شهدت العديد من مدن وبلدات محافظتَي إدلب وحلب شمال غربي سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة السورية، حركة نزوح جماعية غير مسبوقة خلال اليومَين الماضيَين، إثر هجمة عسكرية شرسة يشنّها النظام السوري منذ 6 أيام على المنطقة، والتي تركزت على الأحياء السكنية والبنى التحتية، أسفرت إلى اليوم عن مقتل وجرح عشرات المدنيين والكوادر الإنسانية، وخروج العديد من المرافق الحيوية كالمشافي والمدارس والجامعات عن الخدمة بشكل كامل، بعض تعرضها لقصف بكافة أنواع الأسلحة، بينها المحرّمة دوليًّا.
وصف ناشطون عاملون في إدلب، أن قصف قوات النظام السوري وميليشيات إيران على مركز مدينة إدلب وأريافها كافة وأجزاء من ريف حلب الغربي “ممنهج وغير مسبوق”، هدفه تدمير كل مقومات الحياة، ونشر الرعب والموت بين السكان، لا سيما أنه وسّع في هذه الحملة رقعة القصف، واستهدف مدنًا تقع في عمق المناطق المحررة وتشكّل ثقلًا اقتصاديًّا وملجأ آمنًا لآلاف النازحين كسرمدا والدانا بريف إدلب الشمالي، في خطوة أثارت ذعر السكان.
موجة نزوح غير مسبوقة
يقول محمد حلاج مدير منسقو استجابة سوريا لـ”نون بوست”، إن الشمال السوري شهد حركة نزوح هي الأكبر من نوعها منذ عدة سنوات، إذ تجاوز العدد الأولي لإحصاء النازحين من قبل الفرق الميدانية حتى الآن الـ 78 ألفًا و709 نازحين، من مدن وبلدات إدلب وجسر الشغور وبنش وأريحا وسرمين والنيرب ومعربليت ومحمبل والمسطومة والدانا وترمانين، ومدينة دارة عزة بريف حلب الغربي.
وأوضح أن وجهة النازحين الجدد توزّعت على عدة مراكز، حيث توجّه 2619 نازحًا إلى مراكز إيواء محدثة، و7 آلاف و194 نازحًا إلى مخيمات النازحين الأساسية بالقرب من الحدود السورية التركية، فيما توجّه 35 ألفًا و713 نازحًا إلى قرى وبلدات بريف إدلب تعتبر شبه آمنة، كما توجّه 6 آلاف 188 نازحًا إلى منطقتَي غصن الزيتون ودرع الفرات شمالي حلب، فيما توزع 26 ألفًا و995 نازحًا في محيط قراهم المستهدفة، لافتًا أن أعداد النازحين وفقًا لما وثقه فريق الاستجابة بحسب الفئة العمرية كان 18 ألفًا و891 رجلًا، و28 ألفًا و335 امرأة، و31 ألفًا و483 طفلًا.
لفت أيضًا خلال حديثه لـ”نون بوست” أن هذه الموجة غير المسبوقة جاءت بعد أن توسعت رقعة قصف النظام السوري للمنطقة، حيث استهدف خلال الأيام الخمسة الماضية أكثر من 61 مدينة وقرية بأكثر من 198 مرة، وجميعها بقذائف صاروخية ومدفعية بينها 6 مرات بأسلحة محرمة دوليًّا من أنواع مختلفة في أرياف إدلب وحلب، مشيرًا إلى أن الطائرات الحربية ساهمت أيضًا بأكثر من 35 غارة جوية حتى يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
أوضح حلاج كذلك أن هذه الهجمات أسفرت عن مقتل أكثر من 42 مدنيًّا بينهم 9 نساء و12 طفلًا، وإصابة أكثر من 214 مدنيًّا بينهم 66 طفلًا و37 امرأة، كما تم توثيق مقتل اثنين من كوادر العمل الإنساني وإصابة 4 آخرين نتيجة الاستهدافات.
أما على صعيد المنشآت والبنى التحتية، سجّلت فرق منسقو الاستجابة، وفقًا لما رواه حلاج لـ”نون بوست”، استهداف أكثر من 51 منشأة بشكل مباشر أو ضمن محيط المنشأة، من بينها أكثر من 11 مدرسة و7 مخيمات و15 منشأة طبية، إضافة إلى مراكز خدمية أخرى، والتي أسفرت عن توقف العملية التعليمية وحرمان أكثر من 400 ألف طالب من التعليم، وتوقف المشافي والنقاط الطبية عن العمل للحالات العامة، مسبّبة حرمان أكثر من مليوني مدني من الخدمات الطبية.
نحو المجهول
أكد الناشط الإعلامي إيهاب الخالد من مدينة دركوش غربي إدلب، في حديثه لـ”نون بوست”، أن مئات العوائل وصلت إلى المدينة خلال الأيام الثلاثة الماضية، قادمة من مدينتَي جسر الشغور وأريحا، إذ تم إيواؤهم في مراكز مؤقتة تم إنشاؤها مسبقًا في محيط المدينة، ومنهم من تم إيواؤهم في منازل المدينة ريثما تستقر أوضاعهم.
وأشار إلى أنه في اليوم الأول للنزوح المصادف ليوم السبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول باتت المدينة مكتظة بالنازحين، ومنهم من نام في العراء وداخل سياراتهم على الطريق المطلّ على نهر العاصي.
"هون ما بقا ينسكن"..
موجات نزوح جديدة من مناطق ريف #إدلب باتجاه المخيمات والمناطق الآمنة نسبياً بعيداً عن قصف النظام.#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/Oc0KBzXNxF— تلفزيون سوريا (@syr_television) October 6, 2023
وتوافق كلام الخالد مع مدير مكتب الأتارب الإعلامي علي عبيد، والذي أكد أن أكثر من نصف سكان مدن وبلدات الأتارب والأبزمو وكفرعمة وكفر تعال والقصر خرجوا من منازلهم منذ 3 أيام، باتجاه قرى وبلدات كفر ناصح والجينة وباتبو وبابكة غربي حلب، إثر حملة القصف العنيفة للنظام على المنطقة.
ولفت إلى أن معظم هؤلاء النازحين لم يتوجهوا إلى أي مراكز إيواء محدّثة أو قديمة، بل لا يزالون ينامون داخل سياراتهم وعند أقربائهم في تلك المناطق التي نزحوا إليها، مشيرًا أن القصف الذي استهدف المنطقة يعتبر الأعنف منذ سنوات عديدة، إذ بات يقصف المنطقة براجمات الصواريخ والقنابل الفسفورية المحرّمة دوليًّا، الأمر الذي زاد من حدة خوف هؤلاء السكان ودفعهم إلى النزوح خارج منازلهم، تاركين وراءهم أثاث منازلهم هربًا من الموت.
وعلى الحال ذاته، نزحت مئات العوائل من مدينتَي ترمانين ودارة عزة باتجاه قرى أكثر أمنًا، وفقًا للناشط الإعلامي في ترمانين عبد الحي عبد الحي لـ”نون بوست”، والذي أكد على أن أهالي مدينتَي ترمانين ودارة عزة لم يستطيعوا الخروج من منازلهم في اليوم الأول للتصعيد الذي صادف يوم الخميس الماضي، إذ كانت أشبه بحملة مفاجئة دفعت الأهالي للبقاء داخل منازلهم، ما تسبّب في استشهاد العديد منهم في اليوم الأول، الأمر الذي دفع الأهالي لإفراغ المدينتَين بشكل شبه كامل، وتوجههم إلى قرى وبلدات تابعة لمدينتَي عفرين وجنديرس.
وذكر عبد الحي أن معظم العائلات التي نزحت كانت تقصد بيوت أقربائها وأصدقائها، مشيرًا أن معظمهم لم يستطيعوا حمل أي من أغراضهم أثناء النزوح.
وعلى إثر ما رواه الناشطون الثلاثة، تحدثنا مع مستشار برنامج الحماية في مؤسسة إحسان، محمد غزال، والذي أشار إلى أن الحاجة الملحّة للإخلاء التي طالبت فيها العائلات الواقعة في المناطق الساخنة، دفعتهم في مؤسسة الإحسان إلى توفير خدمة المواصلات والتنقل، بعد انقطاع وسائل النقل العامة جراء اشتداد القصف، ولذلك قرروا العمل على فكرة الخط الساخن لإجلاء أهلنا إلى مناطق أقل قصفًا.
واستطرد غزال أن الفرق في المؤسسة أجلت عشرات العائلات من مدن أريحا ودارة عزة وجسر الشغور وترمانين والأتارب وإدلب المدينة، إلى مراكز إيواء ضمن مناطق سلقين وسرمدا ودركوش وحارم وأطمة، أو إلى أقارب لها في مناطق أخرى، كما تم تقديم جلسات إسعاف نفسية أولية للأطفال والنساء ضمن مراكز الإيواء.
ما دور حكومة الإنقاذ؟
خلال إعداد هذا التقرير، التقينا مع مدير مديرية العلاقات العامة في وزارة التنمية والشؤون الإنسانية في حكومة الإنقاذ فراس كردوش، والذي روى لـ”نون بوست” أن قصف النظام السوري للمناطق المحررة دفع المديرية لإعلان نفير جميع العاملين لديها، للاستجابة للأهالي والوقوف على احتياجاتهم جراء القصف الهمجي، إذ عملوا على إخلاء عدة مخيمات إلى أماكن آمنة، ونُقل عدد من الأهالي إلى كتل سكنية في كفر كرمين.
واسترسل قائلًا: “إن استمرار التصعيد دفعهم إلى إنشاء مراكز إيواء للنازحين، بلغ عددها 20 مركزًا موزعة على المناطق المحررة لاستقبال الأهالي، حيث استقبلت هذه المراكز أكثر من 1000 عائلة، أي ما يقارب 5 آلاف نسمة، وقُدّمت لهم المواد الأساسية من طعام وشراب وفرش”.
مدن خالية
قال عضو مجلس إدارة الخوذ البيضاء، أحمد يازجي، لـ”نون بوست” إنه إلى اليوم لا توجد إحصائية دقيقة بخصوص العائلات التي خرجت من منازلها في شمال غربي سوريا، لافتًا أن فرق الدفاع أجلت عشرات العائلات من أريحا ومدينة إدلب وجسر الشغور إلى مراكز الإيواء المؤقتة أو إلى مناطق شبه آمنة.
واسترسل قائلًا: “يمكن التأكيد على شيء واحد، وهو أن مدن جسر الشغور وسرمين وبداما وأريحا ودارة عزة وترمانين باتت خالية من سكانها خلال الأيام الأربعة الماضية، إذ هربوا جميعهم من القصف”.
ولفت إلى أن قصف النظام السوري يتركز منذ يوم الخميس الماضي المصادف لـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول على كل من مدن سرمين وأريحا وإدلب ودارة عزة والأتارب وترمانين، وبلدات وقرى النيرب وآفس والمسطومة ومعربليت ودير سنبل وسفوهن وسرجة ومجدليا وكفر تعال وكفرعمة والقصر والأبزمو وحزرة وسرمدا والدانا وكفر كرمين ومصيبين، بالإضافة إلى بعض القرى والبلدات الأخرى.
ومنذ صباح 5 أكتوبر/ تشرين الأول لم يهدأ القصف على المناطق المذكورة أعلاه، والذي جاء بالتزامن مع استهداف حفل تخرج ضباط من الكلية العسكرية في حمص وسط البلاد بهجوم لطائرات مسيَّرة، والذي أسفر وقتها عن مقتل 89 شخصًا منهم ضباط للنظام وإصابة 277 آخرين.
وتبرر مواقع وحسابات موالية للنظام السوري على منصات التواصل الاجتماعي، أن القصف المكثف والحملة العسكرية على إدلب وريف حلب يأتيان في إطار الانتقام وأخذ الثأر، في حين لم تتبنَّ فصائل المعارضة الاستهداف حتى ساعة إعداد التقرير.