ترجمة حفصة جودة
تدخل الحرب السورية المروعة الآن عامها السابع كما هو معروف، أما ما ليس معروفًا فهو أن سوريا أصبحت أخطر مكان في العالم لتصبح طبيبًا فيه، وفقًا لتقرير لجنة لانسيت في سوريا فقد رأينا أن هذه الاستراتيجية لجرائم الحرب المروعة أدت إلى خسارة عدد كبير من العاملين في الطاقم الطبي السوري، فقد قامت الحكومة السورية المدعومة من روسيا وحلفاؤها بقتل ما لا يقل عن 723 من العاملين في مجال الصحة، كما هاجمت مئات المستشفيات، هذا الأمر لم يحدث من قبيل الصدفة.
تسليح الرعاية الصحية – باستخدام حاجة الناس للرعاية الصحية كسلاح ضدهم – هو جوهر استراتيجية الحكومة لجرائم الحرب التي ترتكبها ضد الأشخاص الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
بدأت الحكومة السورية في تنفيذ تلك الاستراتيجية منذ بدء الثورة وقبل أن تتحول إلى حرب أهلية صريحة في يوليو 2012، قُتل أول طبيب سوري – دكتور علي – في 23 من مارس 2011 في الأسبوع الثاني للثورة، وحتى قبل ظهور مصطلح الربيع العربي، قُتل أيضًا سامي سائق سيارة الإسعاف، وهذه قصتهم.
د. علي المحاميد
أول مستشفى ميداني للحرب
في مساء 22 من مارس 2011، تجمع نحو 200 شخص مدني للاعتصام في المسجد العمري – وهو أثر تاريخي يرجع عمره لأكثر من 1300 عام وكنز وطني ومكان جاذب للسياح – لم يكونوا مسلحين أبدًا، كانوا يحملون فقط لافتات وأغصان زيتون احتجاجًا على قمع وعنف ديكتاتورية الأسد، أصبح المسجد أول مستشفى ميداني أُنشئ لعلاج المتظاهرين الذين أطلقت عليهم الحكومة النار في الأسبوع الأول للثورة وبعد أن منعت استقبالهم في المستشفيات العامة.
بعد منتصف الليل بقليل، حاصر جنود الجيش السوري المسجد، استخدموا أولاً الغاز المسيل للدموع لخلق حالة من الارتباك ونشر الضباب لتشويش الرؤية، ثم ألقوا القنابل اليدوية وفتحوا النار على المتظاهرين في فناء المسجد، لقى ما لا يقل عن 80 شخصًا مصرعهم في الحال، واستطاع عدد قليل منهم الفرار للأزقة القديمة بمساعدة من هم خارج المسجد، وأصيب 6 منهم بجروح مميتة، والبقية تم اعتقالهم، أما الأشخاص داخل غرف الصلاة – 25 مريضًا على الأقل و50 شخصًا من العاملين في المجال الطبي وبعض المتطوعين – فلم يستطيعوا القيام بأي شيء.
الإطارات المشتعلة في أثناء الاشتباكات المعادية للحكومة في درعا
انطلقت الأصوات من مكبرات الصوت في المسجد تطلب المساعدة، سمعت العديد من المساجد الرسالة ومررتها، ومع انتشارها تلقى مدير مستشفى درعا الوطني – التي تبعد ميلاً واحدًا عن المسجد – أمرًا مباشرًا من الحكومة السورية بعدم الرد، وألا تغادر سيارات الإسعاف المستشفى تحت أي ظرف من الظروف.
صرخة المساعدة
كان الدكتور علي المحاميد في منزله عندما سمع نداءات المساعدة، فقام مسرعًا إلى المستشفى وخالف أوامر الحكومة، واستخدم سيارة إسعاف مع السائق سامي زريقات والممرض أبو عمر الصياصنة، بعد مغادرتهم بوقت قصير تواصل أحد المخبرين في المستشفى مع قوات الأمن وأخبرهم بأن الإسعاف في طريقها للمسجد، عند وصولهم إلى المسجد لم يتمكنوا إلا من إنقاذ طاهر مسلم – طالب 23 عامًا – والذي أصيب في صدره فوق القلب مباشرة، في طريق عودتهم إلى المستشفى، كان الجنود في انتظارهم وقاموا بفتح النيران على السيارة مما أدى إلى مقتل السائق على الفور وإصابة الدكتور علي في رأسه.
بعد أن تحطمت سيارة الإسعاف، تم إطلاق النار بشكل عشوائي ثم انفتحت الأبواب الخلفية للسيارة وقام ضابط إيراني يعمل مع القوات السورية بإطلاق النار بشكل مباشر على الأشخاص داخل السيارة.
نقل رجل مصاب إلى مستشفى درعا يوم 23 من مارس 2011
يقول طاهر مسلم – الناجي الوحيد المعروف من الحادثة -: “لقد كنا في سيارة الإسعاف وكنت متعبًا جدا لكنني كنت مستيقظًا، أخبرني الطبيب والذي كان يجلس بجواري ممسكًا يدي أننا اقتربنا من المستشفى، حينها بدأ إطلاق النار على السيارة، لقد تعرضت لإطلاق النار على ذراعي وساقي أما الطبيب فقد اخترقت الرصاصة رأسه وسقط عليّ، كنت أشعر بأنفاسه، أما السائق فقد قتل على الفور لكن الطريق كان منحدرًا فاستمرت السيارة في الحركة حتى اصطدمت بالجسر، بعد أن توقفت السيارة أطلقوا النار مرة أخرى فأصبت في ذراعي الثانية، بعد ذلك انفتحت الأبواب الخلفية وقام ضابط بإطلاق النار علينا ثم أغلق الأبواب مرة أخرى، أصُبت برصاصتين ثانتين في ساقي اليمنى وأصيب الطبيب مرة أخرى، بعدها شعرت بأن أنفاسه توقفت ثم غبت عن الوعي”.
العلاج لا يمكن التسامح معه
كان من الممكن أن يعتقلوا الفريق الطبي وسجنه وحتى تعذيبه، لكنهم بدلاً من ذلك قتلوه دون وجه حق، مرسلين بذلك رسالة واضحة إلى جميع العاملين في مجال الرعاية الصحية بدرعا، أن تقديم العلاج لأي مدني حاولت الحكومة قتله في أي مظاهرة احتجاجية لن يتم التسامح معه، كما أن المدنيين الناجين من الإصابات الأولية مثل طاهر سيتعرضون لنفس المعاملة، يقول طاهر: “في المسجد أصبت برصاصة واحدة في صدري، وعندما وصلت للمستشفى أصبت بخمس رصاصات واحدة في ظهري واثنين في ذراعيّ واثنين في قدمي اليمنى”.
في الوقت نفسه حاول الدكتور تيسير جراح بالمستشفى الذهاب بسيارة إسعاف أخرى إلى المسجد، لكن قوات الأمن بنت حاجزًا أمام المستشفى وهددته بالقتل هو وطاقمه إذا أصرّ على الذهاب، خلال ساعات ومع حلول الظلام أزيلت عشرات الجثث من المسجد واختفت سيارة الإسعاف المدمرة من الرصاص، واستخدمت خراطيم المياه الخاصة بالحرائق لإزالة الدماء من المسجد.
نُشرت القصة كما لو أن 6 أشخاص فقط قد قتلوا، هؤلاء الستة خرجوا قبل سيطرة قوات الأمن على المسجد وتم نقلهم إلى المستشفى الوطني وأًعلنت وفاتهم بمجرد وصولهم، وبذلك تم إخفاء القصة الحقيقية.
صديقان مصابان، محمد من حلب وأحمد من إدلب، يسيران في مخيم كيليس للاجئين جنوب وسط تركيا
لماذا يقوم الأسد بذلك؟
هذا القتل المستهدف للعاملين في المجال الطبي ما زال مستمرًا حتى الآن، ففي 19 من مارس في ضاحية جوبر خارج دمشق استهدفت غارة جوية مركز إسعاف وقتلت ممرضة واثنين من المساعدين الطبيين وسائقيّ إسعاف، قُتل طبيب آخر – علي درويش – يوم 25 من مارس، مختنقًا حتى الموت بعد هجوم الأسد الكيماوي على مستشفى في حماة في أثناء إجرائه عملية جراحية لأحد المرضى، رفض الطبيب التوقف عن العملية حتى ينقذ حياة المريض لكنه في هذه الأثناء استنشق جرعة كلور قاتلة.
على الصعيد العالمي، هناك 5 ملايين لاجئ سوري، ينتشر شلل الأطفال والميكروبات التي تسببه وبعض الأمراض المميتة في المناطق التي تفتقر إلى الرعاية الصحية وإمكانية السفر سريعًا، إنهم لا يحترمون الحدود وهذا يعني أن استراتيجية الأسد لجرائم الحرب قد تؤثر علينا جميعًا.
نحن جميعًا نحتاج إلى الرعاية الصحية لأطفالنا ولأنفسنا ولآبائنا، سواء التطعيمات أو رعاية ما قبل الولادة أو العلاج الكيميائي أو إجراء عمليات، لن يبقى أحد بعد ذلك في الأماكن التي تسيطر عليها المعارضة حيث لا يوجد طبيب ولا مستشفى ولا رعاية صحية، وعلى السوريين أن يقبلوا بالديكتاتورية ويخضعوا لها أو يغادروا البلاد، هذا هو السبب فيما يفعله الأسد.
المصدر: ميدل إيست آي