طيلة الأيام القليلة الماضية، خصّص الإعلام الموالي لنظام عبد المجيد تبون في الجزائر، حيزًا كبيرًا من الوقت للحديث عن مبادرة الوساطة التي اقترحتها سلطات البلاد للوصول إلى حل في النيجر وإنهاء الأزمة الدستورية في هذا البلد الإفريقي.
لم يكن الإعلام ليتحدث عن هذه المبادرة، لولا الأوامر الصادرة عن قصر المرادية، فهذه المبادرة كانت إحدى أبرز أدوات الجزائر للعودة للساحة الإقليمية بعد تراجع دورها في الفترة الأخيرة، خاصة أن الساحة فارغة أمامها ولها أن تملأها.
لكن يبدو أن حسابات النظام تغيرت، إذ بادر بسحب مبادرة الوساطة في وقت تسعى فيه سلطات البلاد لإعادة توجيه بوصلتها نحو تحالفات جديدة في ظل المتغيرات الأخيرة الحاصلة على الساحة الإقليمية والدولية.
سحب المبادرة
على غير المتوقع، أعلنت الجزائر أول أمس إرجاء المشاورات بشأن تنفيذ مبادرة الوساطة لحل الأزمة في النيجر، وجاء في بيان للخارجية الجزائرية: “قررت الحكومة الجزائرية إرجاء الشروع في المشاورات التحضيرية المزمع القيام بها إلى حين الحصول على التوضيحات التي تراها ضرورية بشأن تفعيل الوساطة الجزائرية”.
في 2 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، كشفت الحكومة الجزائرية من جانب واحد عن قبول السلطات النيجرية رسميًا وساطتها الرامية إلى بلورة حل سياسي للأزمة في إطار المبادرة التي تقدم بها الرئيس عبد المجيد تبون نهاية أغسطس/آب الماضي.
وأشارت الخارجية الجزائرية حينها إلى أن الرئيس تبون كلف مسؤول جهازه الدبلوماسي أحمد عطاف بالتوجه عاجلًا إلى نيامي بهدف الشروع في مناقشات تحضيرية مع كل الأطراف المعنية بشأن سبل تفعيل المبادرة.
قررت الجزائر سحب المبادرة لأنها تخشى فشلها، وهذا الفشل سيؤثر حتمًا على صورة البلاد المهتزة خارجيًا
تتركز الوساطة الجزائرية على 6 محاور كبرى، منها تأكيد ضرورة مشاركة وموافقة جميع الأطراف في النيجر دون إقصاء لأي جهة مهما كانت، على ألا تتجاوز مدة الترتيبات 6 أشهر، وتكون تحت إشراف سلطة مدنية تتولاها شخصية توافقية تحظى بقبول كل أطياف الطبقة السياسية في النيجر، وتُفضي إلى استعادة النظام الدستوري في البلاد، كما تضمنت كذلك “السعي لتنظيم مؤتمر دولي عن التنمية في الساحل تحت رعاية الأمم المتحدة كتتويج للعملية السياسية”.
تقول السلطات الجزائرية إن السلطات الحاكمة في النيجر لم تتفاعل إيجابيًا مع اتصالاتها لترتيب زيارة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج أحمد عطاف الذي أوكلت له مهمة قيادة المبادرة الجزائرية، وهو ما دفع قصر المرادية لسحب المبادرة.
حفظ ماء الوجه
لم يكن طريق الجزائر من البداية معبدًا، إذ سارعت سلطات الانقلاب في النيجر إلى إبداء بعض التحفظات على المبادرة الجزائرية، من أهمها أن مدة الفترة الانتقالية ستتحدد عبر تنظيم “منتدى وطني شامل”، عكس ما أشارت إليه الجزائر.
وكانت الجزائر قد اقترحت أن تكون مدة المرحلة الانتقالية 6 أشهر، إلا أن قائد المجلس العسكري الحاكم في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني يريد أن تكون مدة الفترة الانتقالية 3 سنوات كحد أقصى، وفق ما صرح به في 19 أغسطس/آب الماضي.
ظنت الجزائر أن المجلس العسكري في النيجر في موقف ضعف بعد أن هددته مجموعة إيكواس بالتدخل العسكري إن لم يعد للمسار الدستوري، وبعد أن فُرضت عليه عقوبات اقتصادية، فقررت التدخل علّها تقتنص الفرصة.
•النيجر🇳🇪
•الجزائر🇩🇿
*** الخارجية النيجرية تؤكد أنّها قبلت عرض الوساطة الجزائرية دون بنود المبادرة؛ خاصةً تلك المتعلقة بفترة انتقالية مدتها 6 أشهر.بحسب بيان لوزارة خارجية النيجر، فإنّ النيجر و الجزائر لم يتفقا أبدًا على ستة أشهر(6) كمدة لفترة انتقالية للمرحلة الانتقالية التي… pic.twitter.com/dE5jpDiyXO
— Idriss C. Ayat 🇳🇪 (@AyatIdrissa) October 3, 2023
في مخطط الجزائر، كانت هذه الوساطة ستقود البلاد للعودة إلى الساحة الإقليمية بقوة وتُعيد أمجاد الدولة زمن ستينيات القرن الماضي، مستغلة الانسحاب الفرنسي التدريجي من منطقة الساحل والصحراء والزخم الشعبي الكبير ضدها.
يأتي ذلك ضمن إستراتيجية تبون الذي تقلد الحكم نهاية سنة 2019، حيث أظهر الرئيس الجزائري رغبة في الخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به بلاده في العقود الأخيرة، وأبدى سعي بلاده بأن يكون بيدها الحل والربط في منطقة الساحل والصحراء، كما هو الشأن في منطقة المغرب العربي.
لكن يبدو أن الجزائر عرفت أن وساطتها ستبوء بالفشل، لذلك قررت تدارك الأمر سريعًا وسحب المبادرة مؤقتًا إلى حين توافر شروط نجاحها، فهي لا تريد الدخول في مغامرة مجهولة النهاية، حتى لا تربك خطط النظام.
قررت الجزائر سحب المبادرة لأنها تخشى فشلها، وهذا الفشل سيؤثر حتمًا على صورة البلاد المهتزة خارجيًا، فرغم مرور قرابة 4 سنوات على تولي تبون الحكم، لم يستغل الوضع ولم يستطع بعد تثبيت مكانة بلاده في الساحة الإقليمية.
وكانت الجزائر قد فشلت مؤخرًا في ضمان الانضمام إلى مجموعة إيكواس التي ضمت إلى صفوفها في قمتها الأخيرة بجنوب إفريقيا 6 دول جديدة، رغم أن تبون وحاشيته أكدوا في أكثر من مرة أن الانضمام لهذا التكتل الاقتصادي مسألة وقت لا أكثر.
يرى قصر المرادية أن التورط في الأزمة النيجرية في هذا الوقت لا يخدم مصالحه مع دول الغرب
فضلًا عن ذلك، فشلت الجزائر في حشد الدعم الدولي لبعث اتفاق السلم في مالي، كما فشلت أيضًا في تحقيق أي تقدم ملموس في وساطتها المعلنة بين الأطراف الفلسطينية، ولم تحقق أي تقدم أيضًا في وساطتها للأزمة الروسية الأوكرانية.
مع ذلك حققت الجزائر في السنوات الأخيرة بعض التقدم على المستوى الخارجي، لكن النظام حاليًّا لا يريد أن يتراجع إلى الوراء ويخسر التقدم البسيط الذي حققه في هذا المجال، خاصة أن هناك العديد من القوى في الساحة تترصد فشله للانقضاض عليه وسلخه داخليًا وخارجيًا والاستفادة من ذلك.
رغبة جزائرية لإبقاء الباب مفتوحًا مع الغرب
صحيح أن الجزائر سحبت مبادرة الوساطة خشية فشلها ولتجنب إحراج خارجي جديد هي في غنى عنه، إلا أن جزء من قرارها يُفهم منه وجود إرادة جزائرية لعدم التورط في الأزمة النيجرية التي لا يُنتظر حلها في القريب العاجل.
كما أن السلطات الجزائرية لا تريد أن تُحسب على طرف من أطراف الصراع في هذا البلد الإفريقي الغارق في الصراعات والأزمات منذ سنوات طويلة، خاصة أن الوضع متحرك وغير مستقر ولا يُعلم إلى الآن أين ستستقر الأمور.
فضلًا عن ذلك، تأمل السلطات الجزائرية من وراء هذا القرار إبقاء الباب مفتوحًا مع الغرب، خاصة بعد فشل مراهنتها على معسكر الشرق في الفترة الأخيرة، ورفض طلب انضمامها لمجموعة الإيكواس التي تضم أبرز حلفائها ونعني الصين وروسيا وجنوب إفريقيا، فضلًا عن الهند والبرازيل.
القوات المسلحة الفرنسية تخرج مطرودة من النيجر بلا عودة pic.twitter.com/k8bXGE4AjY
— Arab-Military (@ashrafnsier) October 11, 2023
يرى قصر المرادية أن التورط في الأزمة النيجرية في هذا الوقت لا يخدم مصالحه مع دول الغرب خاصة فرنسا التي بدأت أول أمس الإثنين سحب الدفعة الأولى من قواتها المتمركزة في النيجر بإشراف القوات الأمنية النيجرية.
ويأتي انسحاب الجيش الفرنسي من قواعده في النيجر بناءً على طلب حكومة المجلس العسكري في البلد الإفريقي، حيث يتمركز في النيجر نحو 1400 جندي فرنسي، في العاصمة نيامي وفي قاعدتين متقدمتين في الشمال الغربي في ولام وتباري-باري.
هذا الانسحاب العسكري الفرنسي من المتوقع أن تعقبه إضرابات أمنية كبيرة في النيجر، لذلك ارتأت الجزائر التريث قليلًا حتى تستجلي الأمر أكثر ولا تتورط في صراع له أن يربك خططها في التوسع الخارجي.