ترجمة حفصة جودة
إن التعاطف الحاليّ مع “إسرائيل” يجب أن يشعر من كان له قلب بالغثيان، هذا لا يعني أن ما يحدث للمدنيين الإسرائيليين من موت ومعاناة ليس أمرًا مروعًا، لكن لأن المدنيين في غزة يواجهون اعتداءات إسرائيلية متكررة منذ عقود سببت لهم معاناة دائمة، لكن ذلك لم يجذب ولو جزء ضئيل من اهتمام السياسيين والعامة في الغرب كاهتمامهم حاليًّا.
فنفاق الغرب تجاه المقاتلين الفلسطينيين الذين قتلوا وأصابوا مئات الإسرائيليين واحتجزوا رهائن في غزة المحاصرة أمر صارخ.
هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها الفلسطينيون في القطاع الساحلي المحاصر من توجيه ضربة قوية لـ”إسرائيل” مقارنةً بالوحشية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة بشكل متكرر منذ حصارهم قبل 15 عامًا، عندما فرضت “إسرائيل” حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا عام 2007.
تصف وسائل الإعلام ذلك الهروب من سجن غزة بأنه “غير مسبوق”، وأنه أكبر فشل استخباراتي لـ”إسرائيل” منذ حرب يوم الغفران “6 أكتوبر/تشرين الأول” قبل 50 عامًا تمامًا.
اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حماس – التي تدير ذلك السجن المفتوح “غزة” – ببدء حرب وحشية وقاسية، لكن الحقيقة أن الفلسطينيين لم يبدأوا شيئًا، لقد تمكنوا فقط بعد معاناة كبيرة من العثور على طريقة لإيذاء المعتدين عليهم.
يعلم الفلسطينيون بلا شك أن الثمن سيكون باهظًا كما قال نتنياهو خاصة على المدنيين، فـ”إسرائيل” ستوقع أشد العقوبات على الأسرى بسبب ذلك.
لقد دمرت “إسرائيل” مساحةً شاسعةً من القطاع وتفاخر جنرالاتها بأنهم أعادوا غزة للعصر الحجري، كل ذلك باستخدام إستراتيجية أطلقوا عليها “إستراتيجية الضاحية”
انظروا إلى التعاطف الغربي الضئيل مع الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الذين تقتلهم “إسرائيل” مرة أخرى، هذه المعاناة الهائلة ستُبرر بمصطلح “الانتقام الإسرائيلي”.
الدروس الحقيقية
تركز كل التحليلات الحاليّة على التخبط الاستخباراتي الإسرائيلي، وتصرف انتباهها عن الدروس الحقيقية لتلك الأحداث المتصاعدة، لم يهتم أحد حقًا بالحصار الإسرائيلي الذي يتعرض له الفلسطينيون في عزة وحرمانهم من أساسيات الحياة.
وبعض عشرات الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس، مجرد رقم ضئيل مقارنةً بمليوني فلسطيني تحتجزهم “إسرائيل” في ذلك السجن المفتوح لأكثر من عقدين.
لم يهتم أحد عندما اتضح أن الفلسطينيين في غزة يخضعون لنظام غذائي تجويعي بتحديد “إسرائيل” الأغذية المسموح بدخولها وكميتها، حيث قامت بحسابها بحيث يدخل للفرد ما يكفي بالكاد لإطعامه.
لم يهتم أحد حقًا عندما كانت “إسرائيل” تقصف القطاع كل عدة أعوام وتقتل مئات المدنيين الفلسطينيين في كل مرة، كانت “إسرائيل” تطلق ببساطة على تلك العمليات “جزّ العشب”، لقد دمرت “إسرائيل” مساحة شاسعة من القطاع وتفاخر جنرالاتها بأنهم أعادوا غزة للعصر الحجري، كل ذلك باستخدام إستراتيجية أطلقوا عليها “إستراتيجية الضاحية”.
لم يهتم أحد عندما استهدف القناصة الإسرائيليون الممرضات والمراهقين والمقعدين الذين خرجوا للتظاهر ضد حصار “إسرائيل” لهم، وقد فقد الآلاف أطرافهم بعد أن تلقى القناصة أوامر بإطلاق الرصاص على أقدام المتظاهرين عمدًا.
هذا القلق الغربي بسبب قتل الإسرائيليين على يد المقاتلين الفلسطينيين أمر مثير للغثيان، ألم يُقتل مئات الأطفال الفلسطينيين في الغارات الإسرائيلية على غزة خلال الـ15 عامًا الماضية؟ أليست أرواحهم مهمة بقدر أهمية أرواح الإسرائيليين؟ وإن لم تكن مهمة فلماذا؟
يبدو أن كل أشكال الإرهاب لا تتساوى في عين زيلينسكي ورعاته في العواصم الغربية، وأن الإرهاب الإسرائيلي ليس هو السبب في مأساة الفلسطينيين منذ عقود
بعد هذه الفترة الطويلة من اللامبالاة، من الصعب أن نسمع صدمة الحكومات الغربية ووسائل الإعلام لأن الفلسطينيين تمكنوا أخيرًا من العثور على طريقة تعكس وحشية “إسرائيل” وسياستها المستمرة منذ عقود وترد عليها بفاعلية.
هذه اللحظة تنزع القناع عن العنصرية المقيتة التي تتنكر في رداء القلق الأخلاقي بالعواصم الغربية.
النفاق في أبرز صوره
من أبرز المنافقين، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي كتب تغريدة طويلة يدين فيها الفلسطينيين ويصفهم بالإرهابيين ويقدم دعمه غير المشروط لـ”إسرائيل”، ويعلن أن حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها غير خاضع للنقاش.
وقد أضاف “يجب أن يتحد العالم ويتضامن حتى لا يتمكن الإرهابيون من إخضاع الحياة وكسرها في أي وقت وأي مكان”.
إن قلب الحقائق يثير ضيقًا في النفس، فالفلسطينيون لا يستطيعون إخضاع الحياة في “إسرائيل”، إنهم لا يملكون مثل هذه القوة حتى لو تمكنوا لفترة قصيرة من كسر الحصار، لكن “إسرائيل” تُخضع حياة الفلسطينيين منذ عقود.
يبدو أن كل أشكال الإرهاب لا تتساوى في عين زيلينسكي ورعاته في العواصم الغربية، وأن الإرهاب الإسرائيلي ليس هو السبب في مأساة الفلسطينيين منذ عقود.
كيف تمتلك “إسرائيل” حقًا مطلقًا للدفاع عن نفسها ضد الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم وتسيطر عليهم؟ لماذا لا تمتلك روسيا إذًا نفس الحق في الدفاع عن نفسها عندما تضرب المدن الأوكرانية انتقامًا من الضربات التي تطلقها أوكرانيا لتحرير أراضيها من الاحتلال الروسي؟
إن “إسرائيل” – الطرف الأقوى والأشد قتالًا – تشن الحرب على غزة انتقامًا من الهجمات الفلسطينية الأخيرة، لذا فعلى أي أساس سيدين زيلينسكي ومسؤولوه موسكو عندما تطلق صواريخها انتقامًا من الضربات الأوكرانية على الأراضي الروسية؟
إذا كانت المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال إرهابية، كما يؤكد زيلينسكي، فلماذا لا تُعد المقاومة الأوكرانية ضد الاحتلال الروسي إرهابًا كذلك؟
لا مكان للاختباء
إن مسايرة “إسرائيل” في تصوراتها سمح لها بارتكاب المزيد من الأعمال المشينة، فقد أمر نتياهو الفلسطينيين في غزة بالرحيل فورًا لأن القوات الإسرائيلية تستعد للعمل بكل قوتها، لكن نتيناهو يعلم – وكذلك الغرب – أن سكان غزة لا يملكون مكانًا يهربون إليه، لا مكان للاختباء، فهم مسجونون في غزة منذ الحصار الإسرائيلي البري والبحري والجوي.
الوحيدون الذين تمكنوا من مغادرة غزة هم المسلحون الذين تمكنوا من كسر الحصار الإسرائيلي، فوصفهم الغرب بالإرهابيين.
لقد أُصيبت الحكومات الغربية بالرعب بسبب هجوم الفلسطينيين على “إسرائيل”، لكنها كانت صامتة إزاء قطع “إسرائيل” الكهرباء على سجن غزة.
هذا العقاب الجماعي لمليوني مواطن في غزة يعتمدون على “إسرائيل” في الكهرباء لأنها تتحكم في كل مظاهر الحياة في القطاع، يعد جريمة حرب.
لا يمكن القضاء على رغبة الفلسطينيين في الحرية الكرامة، فسيظهر شكل جديد من أشكال المقاومة لا شك وسيكون أكثر قوة
من الغريب أن تتفهم الحكومات الغربية أن قصف روسيا لمحطات الطاقة في أوكرانيا جريمة حرب، وتطالب بمحاكمة بوتين أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فلماذا من الصعب عليهم تفهم أوجه الشبه مع ما تفعله “إسرائيل” في غزة؟
هروب جريء
هناك درسان متناقضان يجب أن نتعلمهما مما حدث، أولًا؛ لا يمكن حبس أرواح إنسانية إلى أجل غير مسمى، لقد ابتكر الفلسطينيون في غزة باستمرار وسائل جديدة لكسر أغلالهم، فقد بنوا شبكة من الأنفاق، لكن “إسرائيل” دمرت معظمها، وأطلقوا صورايخ دون كلل، لكن الأنظمة المتطورة أسقطتها.
ثم خرجوا في مظاهرات جماعية عند السور المشدد الذي تحرسه أبراج عسكرية وتحاصرهم به “إسرائيل” ليطلق القناصة النيران عليهم.
والآن نفذوا عملية هروب جريئة، لكن “إسرائيل” تقصف القطاع بشدة، لا يمكن القضاء على رغبة الفلسطينيين في الحرية الكرامة، فسيظهر شكل جديد من أشكال المقاومة لا شك وسيكون أكثر قوة.
وسيكون المسؤول عن ذلك “إسرائيل” والغرب الذي يدعمها بكل خنوع، لأن “إسرائيل” ترفض التوقف عن وحشيتها ضد الفلسطينيين الذين تجبرهم على العيش تحت حكمها.
الدرس الثاني، هو أن “إسرائيل” المدللة من الغرب ليست مستعدة بعد لاستيعاب تلك الحقيقة، ربما يكون خطاب حكومتها الفاشية المتعصبة قبيحًا، لكن هناك إجماعًا واسعًا بين مختلف القطاعات السياسية الإسرائيلية على ضرورة استمرار قمع الفلسطينيين.
لهذا السبب لن تتردد المعارضة في دعم الحصار العسكري لغزة وقتل المزيد من المدنيين في غزة ليتعلموا الدرس، هذا الدرس هو قبول الفلسطينيين بالسجن والخنوع الدائميّن.
فبالفعل تتناقش المعارضة الإسرائيلية – يائير لابيد وبيني غانتس – مع نتنياهو للانضمام إلى حكومة وحدة طارئة، هذا الأمر الطارئ هو مطالبة الفلسطينيين بحقهم في العيش أحرارًا في وطنهم.
يمكن للإسرائيليين والغرب أن يواصلوا ألعابهم الذهنية لتبرير قمع الفلسطينيين ورفض حقهم في المقاومة، لكن هذا النفاق وخداع النفس أصبح مكشوفًا وسيراه العالم أجمع.
المصدر: ميدل إيست آي