للمدينة وروحها، تجد فيها كلّ شيء من مقاهٍ ومطاعم شعبية ومتاجر ملابس تقليدية وحرفيين، وتهيمن عليها منارة جامع سيدي بوعابد، وهي منارة مبنية من الخزف المزخرف المتعدد الألوان.
شوارع المدينة
وإن كان فيما بين بعض مساكنها تباين من حيث الشكل والطراز المعماري المغربي الأصيل التقليدي، إلا أن هناك تعايش وانسجام بين معظمها، بين المعمار العربي الإسلامي والفن المعماري الأندلسي والفن المعماري الكولونيالي الفرنسي والإسباني.
عمارة شاهدة على حضارتها
رغم أنها تعرضت للتخريب من طرف البرتغاليين ثم الإنجليز من بعدهم وكل الغزاة الطامعين، فقد بقيت طنجة من المدن المغربية الغنية بالمآثر التي تحكي عن تاريخها العريق والحافل بالأمجاد.
وكتب في وصف أحوال المدينة واحد من أشهر الكتاب وأيضًا المقيمين فيها وهو بول باولز (مؤلف كتاب مظلة السماء) يقول: “إنني مقتنع الآن بأن طنجة هي مكان يوجد فيه الماضي والحاضر جنبًا إلى جنب في نفس الوقت بدرجة متساوية، حيث ما هو حاضر اليوم يكتسب قدرًا إضافيًا من عمق الواقع بوجود لمحة متساوية من أحداث الأمس”.
متحف القصبة
ففوق قمة الربوة الصخرية المطلة على الساحل تقف القصبة التي تحتوي على قصر واسع مشيد (تحوّل إلى متحف) وجامع مميّز ذي مئذنة مثمنة الأضلاع، تتيح لك إطلالةً رائعة على إسبانيا وجبل طارق، قصبة كانت تشكّل في وقت مضى نقطة مهمة للالتقاء وتبادل الثقافات، وتحتضن أهم متاحف المدينة “متحف القصبة” ويمكن الولوج إليها من السوق الصغيرة أو من برج البارود، وتعتبر من الأمور الإلزامية لكل سائح مُحب للسياحة، فهي من أهم ما تقدمه هذه المدينة لعدسات الكاميرا.
ومن مآثرها أيضًا، رأس المنار المشرف على مجمع البحرين وجبل الشرف المطل على المدينة وعلى البحر وضاحية مرشان المواجهة لبعض مدن الأندلس وجبالها، ورأس اسبارطيل المشرف على المحيط الأطلسي وفيه المنار البحري العظيم، والمدافع المنتصبة في بعض جهات المدينة التي لطالما قاتلت في الماضي وقصفت الغزاة.
مساجد وكنائس ومعابد
في طنجة توجد المساجد والكنائس، فمهما كانت ديانتك وجدت ضالتك، ففيها مساجد جامعة مركزية وكبيرة مثل جامع الجديدة (جامع عيساوة ويعرف أيضًا بمسجد النخيل) وجامع القصبة والجامع الكبير الذي تميز ببهائه وغنى زخارفه، حيث استعملت فيه كل فنون الزخرفة من فسيفساء وزليج وصباغة ونقش ونحت وكتابة على الخشب والجبس.
الجامع الكبير في المدينة
وفيها أيضًا كنيسة القديس أندرو المتواضعة، التي تعدّ واحدة من أكثر الكنائس تميّزًا حول العالم، فقد بُنيت على الطراز المعماري الإسلامي، كدليل على تمازج الحضارات والثقافات الفريد من نوعه في المدينة، وعلى انفتاح سكانها، وفيها كذلك معبد موشي ناحون الذي بني سنة 1860.
في كل حجرة من حجراتها وكل زاوية من زواياها يشهد الزائر تاريخًا مختلفًا لها، فمنذ تأسيسها رغبت بها شعوب عديدة، وحلمت بامتلاكها القوى العظمى المختلفة (القرطاجيون، الرومان، الفينيقيون، الونداليون، الإسبانيون، البرتغاليون، الإنجليز) وقد احتلت أكثر من مرة، ثم حُررت واستعيدت.
عادات ظلّت راسخة
في شوارع طنجة ترون النساء القرويات مرتديات “القفطان المغربي”، ذلك اللباس المزركش والمزين بالجواهر والتطريز الأنيق والمريح، وعلى رؤوسهن قبعات واسعة محاطة بالريش للزينة، تختلط قامتهن النشيطة بالبقع الملونة للفواكه والأواني الفخارية والنسيج.
في زيارتك لطنجة لا بد أن تأكل من الأكلة الشعبية التي يطلق عليها اسم “البوكاديوس”، التي عرفت لفترة طويلة على أنها طعام للفقراء، إلا أنها الآن أصبحت وجبة للجميع، وهي عبارة عن نصف رغيف خبز محشو بمصبرات السمك، بالإضافة إلى البصل والطماطم والبطاطس والبيض والفلفل الأخضر والباذنجان والأرز، ويمكن إضافة الفلفل الأحمر الحار لمن أراد، إنها أكلة سريعة الإعداد، لذيذة وشهية.
القفطان المغربي
يعرف عن سكان طنجة الذي يتحدّثون الإسبانية والفرنسية والعربية والأمازيغية ونادرًا الإنجليزية، إضافة للباس “القفطان” وأكلة البوكاديوس، ولعهم بالسهر والسمر الليلي، فمعظم سكانها يستيقظون في ساعات متأخرة خصوصًا أن معظم النشاط السكاني يركز على التجارة أو السياحة.
مدينة الابداع
طنجة، نجمة الأفلام السينمائية العديدة، ومدينة النجوم الكبار، التي اختارها كثير من الفنانين والأدباء والمفكرين وشركات الأفلام لتصوير أفلامهم أو استلهام قصص لمدوناتهم وكتبهم.
فعلى عتبة المدينة تمت دعوة الكاتب باولز من جانب فريق موسيقى الروك الغنائي الإنجليزي “ذي كلاش” لأن يكتب كلمات إحدى أغنياته، مما أسفر عن ظهور أغنية “املأ القصبة بموسيقى الروك”، ومن أبنائها الرحالة ابن بطوطة.
المدينة كانت في الماضي منطقة دولية بموجب اتفاق بين فرنسا وإسبانيا وبريطانيا يعود إلى عام 1925 تم توقيعه بعد فرض نظام الحماية على المغرب في 1912
فمنذ القدم كانت طنجة مكانًا للإبداع ومقصدًا للفنانين المبدعين الذين أقاموا فيها تاركين بصماتهم عليها، ومن بينهم جاك كيرواش وترومان كابوت وويليام بوروز وسوزان سونتاج ومحمد شكري صاحب رواية “الخبز الحافي” وهنري ماتيس صاحب “المرحلة الزرقاء” وسعدي يوسف صاحب “الأخضر بن يوسف”، خاصة أن المدينة كانت في الماضي منطقة دولية بموجب اتفاق بين فرنسا وإسبانيا وبريطانيا يعود إلى عام 1925 تم توقيعه بعد فرض نظام الحماية على المغرب في 1912، وكان يتم تسيير أمورها بواسطة هيئة تشريعية دولية تضم 18 نائبًا أجنبيًا وستة مغاربة مسلمين وثلاثة مغاربة يهود.