كثّفت القوات التركية هجماتها على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، في محافظتَي الحسكة والرقة شمال شرقي سوريا وشمال حلب، مستهدفة مواقع عسكرية هامة للميليشيات، عقب هجوم انتحاري استهدف منطقة كيزلاي في العاصمة التركية أنقرة، الأحد 1 أكتوبر/ تشرين الأول.
تصاعدت الهجمات التركية بالطائرات المسيّرة جوًّا والمدفعية من قواعد الجيش التركي في منطقتَي العمليات (درع الفرات ونبع السلام) شمالي سوريا منتصف الأسبوع الماضي، مستهدفة مواقع وارتباطات حزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا، بينما تلوّح أنقرة بإطلاق عملية عسكرية برية باعتبارها أحد خيارات التصعيد.
تصاعد الهجمات التركية
تصاعدت الهجمات التركية على مناطق الشهباء في ريف حلب الشمالي خلال اليومَين الماضيَين، حيث استهدفت موقعًا عسكريًّا بالطيران المسيَّر في مدينة تل رفعت، بينما استهدفت القواعد التركية في “درع الفرات” تحركات عناصر “قسد” في مدينة تل رفعت، وقرى شوارغة وتنب وكشتعار والزيارة وخربة شعالة وتل جيجان والسموقة ومرعناز ومالكية ومراش وكفر أنطون.
إلى شمال الرقة، استهدفت القواعد العسكرية التركية في منطقة “نبع السلام” مواقع عسكرية لميليشيا “قسد”، ليل الاثنين/ الثلاثاء، قرب صوامع مدينة عين عيسى، كما طال القصف قرى وبلدات المستورة وسلوك وقرفلية وصيدا ومعلق وطريق التابعة لمحافظة الرقة.
وفي الحسكة، جددت تركيا قصفها بالطيران المسيّر والمدفعية الثقيلة في ناحية الدرباسية، وقرى البشيرية وسنجق وناحية تل تمر، وقرى البوزلية والدردارة والطويلة وتل طويل وزركان والمشيرفة والربيعات، بينما قُتل 29 عنصرًا من قوى الأمن الداخلي التابعة لـ”قسد”، جراء استهداف مقرهم في منطقة المالكية ليل الأحد/ الاثنين، كما قصفت حقول وآبار نفط ومحطات للمياه في ريف القامشلي الشرقي.
أعلنت وزارة الدفاع التركية تدمير 15 هدفًا ومقتل 14 من عناصر “قسد” في قصف جوي ليل الجمعة/ السبت، وقالت: “إن القوات التركية حيّدت ما لا يقل عن 14 مسلحًا في هجمات، على مواقع للمسلحين (عناصر “قسد”) في شمال سوريا”، مشيرةً إلى أنها “نفّذت ضربات قوية على أهداف تابعة لإرهابيي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون وعملية نبع السلام طوال الليل”.
وأوضحت في بيان أن المواقع المستهدفة من بينها “مقرات ومخابئ ومستودعات، يعتقد أنها كانت تحتضن إرهابيين يحملون صفات قيادية”، مؤكدة أنها “خلال العمليات اتخذت جميع الاحتياطات لمنع تعرض المدنيين الأبرياء والعناصر الصديقة (في إشارة إلى القوات الأمريكية) والأصول التاريخية والثقافية والبيئية للأذى”.
وشنّت الطائرات المسيَّرة ضربات بالصواريخ الموجّهة، طالت مستودعًا للذخيرة ومرأبًا للسيارات في حي المشيرفة ضمن مدينة الحسكة، وموقعًا عسكريًّا قرب مدينة عامودا، ونقطة عسكرية قرب سد الجوادية بريف مدينة القامشلي، وسيارة عسكرية قرب ناحية تل تمر، وسيارة لـ”قسد” في بلدة التوينة، وعددًا من الأنفاق التي حفرتها الأخيرة في المنطقة، ما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر “قسد” في 5 أكتوبر/ تشرين الأول.
واستهدفت طائرات مسيَّرة تركية في 4 أكتوبر/ تشرين الأول عدة مواقع عسكرية لميليشيا “قسد” في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، من بينها معمل لصناعة القرميد في بلدة صفيا بين مدينتَي الحسكة والقامشلي (المعمل متوقف عن العمل وتتخذه الميليشيات مقرًّا عسكريًّا)، ما أسفر عن مقتل وجرح أكثر من 10 عناصر.
ويبعد المعمل عن الحدود السورية-التركية مسافة تزيد عن 60 كيلومترًا، بعدما نقلت “قسد” معظم مقارها العسكرية إلى عمق الأراضي السورية خشية استهدافها، والمعمل حولته الميليشيات إلى مستودع ومصنع لصناعة الذخائر، ما نجم عنه عدة انفجارات متتالية عقب حادثة استهداف الطيران المسيَّر بالصواريخ الموجهة، وتحظى المنطقة بحراسة مشددة حسب مصادر موقع “تلفزيون سوريا”.
استهداف تحركات قادة وعناصر “قسد” بالطائرات المسيَّرة التركية
وفي وقت سابق من يوم الاثنين، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تدمير 194 هدفًا، وتحييد 162 إرهابيًّا في العمليات العسكرية الجارية منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول شمال سوريا والعراق، والتي تستهدف نشاطات وارتباطات حزب العمال الكردستاني.
سياق التصعيد التركي
يأتي القصف على خلفية هجوم استهدف منطقة كيزلاي التي تضم عددًا من المباني الحكومية، منها وزارة الداخلية والبرلمان التركي، في العاصمة التركية أنقرة، الأحد 1 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث نُفّذ هجوم انتحاري من قبل شخصَين، الأول فجّر نفسه ما أسفر عن إصابة اثنين من عناصر الشرطة، بينما حيّدت الشرطة الثاني.
وبعد ساعات على الهجوم الانتحاري، أعلن حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن الهجوم في أنقرة، بحسب وكالة ANF News المقربة من الحركة المسلحة، حيث نقلت عن الحزب: “إن عملًا فدائيًّا ضد وزارة الداخلية التركية نفّذه فريق تابع للواء الخالدين”.
وكشفت تركيا هوية المسلحَين اللذين قُتلا أثناء محاولتهما شنّ هجوم أنقرة، وبحسب وزير الخارجية هاكان فيدان، دخل منفّذا الهجوم إلى الأراضي التركية قادمَين من سوريا (مناطق سيطرة “قسد” شمال شرق سوريا)، وتلقيا التدريبات في الداخل التركي.
وأضاف: “إن كافة البنى التحتية والفوقية ومنشآت الطاقة التابعة لحزب العمال الكردستاني الإرهابي في سوريا والعراق، أهداف مشروعة لقواتنا الأمنية والعسكرية والاستخباراتية”، مؤكدًا أن رد تركيا سيكون “ملموسًا للغاية ويجعل الإرهابيين يندمون مرة أخرى على فعلتهم”.
خيارات “قسد” أمام الهجمات
تضيق الخيارات أمام “قسد” كلما صعّدت تركيا من هجماتها العسكرية على مواقع الميليشيا في شمال شرقي سوريا، في وقت لا تزال تصريحات الأخيرة حذرة تمامًا، ضمن محاولات نفي صلتها بهجوم أنقرة على لسان قائدها مظلوم عبدي، وذلك ردًّا على الاتهامات التي وجّهها مسؤولون أتراك من المناطق التي تقع تحت سيطرة قواته.
وقال عبدي: “إن منفّذَي هجوم أنقرة لم يمرّا من مناطقنا كما يزعم مسؤولون أتراك، كما أننا لسنا طرفًا في الصراع الداخلي التركي، ولا نشجّع على تصاعد وتيرته”، مضيفًا أن “تركيا تبحث عن ذرائع لشرعنة هجماتها المستمرة على مناطقنا وشنّ عدوان عسكري جديد، وهذا يثير قلقنا العميق”.
خيارات “قسد” أمام التصعيد العسكري التركي شمال شرق سوريا
وعقب التصريحات التركية، حذّر عبدي من “أن استهداف البنية التحتية والمصادر الاقتصادية للمنطقة والمدن الآهلة بالسكان، يعدّ جريمة حرب”، فيما دعا الأطراف الدولية إلى “اتخاذ المواقف المناسبة حيال هذه التهديدات المتكررة، وضمان السلام والاستقرار في المنطقة”.
وعلى الصعيد الميداني، ردّت ميليشيا “قسد” على مصادر قصف المدفعية من القواعد العسكرية التركية في مناطق “درع الفرات” و”نبع السلام”، موقعة عددًا من القتلى والجرحى في صفوف القوات المسلحة التركية، حسب بيان لـ”قسد”، إلا أن وزارة الدفاع التركية نفت الادعاءات، وأوضحت أن العملية التي نُفّذت في ريف حلب أودت بحياة جندي وعدد من الإصابات.
ونفّذت قوات “تحرير عفرين” في مناطق الشهباء شمال حلب عملية يوم الجمعة 6 أكتوبر/ تشرين الأول ضد قاعدة للقوات التركية في بلدة دابق، بينما أعلنت “قسد” أنها “نفّذت الخميس الماضي عمليتَين نوعيتَين في قاعدتَين للقوات التركية، هما قاعدة باب الفرج وباب الحي شمالي مدينة تل تمر شمالي سوريا، أسفرتا عن مقتل 5 جنود أتراك وإصابة العشرات، في إطار الرد المشروع على قصف القوات التركية لمناطق شمال وشرقي سوريا”.
والأحد 8 أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن قائد ميليشيا “قسد” أن تركيا استهدفت خلال الـ 72 ساعة من بدء هجماتها على مناطق شمال شرق سوريا، “أكثر من 145 موقعًا شمل محطات كهرباء ومياه وطاقة ومشافي ومدارس”، مشيرًا إلى أنه “استهدف بشكل مباشر جهود وقدرات الإدارة الذاتية بنوايا سياسية عدوانية لشلّ الحياة المدنية”.
ويعدّ ردّ “قسد” على الضربات التركية الموسعة محدودًا، لا سيما أنها غير قادرة على التصعيد ضد تركيا في ظل فارق واضح في ميزان القوى، واستبعاد إمكانية انخراط واشنطن في المواجهة، لذلك هي أمام خيارات محدودة ولا يمكنها الخروج عن التفاهمات السياسية للتخلُّص من شبح الهجمات التركية.
وتشير طبيعة الهجمات البرية والجوية المركّزة على أهداف حيوية ومخازن للأسلحة والوقود ومراكز الإمداد العسكري، إضافة الى القيادات الميدانية وقيادات الصف الأول والاستخبارات كونها من محركات العمل العسكري لدى “قسد”، إلى أنها فقدت وما زالت تفقد المزيد من قدراتها في القيام بهجمات مضادة في ظل موافقة حليفتها واشنطن، ما يحجّم خياراتها، حسب ما أوضح الكاتب والمحلل السياسي هشام سكيف.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن إمكانية الوصول إلى حل سياسي عوضًا عن التصعيد العسكري أمر غير واضح، كون “قسد” ذات مواقف متناقضة، فتارة تعتبر نفسها جزءًا من المعارضة، وتارة جزءًا من تحالف نظام الأسد وروسيا وإيران، في حين محركها الأساسي الولايات المتحدة الأمريكية”.
وأضاف: “تريد “قسد” حكم إقليم معظم قاطنيه من العرب، ونسبتهم تفوق الـ 90% من السكان، مع مواصلة العداء للدولة التركية، ويعدّ خيار المواجهة العسكرية أمام “قسد” معركة فناء وإفناء لقواتها”.
ورغم تعويلها على حليفتها واشنطن والمجتمع الدولي الداعم لوجودها، إلا أنها لا تضمن الحصول على أي داعم في هذا الإطار، ولطالما ستسعى إلى اللجوء لروسيا وإيران ونظام الأسد في حال فشلت في الحصول على مساندة دولية.
ويرى المحلل أن خيار اللجوء إلى نظام الأسد وحلفائه أصبح مستهلكًا، وضمن سقف معروف، فلا نظام الأسد يوافق على الحكم الذاتي، ولا “قسد” توافق على استبعادها من الإدارة في مناطق شرق الفرات، ولا بدَّ من تغيير وإعادة هيكلة شاملة لـ”قسد” مع إخراج كوادر PKK المنضوية في صفوفها، وعدا هذا الحل فإنها ستبقى تحت خيارات التصعيد التركي.
موقف واشنطن من التصعيد
دخلت واشنطن إلى خط التصعيد الأخير، عقب إسقاطها طائرة مسيَّرة تركية في سماء منطقة تل بيدر شمال غرب محافظة الحسكة، بعد اقترابها من إحدى القواعد الأمريكية الخميس 5 أكتوبر/ تشرين الأول، إلا أن وزارة الدفاع التركية نفت تبعية الطائرة للقوات المسلحة التركية.
وفي السياق، أكّد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، باتريك رايدر، أن مقاتلة أمريكية من طراز إف-16 أسقطت طائرة مسيَّرة تركية، كإجراء مناسب لحماية القوات الأمريكية البرية في سوريا، في سماء مدينة الحسكة، بعدما اقتربت على مسافة تقلّ عن نصف كيلومتر من القوات الأميركية، ما شكّل تهديدًا عليها.
وتدعم واشنطن “قسد” وتعتبرها شريكًا في الحرب ضد تنظيم “داعش”، وتوفر الولايات المتحدة الحماية والدعم اللوجستي لميليشيات “قسد”، وغالبًا ما تدعو إلى التهدئة كلما شهدت المنطقة تصعيدًا عسكريًّا من قبل القوات المسلحة التركية، رغم اعتراف واشنطن بـ”هواجس تركيا الأمنية المشروع”، حسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.
وجدد أوستن عزم بلاده العمل مع تركيا من أجل ضمان الأمن والاستقرار، خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي يشار غولر، وتباحثا فيما يتعلق بالأمن القومي والدفاع، بينما أشارت وزارة الدفاع التركية في بيان لها إلى أن الاتصال تناول التطورات الأخيرة في سوريا، كما شدد الجانبان على أهمية التنسيق الوثيق بين القوات التركية والأمريكية خلال أنشطتها في المنطقة.
هل يقود التصعيد إلى عملية برية؟
تثير الهجمات التركية المتصاعدة على مناطق شمال شرق سوريا التي تسيطر عليها “قسد” عدة تساؤلات، عمّا إذا كانت الهجمات استعدادًا لشنّ عملية عسكرية برية في الأراضي السورية، في وقت لا تجد فيه تركيا فرصة مماثلة تحقق من خلالها إمكانية الحفاظ على أمن حدودها.
وبدأت أنقرة تلوّح بعملية عسكرية تركية كأحد الخيارات المفتوحة أمامها، ما يرجّح إمكانية انخراطها في عمل بري في الأراضي السورية إذا ما تطلب الأمر، وحظيت بموقف حقيقي من قبل حلفاء “قسد”، واشنطن وموسكو.
ونقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول في وزارة الدفاع التركية، الخميس 5 أكتوبر/ تشرين الأول، قوله: “إن شنّ عملية برية في سوريا من بين الخيارات التي قد تبحثها تركيا”، ما أثار مخاوف “قسد” والإدارة الذاتية في مناطق شمال شرقي سوريا، من تعرض المنطقة لعملية عسكرية برية، ما دفعها إلى مطالبة المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات لازمة بهذا الخصوص.
وأوضح المسؤول هدف بلاده في القضاء على المنظمات الإرهابية التي تشكّل تهديدًا لتركيا، والعملية البرية ضمن الخيارات للقضاء على هذا التهديد، لكنه ليس الخيار الوحيد، مؤكدًا “أن حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب هما نفس المنظمة الإرهابية، وإنهما هدفنا المشروع في كل مكان”.
وتعتبر الهجمات التركية المتصاعدة على مناطق نشاط ميليشيا “قسد” ردًّا على هجوم أنقرة، وهي مشابهة لما حصل خلال العام الماضي عقب هجوم انتحاري استهدف شارع الاستقلال في إسطنبول نفّذه حزب العمال الكردستاني، حسب ما أوضح مدير وحدة الدراسات في مركز أبعاد محمد سالم.
واستبعد سالم شنّ أنقرة عملية عسكرية برية في شمال شرق سوريا، بسبب الممانعة الأمريكية الشديدة، واختلاف ظروف الإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية عن ظروف الإدارة السابقة، عندما قام ترامب بسحب قواته والسماح بشنّ عملية “نبع السلام” خلال العام 2019.
نهاية، تشير التصريحات التركية تزامنًا مع الهجمات الجوية والبرية التي تطول المقار والمواقع والتحركات العسكرية لميليشيا “قسد”، إلى أنها عملية عسكرية محدودة من خلال تنفيذ هجمات جوية وبرية، قد تصل إلى مرحلة شنّ عملية عسكرية إذا ما حققت العملية دعمًا وموقفًا حازمًا من واشنطن وموسكو.