ماذا لو اختفيت عن أمك وأبيك وأخيك وأختك الصغيرة لمدة اثنا عشر عامًا؟ لم تتواصل معهم سوى عن طريق كروت المعايدة في أوقات المناسبات؟ لم ترفع سماعة التليفون وتتصل بهم ولو مرة واحدة؟ ثم اكتشفت أنك مصاب بمرض عضال وأن موتك حتمي، وهنا قررت أن تعود لأسرتك لتخبرهم بأن أجلك حان، كيف تتخيل أن يكون اللقاء؟
القصة (بلا حرق للأحداث)
يحكي الفيلم قصة لويس الكاتب الشاب المسرحي المشهور الذي يعود بعد سنون كثيرة لعائلته حاملًا نبأ وفاته، يجد استقبالًا حارًا من أمه مارتين وأخته سوزان، بينما يجد أخوه الأكبر أنطوان باردًا أو بمعنى آخر غاضبًا، تعرّفه أمه على كاترين زوجة أنطوان، التي لم يقابلها قط، فلم يحضر لويس زفاف أخيه حتى.
أنطوان متنمر وحاد المزاج والطباع، يحرج زوجته أمام أخيه العائد، حينما تري كاترين لويس صور أطفالهما، يخبرها أنطوان أن لا أحد يهتم بأطفالها.
مارتين الأم مشغولة بإعداد الغداء، والأخت سوزان متشوقة أن تعرف أكثر عن أخيها الناجح، كاترين تخبر لويس عن قصة تسمية ولدها باسمه، لويس لا يعرف كيف يخبر عائلته بهذا الخبر في تلك الأجواء.
ما نلاحظه أن الأسرة صاخبة، الأم صوتها عالٍ دائمًا، أنطوان يشاكس الكل بالذات أخته الصغيرة سوزان وزوجته كاترين، الأم سلبية تجاه سلوك أنطوان ولا تحاول أن توقفه عند حده، لا أحد يستمع للآخر، الكل يحكي حكايات تافهة، كأن لويس لم يغب كل هذه السنوات
حينما تنفرد سوزان بلويس، تسأله عن سبب عودته، ولما لم يكلف نفسه حتى بأن يبعث رسائلاً بدلًا من كروت المعايدة التي يقرأها الكل بما فيهم رجل البريد، لا يجد لويس ردًا مناسبًا سوى الاعتذار.
حينما تأتي الفرصة ليخبر لويس أسرته بمعضلته في أثناء الغداء، يفسد أنطوان الأجواء بتنمره على أمه وأخته، هذا الهم الذي يحمله لويس يمنعه من التواصل مع أسرته، ويدفعه أكثر للشعور بالعزلة، يتضح لنا مع مرور الوقت أن هذه الأسرة الصاخبة والمشاكسة، لا يشعر لويس بأي انتماء لها، فما أسباب رحيل لويس عن عائلته طول كل هذه المدة؟ وهل سيستطيع إخبار أسرته بمرضه؟
“هناك أسباب كثيرة لا تخص أحدًا تدفع المرء للرحيل، دون النظر للوراء، نفس الأسباب قد ترغمك على العودة، لذا فبعد كل هذه السنوات قررت العودة، وإعادة رسم خطواتي، وأن أقوم بالرحلة، لأعلن وفاتي”. لويس بطل الفيلم
الفيلم ينتمي لنوعية أفلام الميلودراما ومقتبس عن مسرحية بنفس الاسم للكاتب الفرنسي المثلي جون لوك لجارس، مسرحيات لاجارس تعرضت للعديد من المواضيع أبرزها المثلية وقبول الآخر والعزلة، ونجاح مسرحياته جعله من أهم الكتاب المسرحيين في فرنسا، توفي لاجارس عام 1995 بسبب الإيدز قبل أن يناهز الأربعين.
الغريب أن أعماله لم تترجم للإنجليزية وذلك لأن اللغة وإيقاع الحوار في مسرحياته له خصوصية للمشاهد الفرنسي وقد لا يصل كل معانيه للمشاهد الأجنبي.
موضوع عودة الابن الضال جُسِد في العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية، أشهرها في السينما العربية فيلم يوسف شاهين عودة الابن الضال، من الأفلام الأمريكية المعاصرة التي قدمت نفس الموضوع فيلم أغسطس: مقاطعة أوساج من بطولة ميريل ستريب وجوليا روبرتس وكلتاهن رشحت للأوسكار عن دورها في الفيلم.
الفارق بين فيلمنا والأفلام الأخرى التي تناولت الموضوع، أن الشخصيات هنا لا تعبر عما بداخلها ولا تواجه بعضها، على العكس تفتعل حوارات كوسيلة للف والدوران حول الموضوع، في حياتنا نفعل ذلك، لا نحب المصارحة والمواجهة ودائمًا ما نستخدم اللف والدوران لتجنب ذلك.
المشكلة أن ما ينفع في الحياة العادية قد لا يجدي في الدراما السينمائية، هنا تكمن المجازفة التي أخذها على عاتقه زافيير دولان.
المخرج الكندي زافيير دولان في فيلمه السادس جازف بكتابته نص معتمد بشكل أساسي على الحوار وأحداثه كلها تقع في مكان واحد.
المفارقة هنا رغم أن الحوار هنا قد يبدو عبثيًا، فإن الممثلين وشخصياتهم استطاعوا إشعارنا بالغليان والغضب خلف كلامهم المنمق، الأداء والتجسيد كان عنصرًا مهمًا في منع الملل من التسلل لدى المشاهد.
التمثيل
التجسيد هو أقوى عناصر الفيلم بالذات وهو من أقوى عناصر أفلام دولان بشكل عام، الفيلم بطولة نجوم السينما الفرنسية المعاصرة، فقد قام جاسبارد يوليل بدور لويس، وفينسنت كاسل بدور أنطوان، وماريون كوتيارد بدور كاترين، ليا سيدو بدور سوزان وأخيرًا ناتالي باي بدور الأم مارتين.
جاسبار الذي اشتهر بدوره في أفلام خطبة طويلة جدًا وأدائه شخصية هانيبال ليكتر في تمرد هانيبال، استطاع نقل حالة الإحباط والرهبة التي يشعرها لويس وسط عائلته الغاضبة من غيابه طول هذه الفترة، والتي لا تريد أن تعطيه الفرصة كي يعبر عما بداخله من نار.
الجدير بالذكر أن جاسبار فاز بجائزة السيزار كأفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم هذا العام.
كاسل جسد الغضب والإهانة التي يشعر بها أنطوان تجاه أخيه جراء غيابه الطويل وعودته المفاجئة وجسد محاولات أنطوان المستميتة في حماية عائلته من الخبر الذي يريد نقله لويس لهم، أداء كاسل كان قويًا، الغضب هو أحد مناطق قوة كاسل كممثل، أظهر هذا في أفلامه السابقة الكراهية ولا رجعة فيه، ظهر كاسل أيضًا في سلسلة أفلام أوشن وفي فيلم انحراف.
ماريون كوتيارد ظهرت بدور ثانوي وبشخصية تختلف عن شخصياتها السابقة، دائمًا ما تجسد ماريون شخصيات قوية، مسيطرة على قدرها، هنا تلعب ماريون شخصية زوجة مستسلمة لغطرسة زوجها وغير قادرة على التعبير عن نفسها
ماريون كوتيارد ظهرت بدور ثانوي وبشخصية تختلف عن شخصياتها السابقة، دائمًا ما تجسد ماريون شخصيات قوية، مسيطرة على قدرها، هنا تلعب ماريون شخصية زوجة مستسلمة لغطرسة زوجها وغير قادرة على التعبير عن نفسها، رغم ذلك شخصية كاترين هي الأقرب وجدانيًا للويس والوحيدة التي تعرف سبب مجيئه.
ماريون كوتيارد فازت بالأوسكار عن أدائها دور إديث بياف في فيلم الحياة الوردية وظهرت منذ ذلك الحين في العديد من الأفلام الأمريكية أشهرها الجزء الثالث من أفلام باتمان للمخرج كريستوفر نولان صعود الفارس المظلم، ومؤخرًا شاركت الممثل الأمريكي براد بيت البطولة في فيلم تحالف.
ناتالي باي قدمت أداءً متميزًا لدور الأم المحبة محطمة القلب التي تحاول اصطناع البهجة والعفو عن ابنها الغائب، إلا أنها لا تستطيع أن تفهم أبناءها، باي ممثلة فرنسية مخضرمة وعملت مع دولان من قبل في فيلمه لورانس أيًا كان.
ليا سيدو جسدت شابة سئمت من أمها وأخيها وبانتظار أي فرصة للخروج والهروب من حياتها الكئيبة، لذلك تجد في أخيها فرصة للهرب، ليا فازت بالسعفة عن دورها في فيلم الأزرق هو أسخن الألوان وظهرت في عدد من الأفلام الأمريكية أشهرها أوغاد مجهولون وفيلم جيمس بوند الأخير الطيف.
الإخراج والتصوير
حاول دولان الخروج من الشكل المسرحي للنص باستخدامه اللقطات القريبة جدًا لكل شخصيات الفيلم، النتيجة أن المشاهد يشاهد تفاصيل كل شخصية وهي تتحدث مع الأخرى ويستطيع المشاهد التقاط إذا ما كانت الشخصية تكذب أم تصدق القول.
الجانب السلبي أن الاعتماد على اللقطات القريبة ألغى البيئة المحيطة بحيث لا يستطيع المشاهد فهم جغرافيا المكان والمنزل في بعض الأحيان، إضافةً إلى ذلك إيقاع الحوار السريع يجعل المشاهدة متعبة بحيث تلهث من أجل فهم ما يحدث
صور مدير التصوير أندريه توربان في تعاونه الثالث مع دولان الفيلم على الشريط السيليولويد الخام، واعتمد في أغلب المشاهد على الإضاءة الناعمة والباردة ما عدا المواجهة المتفجرة الختامية بين لويس وعائلته، حيث اعتمد توربان على الإضاءة البرتقالية الدافئة.
رغم أن جنسية الفيلم كندية، فإنه ناطقًا بالفرنسية وليس بالفرنسية الكوبيكية مثل أفلام دولان السابقة، عرض الفيلم في مهرجان كان العام الماضي، وكانت التوقعات للفيلم تصل سقف السماء، نظرًا للنجاح الكبير الذي حققه دولان في فيلمه السابق مامي الذي عرض في 2014 في كان أيضًا.
قسم الفيلم النقاد، أغلب النقاد الإنجليز والأمركيين أحبطوا من الفيلم بينما النقاد الفرنسيين كانوا من أشد أنصاره، فاز الفيلم بالجائزة الكبرى في المهرجان وسط اعتراض النقاد، ورشحته كندا لجائزة الأوسكار هذا العام ونجح في الوصول للقائمة القصيرة، إلا أنه لم يصل للقائمة النهائية للترشيحات.
فاز بثلاث جوائز سيزار هما أفضل إخراج ومونتاج لدولان وأفضل ممثل لجاسبار يوليل، فاز أيضًا بجوائز أفضل فيلم وإخراج وتصوير وسيناريو مقتبس وأحسن ممثل مساعد وأحسن مكياج في جوائز الشاشة الكندية (المعادل للأوسكار الأمريكية).
التقييم: ( ) فيلم عبقرى ( ) جيد جدًا ( X ) يستحق المشاهدة ( ) ممل ( ) بشع
– رابط الفيلم على موقع ويكيبيديا.