لا تزال قضية أكبر عملية تزوير واحتيال عقاري ذات طابع رسمي يتم الكشف عنها في العراق، تثير كثيرًا من التساؤلات حول مدى تغلغل أذرع الفساد في مؤسسات الدولة، وقدرة الفاسدين على إغلاق مثل هذه الملفات التي تدينهم.
وكانت هيئة النزاهة العراقية قد كشفت في 4 أبريل/ نيسان الماضي، عن تنفيذ عملية كبرى واستثنائية بمديرية التسجيل العقاري في محافظة الأنبار غرب البلاد، أسفرت عن اعتقال مدير الدائرة وخمسة من المسؤولين فيها.
واتهمت النزاهة هؤلاء الموقوفين بالتلاعب والتزوير في أضابير تمليك عشرات الآلاف من الأراضي، حيث تحفّظت النزاهة عن نحو 70 ألف إضبارة عقار تم تمليكها بصورة مخالفة للقانون، وفق البيان الرسمي.
وجرى خلال المداهمة المباغتة ضبط 400 هوية مزوّرة تعود إلى إحدى النقابات وأسوار ذهبية ثمينة، فضلًا عن أموال بقيمة تتجاوز 2 مليون دولار، ورجّحت السلطات العراقية أن تسفر الإجراءات التحقيقية عن إلقاء القبض على مزيد من المتهمين المهمّين، من الذين شاركوا في هذه القضية.
جهات متنفّذة
يقول الكاتب والصحفي من محافظة الأنبار أحمد عيد، إن تحويل ملكية الأراضي وملفات الفساد التي تتعلق ببيع الأراضي والعقارات في المحافظة، لم يقتصر على المنطقة المتاخمة للمطار الجديد فحسب، إنما هناك أراضٍ كبرى جرى الاستيلاء عليها في المحافظة.
ينوّه عيد في حديثه لـ”نون بوست” إلى “وجود شبهات فساد بتورط جهات حكومية متنفذة، قامت بعمليات تزوير سندات الملكية، وتؤكد التحقيقات الأولية تورُّط موظفين كبار ينتمون إلى حزب سياسي يسيطر على إدارة جميع مؤسسات المحافظة، ولا تتم أي صفقة إلا من خلال رئيس الحزب أو من يخوله”.
ويرجّح عيد أن العملية هدفها تأكيد جدّية رئيس الحكومة محمد السوداني في مكافحة الفساد، لكن عمليات تنفيذ واجبات الفساد تمّت بانتقائية، حيث استهدفت محافظة الأنبار دون غيرها من المحافظات التي تشوبها الكثير من صفقات الفساد الكبيرة في جميع المؤسسات.
تلاعب وتزوير
تدور الشبهات حول تورط شخصيات رفيعة في عمليات التزوير والتلاعب، بهدف كسب مئات ملايين الدولارات بصكوك بيع وهمية، ويكشف المدوّن والناشط السياسي مخلد خالد الدليمي، أن من قام بتزوير ملكية الأراضي هم شبكة قريبة من زعيم سياسي متنفّذ في بغداد، مرورًا بمسؤولين محليين بالمحافظة تورّطوا في هذه الصفقة.
ويؤكد الدليمي في حديثه لـ”نون بوست”، على أن أكثر من 100 ألف شخص قاموا بشراء هذه الأراضي، وتقدَّر الخسائر بملايين الدولارات ذهبت إلى جيوب الفاسدين والمتنفّذين، وسط تساؤلات عن مصيرها.
ويلفت إلى أن هذه العملية أثّرت على سوق العقار بالمجمل، واهتزت ثقة المواطن بالقيادات السياسية المسيطرة على المحافظة ومقدراتها، والمسؤولة عن جميع المفاصل والدوائر الحكومية.
يعرب الدليمي أيضًا عن أمله في أن تكون هذه العملية بداية لفضح الكثير من عمليات التزوير، والتي استفحلت إبّان الحكومتَين السابقتَين، وأغلبها حدثت بغطاء سياسي ونفوذ مسلح، وليست ببعيدة عمّا حدث في أراضي الدورة – يوسفية بالعاصمة بغداد، وكيف تم قضمها ومنحها لجهات متنفّذة في الدولة العراقية.
كما دعا الجهات المعنية إلى التعامل الصارم مع هذه القضايا، وعدم الاستهانة بملف الاحتيال العقاري، والذي بدأ يستفحل في الآونة الأخيرة نتيجة الخلافات السياسية والمشاكل الاجتماعية التي تعصف بالبلاد.
احتيال رسمي
ما يزيد من تعقيد المشهد أن عمليات الاحتيال جرت بأساليب رسمية عن طريق الدوائر الحكومية المعتمدة في الأنبار، وذلك أسهم في وقوع الكثير من العراقيين ضحية هذه الألاعيب.
يوضّح الحقوقي محمد العساف أن المواطن ليس له ذنب بما اقترفته بعض الجهات السياسية وسماسرتها ببيع الأراضي لهم، كونه اشتراها من جهة رسمية مثل البلدية والتسجيل العقاري، وبتوقيع وموافقة جهات رسمية.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يتساءل العساف: “أين كانت الدولة عنهم خلال السنوات الماضية، عندما بدأت عمليات البيع الوهمية لهذه الأراضي؟”، وحول تبعات بيع الأرض الواحدة لأكثر من شخص، يرى العساف أن الأراضي المكررة ينبغي أن تكون للمشتري الأول، وتعويض المشتري الثاني عن كافة الأضرار والخسائر.
وشدد على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد لمثل هذه المشاكل، من خلال تنصيب إدارات مهنية وتفعيل الرقابة، لمنع تكرار التلاعب بممتلكات المواطنين وعقاراتهم، وحذّر العساف من تداعيات وخيمة لاستفحال التلاعب بممتلكات المواطنين، والتي يصل خطرها إلى عمليات تغيير ديموغرافي في المستقبل.
خسائر فادحة
يوضّح الدكتور ضاري الدليمي، الناطق باسم الحراك الشعبي للإصلاح في الأنبار، أن قضية تزوير سندات هذه الأراضي وبيعها بطريقة صفقات عقارية إلى منتفعين وتجّار الأراضي ليست وليدة اللحظة، بل بدأت منذ أكثر من 3 سنوات بالتزامن مع الإعلان عن إنشاء مطار الأنبار الدولي في منطقة كيلو 35 غرب مدينة الرمادي.
ويبيّن في حديثه لـ”نون بوست” أن عدد الأراضي المسروقة قد يكون أكثر من 150 ألف قطعة أرض، قام مسؤولون كبار ببيعها في غفلة من أجهزة الأمن والرقابة الحكومية.
وكشف الدليمي أن اختيار هذه الأراضي جاء بحكم موقعها قرب المطار المزمع إنشاؤه، وجرى بيع بعض هذه الأراضي لعدة أشخاص بسندات مزوّرة، في واحدة من أكبر عمليات النصب والاحتيال في العراق.
وذكر أن حجم الخسائر كبير يصل إلى مئات ملايين الدولارات التي أُهدرت في جيوب السارقين، بدلًا من أن يتم استثمارها في تطوير الخدمات بالمحافظة، ورجّح أن تتم محاسبة المتورطين بأحكام سجن تصل إلى المؤبّد، مع استرداد الأموال التي قام هؤلاء بالاستيلاء عليها.
واستبعد ضاري ما يروّجه البعض من عمليات استهداف سياسي، مؤكدًا أنها قضية قانونية مرتبطة بأعمال سرقة واحتيال، وتضخُّم ثروات بعض المسؤولين الذين يستحقون التوقيف وأخذ جزاءهم العادل.
صراعات سياسية
يرى رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين فرع الأنبار، شاكر المرد، أن “العراق يعاني من منظومة فساد كبيرة، لكن الزوبعة الإعلامية التي أُثيرت حول قضية فساد بيع قطع الأراضي في المحافظة، لا تخلو من دوافع سياسية”.
ويبيّن المرد لـ”نون بوست” أن السبب الأول وراء تضخيم القضية هو وجود صراعات سياسية ما بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، بسبب إقرار بعض القوانين، ومحاولة كتل سياسية الاستحواذ على القرار السياسي في هذا البلد.
ونوّه إلى أن الإعلانات المستمرة حول أهمية موقع هذه الأراضي لقربها من المطار المرتقب، أقنعت الناس تمامًا بأهمية الاستثمار بها، وقاموا بشراء الأراضي في تلك المنطقة، ويؤكد المرد على أن عمليات بيع هذه الأراضي تمّت بمحاضر رسمية بتوقيع محافظ الأنبار ومدير البلديات، وموافقات رسمية من وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة، وفق إجراءات رسمية وأصولية.
ويضيف أنه رغم اعتقال مجموعة من موظفي التسجيل العقاري، يندرج ما جرى في إطار المخالفات الإدارية والقانونية، ولا يعتبَر عملية تزوير، ولا يستحق هذا اللغط الإعلامي، على حدّ وصفه.
واستبعد المرد أن يجازف أي مسؤول بالمصادقة على محاضر مزوّرة وقد يحصل بعض التجاوزات، لكن استغلال هذا الأمر وتضخيمه بشكل بشع لأغراض سياسية ترك حالة من الهلع بين مشتري هذه الأراضي، وعددهم يتجاوز 150 ألف شخص من داخل المحافظة وخارجها.
ويشدد الخبير القانوني على عدم إمكانية إبطال سندات الملكية إلا عن طريق محكمة بداءة مختصة، حيث عملية الشراء كانت قانونية وبحسن نية، ولا يمكن محاسبة المشتري حتى لو حصلت مخالفات إدارية، ولا ينفي المرد وجود حالات فساد، وطالب بمحاسبة كل المتلاعبين في حالة وجود تلاعب، لكن على الجهات المختصة إنصاف مشتري هذه الأراضي.
انفراجة قريبة
بدوره، يوجّه إبراهيم كامل الدليمي، مدير مكتب النواة للعقارات في الأنبار، رسالة اطمئنان إلى مشتري الأراضي الوهمية، بأنهم سيستعيدون حقوقهم كاملة، لكن الأمر يأخذ بعض الوقت.
وينوه الدليمي إلى أن الحديث يدور حول أراضي ناحية الوفاء قرب مطار الأنبار المزمع إنشاؤه، لكن ملف التلاعب بالعقارات يشمل مناطق واسعة داخل محافظة الأنبار، ورجّح أن تتم عمليات إعادة الفرز والتدقيق، حيث إن الكثير من هذه الأراضي هي غير مزورة، لكن جرى إيقاف التصرف فيها لحين الانتهاء من التدقيق اللازم.
وحول اضطراب سوق الأراضي بعد هذه الحادثة، أعرب كامل الدليمي عن ثقته بأن أوضاع سوق العقار ستعود طبيعية بعد إجازة عيد الفطر، ويرى مدير مكتب العقار أن هناك تضخيمًا إعلاميًّا حول هذه القضية بسبب وجود خلافات سياسية، وهناك جهات سياسية تستفيد من تأجيج الوضع في المحافظة.