سافر العامل النيبالي ممتاز منصور إلى السعودية في سبتمبر/ أيلول 2021 والحماسة تغمره لبدء العمل في أمازون، إحدى أكبر الشركات في العالم، وقبل سفره هذا كان قد وُعد بالحصول على وظيفة جيدة الأجر، تمكّنه من تدبير أموال لمساعدة أسرته في نيبال.
وبعد أقل من عام، يقول منصور إنه كان يعيش مع 7 رجال آخرين في غرفة واحدة، مكتظة بأسرّة بطابقَين موبوءة بالبق، وفي كثير من الأحيان كانت المياه مالحة وغير صالحة للشرب، عندها تحطمت آمال منصور الذي كان غارقًا في الديون.
منصور واحد من أكثر من 50 عاملًا حاليًّا وسابقًا قالوا إنهم وقعوا ضحية تضليل واستغلال شركات استقدام العمالة لصالح أمازون في السعودية، ووكالات التوظيف في نيبال.
اتفقت شهادات العمال على أنهم دفعوا مبالغ لشركات التوظيف تتراوح بين 830 دولارًا وأكثر من 2300 دولار للحصول على وظيفة، رغم أن هذه المبالغ الباهظة تعدّ مخالفة للقانون النيبالي، ولكي يتمكنوا من دفع هذه المبالغ اقترض العمال أموالًا بفوائد مرتفعة، ويقول العمال أيضًا إنهم قد خُدعوا من قبل شركات التوظيف، لينتهي بهم الأمر كعمال بشركات استقدام العمالة، بدلًا من العمل مباشرة في أمازون.
هذه الشهادات أدلى بها العمال خلال مقابلات أُجريت في إطار تحقيق صحفي دولي، بالتعاون بين “أريج” وشبكة “إن بي سي نيوز” والاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية (ICIJ) وصحيفة “الغارديان”.
وافق نحو 12 عاملًا -مثل منصور- على التحدث علانية، فيما أدلى آخرون بشهادتهم شريطة إخفاء هوياتهم، خوفًا من أن يؤثر ذلك على فرصهم للحصول على عمل آخر، وفي سبيل التأكد من رواياتهم، راجع الصحفيون صورًا ورسائل بريد إلكتروني وإيصالات ورسائل ومستندات أخرى، ذات صلة بفترة عملهم في أمازون.
وبمواجهة أمازون بما كشفه التحقيق، قالت الشركة لشبكة “إن بي سي نيوز” إنها أجرت تحقيقها الخاص الذي كشف عن حقيقة وقوع انتهاكات عمالية، ووعدت الشركة بتطبيق إجراءات تعالج هذا الخلل، بما في ذلك تعويض العمال الذين دفعوا مبالغ لشركات التوظيف لقاء حصولهم على الوظيفة.
قال جون فيلتون، نائب أول لرئيس أمازون للعمليات الدولية، في بيان مكتوب: “نشعر بقلق عميق من عدم معاملة بعض عمالنا المتعاقدين معنا في السعودية بما يتماشى مع معاييرنا المنصوص عليها، وبما يستحقونه من كرامة واحترام”.
ويضيف فيلتون في بيانه: “نقدر مبادرتهم في التحدث عمّا حدث لهم”، مؤكدًا أن “التدقيق في سلاسل توريد العمالة، وما أجرته شركتنا من تحقيق، كشفا عن انتهاكات لمعاييرنا الموضوعة”.
على وجه الخصوص، أشارت أمازون إلى مبالغ التوظيف المدفوعة والمساكن غير الآدمية من بين الانتهاكات التي وجدتها، لكنها امتنعت عن تقديم مزيد من التفاصيل أو مناقشة انتهاكات أخرى لحقوق العمال.
تقوم شركة عبد الله فهد المطيري الكائنة في السعودية، بدور محوري لأمازون في جلب العمالة من دول أخرى، وأمازون واحدة من ضمن عدة شركات كبرى تعاقدت مع شركة المطيري التي تصف نفسها بـ”الرائدة في مجال توفير حلول الموارد البشرية في السعودية”، حيث 49 عاملًا من ضمن 54 أجرينا مقابلة معهم، تمّ توظيفهم عن طريق شركة المطيري.
قالت أمازون إنها فكرت في “تعليق” عملها مع شركة المطيري “حين ظهرت هذه الادّعاءات”، لكنها قررت في النهاية الاستمرار في العمل معها، مع إدخال “تغييرات جوهرية في أعمالها مع الشركة”، في المقابل لم تردّ شركة المطيري على طلبات التعليق المتكررة.
لجلب وجذب العمالة، عملت المطيري مع شركات توظيف في نيبال ودول أخرى، وكان ممتاز منصور واحدًا من هؤلاء العمال، وعندما وصل منصور إلى السعودية، عمل في العاصمة الرياض في مستودع RUH 6 الضخم المكون من طابقَين والتابع لأمازون.
أمضى العامل النيبالي لياليه وهو يجوب ممرات المستودع صعودًا وهبوطًا، لجمع أجهزة آيفون وعبوات ريد بول، وغيرها من المنتجات التي يطلبها عملاء أمازون في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، يتذكر منصور أن مديري أمازون لطالما وبّخوه لبطئه، حتى عندما كان يحقق العدد المطلوب منه، المتمثل في جمع من 70 إلى 80 منتجًا في الساعة من الأرفف والصناديق.
ثم تدهورت الأمور أكثر، في مايو/ أيار 2022 قال منصور إنه كان من بين مجموعة عمال تمّ تسريحهم من دون سابق إنذار أو إبداء أسباب، ليصبحوا عالقين من دون عمل أو أجر أو حتى ما يكفيهم من طعام.
يقول منصور إنه توسّل إلى شركة المطيري كي يتركوه يعود إلى نيبال، إذا لم تعد هناك فرصة عمل له، ويقول أيضًا: “قلت لهم إما أن تقتلونا وإما أن تعيدوننا إلى وطننا، لكن لا تتسبّبوا في إيذائنا بهذا القدر”.
يقول منصور إن شركة توريد العمالة قالت له إن الطريقة الوحيدة للعودة إلى نيبال هي دفع رسوم مغادرة تزيد عن 1300 دولار، كغرامة مغادرة العمل قبل انقضاء مدة عقده الممتد لعامَين، كان المبلغ باهظًا بالنسبة إلى أسرته التي تعتاش على 300 دولار شهريًّا، وما تنتجه 6 أفدنة من أرزّ وقمح وبازلاء، بالشراكة مع بعض الأقارب.
يصف منصور شركة العمالة بـ”القاسية”، متسائلًا: “كيف يمكنني دفع هذا المبلغ؟ أأبيع بيتنا أم كليتي؟”، في النهاية غرقت عائلته في الديون بشكل أكبر، من خلال الحصول على قرض بفائدة تبلغ 36% لدفع رسوم المغادرة.
قال 20 عاملًا ممّن قابلناهم إن شركات توريد العمالة أخبرتهم بعدم إمكانية عودتهم إلى نيبال، إلا بعد دفع رسوم المغادرة التي تعادل قيمتها -في الغالب- أجر عدة أشهر من العمل.
عاد منصور أخيرًا إلى وطنه، ليزرع قطعة الأرض الصغيرة التي تملكها أسرته، لكنه ما زال يعتريه الغضب من أمازون والشركات الأخرى التي يحمّلها مسؤولية ما عاناه في الخليج، من جانبها قالت شركة أمازون لـ”إن بي سي” إن منصور يتمتع بسجلّ عمل جيد، وترحّب بعودته للعمل بالشركة.
تصف المقابلات مع العمال ممارسات صنّفها الخبراء بأنها مؤشرات على الإتجار المحتمل بالعمالة، بموجب القانون الأمريكي ومعايير الأمم المتحدة، تشمل هذه الممارسات تعريض العمال لظروف عمل ومعيشة تعسفية، وتقييد حركتهم، والإدلاء بمعلومات كاذبة عن هوية صاحب العمل، وبموجب معايير الأمم المتحدة يتحمل صاحب العمل -وليس العامل- رسوم التوظيف.
قال عدد من العمال إنهم اشتكوا إلى مديري مستودعات أمازون أو موظفي الموارد البشرية، بشأن تدنّي الأجور أو عدم دفعها، وظروف السكن السيّئة، وضغوط العمل في المستودعات، ردّت أمازون على ذلك بأنها تعمل على تحسين الرقابة على مورّدي العمالة التى تعمل معهم، ومنع أي انتهاكات مستقبلية لقواعدها.
قال فيلتون في بيانه لـ”إن بي سي”: “نطبّق ضوابط أكثر صرامة على المورّدين المتعاقدين معنا، لضمان عدم وقوع أي حوادث مماثلة في المستقبل، ولرفع المعايير العامة المطبّقة على العمال في المنطقة، بما في ذلك توفير تدريبات معززة لمن نتعامل معهم من شركات استقدام العمالة حول معايير حقوق العمالة، مع التركيز -بشكل خاص- على التوظيف والأجور وممارسات الخداع”.
وأضاف فيلتون: “أمازون لا تتسامح مع أي انتهاكات للمعايير الراسخة المطبّقة على سلسلة التوريد الخاصة بها، أو مبادئ حقوق الإنسان العالمية، ونأخذ أي ادّعاء بوقوع انتهاك على محمل الجد”.
أمازون في الشرق الأوسط
دخلت أمازون إلى السوق السعودية عام 2017، عندما اشترت المتجر الإلكتروني العملاق لبيع المنتجات بالتجزئة في الشرق الأوسط “سوق دوت كوم”، الذي انطلق من مدينة دبي الإماراتية، وأعادت تسمية “سوق دوت كوم” باسم أمازون، وعززت من مواردها البشرية باستقدام عمال من باكستان وبنغلاديش ونيبال، وفي عام 2023 أفادت أمازون بتوظيف نحو 1500 عامل دائم ومؤقت في السعودية.
باعتبارها واحدة من أفقر دول آسيا، لطالما كانت نيبال مصدرًا رئيسيًّا للعمال الأجانب الذين توظفهم شركات كبيرة وصغيرة في الخارج، واعتاد هؤلاء العمال إرسال الأموال إلى أسرهم، وفي عام 2022 شكّلت تحويلات العاملين في الخارج 23% من الناتج المحلي الإجمالي لنيبال، حسب تقرير البنك الدولي.
وكثيرًا ما يسمع العديد من العمال النيباليين قصصًا مرعبة من عائلاتهم وأصدقائهم الذين يواجهون ظروف عمل ومعيشة سيئة في الخارج، وفي استطلاع نُشر عام 2017 في “المجلة الطبية البريطانية” المرموقة، أشار معظم الرجال النيباليين الذين عملوا في الخارج إلى أنهم “عانوا الاستغلال في جميع مراحل عملية الهجرة”، وأفاد نصفهم بأنهم وقعوا فريسة لممارسات توظيف خادعة.
مثل العديد من العمال النيباليين، أدرك منصور أن الخيار الأفضل يتمثل في البحث عن توظيف مباشر، بدلًا من العمل لصالح شركة استقدام عمالة، وعندما عرض عليه أحد وكلاء شركة روف الدولية (شركة توظيف تقع في العاصمة النيبالية كاتماندو) العمل في أمازون، أجرى منصور بحثًا قبل أن يقرر قبول العرض، معتقدًا أن شركة أمريكية كبيرة مثل أمازون قد تختلف عن الشركات الأخرى التي تسيء استغلال زملائه من العمال النيباليين.
ولأنه يعلم أن “الوكلاء يكذبون”، سأل منصور مرارًا وتكرارًا عمّا إذا سيكون موظفًا في أمازون أم في شركة استقدام العمالة، ويقول منصور: “أكد لي الوكيل أن الوظيفة مباشرة في أمازون، وأنها ستغيّر حياتي”.
لكنه تفاجأ عندما أخبرته شركة روف الدولية أنه يجب أن يدفع مبلغًا -مقابل توظيفه- بنحو 2300 دولار، إذ إنه على علم بأن الحكومة النيبالية تضع حدًّا أقصى للمستحقات التي يمكن لشركات التوظيف أن تفرضها على العمال المتجهين إلى السعودية يبلغ أقل من 85 دولارًا، وأكد 6 نيباليين آخرين أن شركة التوظيف نفسها فرضت عليهم مبالغ توظيف وصلت إلى أكثر من 1000 دولار.
وكغيره من العمال الآخرين، سدد منصور المبلغ، معتبرًا إياه ثمن الحصول على فرصة عمل في أمازون.
وفق كل من البرلمان النيبالي والمحكمة العليا النيبالية ووزارة الخارجية الأمريكية، فإن العمال النيباليين المتجهين إلى السعودية معرضون بشكل خاص لخطر الاستغلال، لأن حكومة نيبال أخفقت في تطبيق سياسات احترازية من شأنها أن تمنع وكالات التوظيف من فرض رسوم باهظة على العمال.
إن العمال الذين يبحثون عن وظائف في الشرق الأوسط معرضون للخطر أيضًا بسبب نظام الكفالة، وهو نظام ناتج عن ترسانة من قوانين العمل والهجرة في بعض دول الخليج، التي تمنح أصحاب العمل زمام السيطرة على عملية توظيف العمال المهاجرين، والتحكم في وضعهم كمهاجرين، وفي السعودية وغيرها من البلاد حيث لا تزال أوجُه من نظام الكفالة قائمة، يخشى الكثير من العمال الأجانب من تعرضهم للعقوبة إذا تركوا صاحب العمل.
الوصول إلى السعودية
في سبتمبر/ أيلول 2021، غادر منصور منزله جنوبي نيبال متوجهًا إلى كاتماندو، حيث سافر -لأول مرة في حياته خارج نيبال- على متن طيران الجزيرة إلى السعودية، وعندما وصل إلى الرياض كان في انتظاره مجموعة من الأشخاص، اعتقد منصور ومَن معه من العمال القادمين من نيبال أنهم مسؤولو أمازون.
بعد أيام قليلة من عمله بأحد مستودعات أمازون، لاحظ منصور أن شارة هويته الخضراء تختلف في لونها عن الشارة الزرقاء التي يرتديها الكثير من رفقائه في المستودع، فسّر له أحد زملائه هذا الاختلاف بأن الشارة الزرقاء يرتديها من وظفتهم أمازون مباشرة للعمل لديها، أما هؤلاء الذين يرتدون الشارات الخضراء ليسوا موظفين مباشرين في أمازون، بل عمالًا مؤقتين جاؤوا عبر شركات استقدام العمالة.
حينها فقط أدرك منصور أنه يعمل لصالح شركة المطيري، وليس مباشرة لدى أمازون.
تظهر سجلّات تصاريح العمالة أن وزارة العمالة الخارجية النيبالية أصدرت تصاريح عمل في سبتمبر/ أيلول 2021 لمنصور و36 نيباليًّا آخرين، بعدها حولت شركة توريد العمالة النيبالية، روف الدولية، عقود عملهم إلى المطيري.
هيرا لال شاه، المدير التنفيذي لشركة روف الدولية، قال إن الشركة “اتّبعت جميع الإجراءات القانونية المعتمدة من قبل الحكومة، وكان هؤلاء العمال يعلمون أين وكيف سيعملون”، ولم يعلق على مزيد من الأسئلة المتعلقة باتهامات العمال.
قال 48 عاملًا من أصل 54 تمّت مقابلتهم خلال العمل على هذا التحقيق، إن مسؤولي التوظيف زودوهم بمعلومات مضللة بشأن ظروف توظيفهم، ووعدوهم كذبًا بأنهم سيعملون مباشرة لدى أمازون، وقال العمال إنهم خلال فترة وجودهم في السعودية حصلوا على أجور أقل من أولئك الذين يعملون مباشرة في أمازون.
قال منصور: “عملنا ساعات أكثر، وبجهد أكبر، لكن الراتب الذي تقاضيناه كان أقل بكثير”.
العمّال خائفون
تجري وتيرة العمل بسرعة فائقة داخل مراكز التوزيع التابعة لشركة أمازون، يجوب جامعو البضائع الطوابق، يلتقطون المنتجات، ويسلمونها إلى عمال التعبئة، الذين يقفون على أقدامهم لساعات طويلة خلال تأدية عملهم.
يقول العمال إن المدراء يراقبونهم من خلال كاميرات المراقبة المباشرة، ويتابعون تحركاتهم، كما أفاد العمال النيباليون أن مشرفي أمازون كانوا يتتبّعونهم ذهابًا وإيابًا في ممرات المستودع، ويحثونهم على الإسراع، صائحين بالعربية: “يلا، يلا”.
أثناء نوبة العمل العادية، يقول منصور إنه كان يقطع في المستودع ما يقدَّر بـ 9 أميال سيرًا على الأقدام، يقول: “كنت أشعر بالضعف الشديد، وتؤلمني ساقاي، وبعد العودة إلى المنزل كنت أشعر بما يماثل وخز الإبر في جسدي، أو كأنني أسير حافي القدمين على الحجارة، جسدي كله كان يتألم”.
أكثر من 20 عاملًا قابلناهم هذا الصيف عندما كانوا يعملون في مستودعات أمازون بالسعودية، وافقوا على الحديث شريطة عدم نشر أسمائهم، خوفًا من تعرضهم لعقوبات انتقامية إذا ما تحدثوا علانية، وما كان حديثهم إلا تكرارًا للانتهاكات التي أثارها منصور وغيره من العمال السابقين.
أخبرنا أحد العمال الحاليين في أمازون أنه اضطر إلى دفع “رسوم توظيف” باهظة، فيما يعيش في مساكن غير آدمية: “أمازون تريدنا أن نعمل مثل المواشي”، مضيفًا: “أمازون شركة كبيرة، حلمت بكسب المال وأردت أن أحقق شيئًا بعده، لكنّ أيًّا من هذا لم يحدث، فما كنت أتوقعه لم يتحقق”.
خلال فترات الذروة -مثل فترات ذروة المبيعات أو في العطلات- كان المشرفون يراقبون نشاط الحمّامات (دورات المياه)، وكانوا يحذّرونهم في بعض الأحيان -على حد قول العمال- من قضاء وقت طويل بعيدًا عن العمل.
يقول سوريندرا كومار لاما، الذي عمل في أحد مستودعات أمازون في السعودية من عام 2021 حتى نهاية عام 2022: “في أوقات الذروة، أراد المشرفون منا ألا نحصل على فترة راحة من العمل”.
ويضيف العامل الذي أثنت أمازون على سجلّ عمله مثل منصور، مرحّبة بعودته إلى العمل لديها: “كانوا يقفون بالقرب من غرف دورات المياه وأماكن مياه الشرب، لأن العمال يتجنّبون الاقتراب منها في وجود مشرفيهم، وأحيانًا كثيرة كنت أضطر إلى الانتظار نصف ساعة أو ساعة حتى أذهب لدورة المياه، لأنهم كانوا موجودين هناك”.
“فقدتُ أشياء كثيرة”
بعد يوم طويل من العمل في مستودعات أمازون، يعود العمال إلى أماكن الإقامة التي توفرها شركة المطيري. يقول الكثير من العمال إن الوحدات السكنية ضيّقة وغير آدمية، تتسلل إليها الصراصير، ومزودة بمياه مالحة تسبّب الطفح الجلدي، وغالبًا ما يستوطن البق الأسرّة، وفي بعض الأحيان مكيفات الهواء لا تعمل، في وقت تشتد الحاجة إليها خاصة مع طقس هذا البلد الصحراوي.
يتساءل منصور: “كيف يمكن لـ 8 أشخاص المكوث معًا في غرفة صغيرة”، مضيفًا: “لم تكن هناك مساحة لوضع المتعلقات الشخصية، فاضطررنا إلى الاحتفاظ بها على أسرّتنا”.
في بعض الأحيان، نجح العمال في الضغط على مسؤولي أمازون لحثّ شركة المطيري على معالجة مشكلات السكن، لكن التحسينات لم تدُم طويلًا وفق شهادات العمال. يقول أحد العمال السابقين إنه عندما اشتكى العمال إلى أمازون من مشكلة المياه المالحة، هددتنا شركة المطيري: “من الذي اشتكى من المياه؟”، متوعّدة إياه بالطرد من العمل، كما تحدّث عمال آخرون عن تعرضهم لتهديدات مماثلة.
تتعامل شركة المطيري بالصرامة نفسها عندما يتعلق الأمر بطلب العمال الحصول على إجازات، للعودة إلى نيبال في حالات الطوارئ العائلية، وفق شهادات 23 عاملًا حاليًّا وسابقًا.
يقول العاملون إن شركة استقدام العمالة تضع العامل أمام خيارَين، إما أن يدفع غرامة كبيرة مقدمًا، وإما أن يقنع زملاءه بالتوقيع على عقد “ضامن”، يتعهّدون فيه بدفع غرامة نيابة عنه، إذا لم يعد إلى السعودية لاستكمال مدة عقد العمل.
يقول أحد العمال السابقين إنه لم يستطع حضور ولادة ابنه وجنازة والده، لأن شركة المطيري لم تسمح له بالعودة إلى وطنه، وحتى بعد أن قدّم للشركة شهادة وفاة والده، رفضت الشركة أن يعود إلى بلاده قبل أن يدفع غرامة قدرها 1600 دولار، أي أكثر من راتب 4 أشهر، قال إنه لم يكن قادرًا على تحمل تكلفة هذه الغرامة، ولم يتمكن من إقناع أي زميل عمل بالتوقيع كضامن له.
يقول: “لم أستطع حضور جنازة والدي، ولم أتمكن من حمل ابني ورؤيته عند ميلاده”، مبديًا الندم على فترة عمله في السعودية: “لم أحقق أي شيء، بل على العكس خسرت أشياء كثيرة”.
المرحلة الأخيرة
بعد ظهر أحد أيام مايو/ أيار 2022، وقبل ساعات قليلة من بدء نوبة عمله، ظهرت رسالة على هاتف منصور، مفادها: “لا تذهب إلى العمل”، الرسالة أدرجت عشرات الأسماء “للمفصولين من العمل في أمازون”، ووجد منصور اسمه ضمن القائمة.
توقع العمال عند سفرهم من نيبال إلى الخليج أنهم سيعملون في وظائف صعبة، لكنها مستقرة، إلا أنه وعلى النقيض وجدوا أن الأمان الوظيفي هناك يكاد يكون معدومًا.
يقول عامل من نيبال ما زال يعمل في مستودع أمازون في الرياض: “يتملكنا الخوف كل يوم عمل من احتمالية فصلنا في اليوم التالي، نحن نعمل كل يوم وكأنه آخر يوم عمل”.
يقول العمال إنه بمجرد تسريحهم من العمل يبدأ فصل جديد من المعاناة، فيترتّب على فصلهم فقدان السكن المخصص للعاملين في أمازون، ويتم نقلهم إلى أماكن أسوأ مخصصة للعاطلين، وفي الأثناء لا يحصلون على أجر أو طعام، ويعاني الكثير منهم أسابيع أو شهورًا في انتظار أن تعيدهم المطيري إلى العمل في أمازون أو في أي شركة أخرى.
استطاع منصور أن يعيش خلال إقامته بلا عمل بتناول الخبز مرة واحدة يوميًّا، وباللجوء إلى الاقتراض من زملائه السابقين، ويقول إنه في بعض الأيام لم يأكل شيئًا على الإطلاق، وعندما لم يعد بإمكان أصدقائه الاستمرار في دعمه، ولم تقدّم المطيري له فرصة عمل أخرى، قرر منصور دفع غرامة المغادرة وعاد إلى نيبال. يقول منصور: “العودة إلى الوطن أفضل من الموت جوعًا”.
هرب عمال عاطلون آخرون من أماكن الإقامة، وعملوا من دون تصاريح عمل في البناء والمطاعم، رغم خطر إلقاء القبض عليهم، فيما دفعت الوحدة والجوع والإجهاد بعض العمال العاطلين نحو الانزلاق إلى أفكار قاتمة مدفوعة باليأس.
يقول مانيش كومار سوداري، عامل في أمازون يقول إنه تمّ فصله من العمل لارتكابه الكثير من الأخطاء أثناء جمعه للمنتجات في المستودع، إنه أمضى أيامًا في العناية بعامل آخر مفصول، كان يتحدث عن رغبته في الانتحار شنقًا، ويقول سوداري إنه سرعان ما بدأت تراوده هو الآخر فكرة الانتحار.
يقول في لقائه مع أحد معدّي التحقيق في يناير/ كانون الثاني 2023: “كيف يمكن أن أقضي 3 أو 4 أشهر من دون مساعدة؟ لقد عانيت كثيرًا بالفعل، أنا على حافة الهاوية”، يقول سوداري إنه عاد إلى وطنه بعد عدة أشهر، ويعمل الآن في الهند.
أعلنت السلطات السعودية قيامها بعمل إصلاحات في لوائح العمل عام 2021، مدّعية أن هذه الإصلاحات من شأنها أن تسهّل إجراءات تغيير العمال لأماكن عملهم ومغادرة البلاد، لكنّ المدافعين عن حقوق الإنسان يقولون إن العمال المهاجرين في المنطقة ما زالوا عرضة للانتهاكات، لأن هذه الإصلاحات التي توفر حماية محدودة للعمال لم تطبَّق بعد على نطاق واسع.
ويقول مايكل بيج، المسؤول في منظمة هيومن رايتس ووتش: “رغم هذه الإصلاحات التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، لا يزال العمال المهاجرون يواجهون انتهاكات جسيمة”، مضيفًا: “ما زال يواجه العمال المهاجرون صعوبات عند رغبتهم في تغيير جهة عملهم، من دون الحصول على إذن من صاحب العمل (أو الجهة المتعاقد معها)”.
يشعر منصور بالذنب بسبب القروض غير المسددة التي حصل عليها هو وأسرته لينتقل إلى السعودية، ثم لعودته إلى نيبال، حيث فوائد القروض تتراكم، ويخشى منصور أن يصادر مقرضو الأموال في قريته أرض أسرته، يقول: “لقد خسرت الوقت والمال أثناء العمل في أمازون، لقد خسرت كل شيء؛ جسدي وقوتي.. والآن الوضع المالي لأسرتي مدمَّر”.
ولكن -مثله مثل العديد من العمال المهاجرين في جميع أنحاء العالم- لم يدع منصور هذه التجربة المروعة تمنعه من محاولة العثور على صاحب عمل يدفع له أجرًا عادلًا ويعامله بشكل لائق، لقد بدأ بالبحث مرة أخرى عن وظيفة في الخارج، إنه منفتح على الذهاب للعمل في أي مكان، باستثناء السعودية.
يُنشر هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة أريج للصحافة الاستقصائية والاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) وشبكة NBC News وصحيفة الغارديان Guardian US.
شارك في إعداده: برامود أشاريا، ومايكل هدسون، وأندرو ليرير، وآنا شيكتر، وهدى عثمان.