إن العالم أجمع وفي القلب منه المنطقة العربية يمرون اليوم في مرحلة تاريخية فريدة لا تتكرر في التاريخ كثيراً، إنه زلال استراتيجي لا يمكن أن تحسم فيه الأحداث بشكل سريع فحالت التحول التي تحدث اليوم في المنطقة تحتاج لوقت ليس بالقصير حتى تستقر وهي حالة من الصراع والتدافع بين جيل ولد وتربى في كنف الظلم والقهر والاستبداد حتى أصبح جزءً من حياته وفكره، وبين جيل تفتحت عيناه على هذا الظلم والقهر من انتفاضة الأقصى ثم حربي العراق وأفغانستان وبعدها حربي لبنان وغزة فإذا به يكره الظلم والقهر والاستبداد وحالة الاستعلاء الصهيوأمريكي.
إنها لحظة تاريخية فريدة بكل المقاييس تلك التي توفرت للأجيال الشابة يوم اجتمعت عوامل السياسية مع الاقتصاد والتكنولوجيا فإذا بالأزمة المالية تعصف بالغرب فتترنح أنظمة وتسقط أخرى، ومعها يتراجع الدور السياسي بوضوح للولايات المتحدة الأمريكية فيصفها السياسي الأمريكي المخضرم والي نصر ( بالأمة المستغنى عنها ) بعد أن قال عنها بيل كلينتون إبان الحرب الباردة بأنها ( الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها )، تراجعت أمريكا سياسياً في المنطقة العربية وتقدمت روسيا والصين، وسقطت أنظمة عربية كانت توالي الغرب وظهرت أنظمة تنحاز للشعوب.
إنها لحظة تاريخية فريدة نجحت فيها الثورة وبدأت تنتقل ولو ببطء نحو المسار الديمقراطي والتحول الصحيح في اليمن وتونس، فيما لا زالت تترنح في ليبيا وتنتظر في سوريا فرجاً قريباً بينما أُسقطت الثورة على أرض الكنانة مصر التي لا زال الشباب يكافحون فيها لاستعادة ثورة يقولون أنها سُرقت منهم على حين غفلة.
اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم قد لا نحصد نحن نتائجها ما دمنا نتحدث عن تغيير كامل لشكل المنطقة لكنني أعتقد أن جيلنا هو الذي سيحدد ملامح خارطة المنطقة وليست غرف المخابرات العالمية التي حصدنا نتائج رسمها لنا سيكسبيكو بداية القرن الماضي، تلك الخارطة التي مزقت الجسد العربي فتركت لنا في كل زاوية من المشرق العربي أزمة قزمت أحلامنا وأفكارنا فبات هم الأكراد الحصول على وطن يعيشون به يحافظون من خلاله على هويتهم الثقافية والعرقية حتى لو كان ذلك على حساب تقديم كل ثرواتهم على طبق من ذهب لأصحاب الشعر الأصفر، في وقت استغنى فيه السودان عن جنوبه الغني بالثروات، بينما يصارع الصومال لأجل البقاء، وغيرها من الأزمات إنه واقع عربي خلفته لنا قوى الاستعمار وما تلاها من أنظمة فاسدة مترهلة كل همها تقديم صكوك الطاعة والولاء للغرب تارة وللشرق تارة أخرى.
ولم تكن القضية الفلسطينية بعيدة عن هذه اللحظة المهمة من تاريخ المنطقة، فوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جون كيري يصارع من أجل ضمان دولة للكيان الصهيوني بأي شكل وعلى أي صورة لأنه يدرك أن أنظمة الولاء للغرب تعيش اليوم في حالة موت سريري وأن هذه هي اللحظة التاريخية الأخيرة التي يمكن أن ينتزع فيها دولة لليهود في ظل حالة الانشغال العربي بالقضايا الداخلية.
إن اللحظة التاريخية الأهم بالنسبة للشباب الفلسطيني اليوم هو الإبقاء على حالة اليقظة الكاملة وعدم السماح لخطة كيري بأن تمر مهما كانت الأسباب والدوافع والنتائج، لأن تصفية القضية في هذه المرحلة المهمة التي تتشكل فيها المنطقة وتعاد صياغتها يعني القضاء على أحلام الشباب العربي الذي رفع شعار ( الشعب يريد تحرير فلسطين ) منذ اللحظة الأولى لولادة الربيع العربي في تونس.
وإن على الشباب العربي أن لا يصاب باليأس أو القنوت من حالة التدافع التي نراها اليوم جراء الزلزال الاستراتيجي الذي ضرب المنطقة برمتها ولا يزال، وأن يتمسكوا بمبادئ الحرية والتخلص من أنظمة الظلم والاستبداد لا أن يسلموا لها، وأن يمنحوا هذا التحول الذي نراه اليوم الفرصة الكافية ليستقر لنحصد ثماراً يانعة طيبة، ثمار روتها دماء الشهداء وعذابات الجرحى والمعتقلين والمضطهدين من أنظمة تحكمت في رقابنا عقوداً من الزمن، لأننا أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تصبح منطقتنا شرقاً للدم والدموع وإما أن تصبح بصبرنا وثباتنا شرقاً للحرية والنور والقرار في ذلك بأيدينا.