لعبوا دورًا مهمًا في انتصارات العثمانيين العسكرية وتوسيع إمبراطوريتهم، قبل أن يتحولوا لقوة اجتماعية سياسية رجعية معارضة لكل ما هو جديد، بانغماسها في الصراع السياسي ومزاولتها أعمال التجارة والاقتصاد وتراجع أدائها العسكري وتمردها على السلطة العليا، إلى أن انتهى الأمر بالقضاء عليهم فيما عُرف بمذبحة “الواقعة الخيرية” عام 1826م.
في كتابها “الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية”، تناولت إيرينا بيتروسيان، تاريخ الجيش الإنكشاري منذ تأسيسه وحتى المذبحة، وعلى الرغم من كثرة المراجع التي تناولت تاريخ الإنكشاريين، فإن معظمها سكت عن البحث في تلك الفترة منذ تأسيس الفيلق الإنكشاري وحتى أول محاولة للقضاء عليه على يد السلطان عثمان الثاني، حاولت إيرينا سد هذه الفجوة وربطت تطور أوضاع الإنكشاريين بالتطور السياسي العام في الدولة العثمانية.
لماذا وكيف تأسس الجيش الإنكشاري؟
تألف الجيش في عهد عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة العثمانية، من وحدات شبه عسكرية تشكلت بناءً على مبدأ “من كل قبيلة وحدة عسكرية”، وعند بلوغ كل فرد من القبيلة سن الرشد يصبح محاربًا، وبقي الجيش على هذا النمط القبلي حتى استلم أورخان غازي بن عثمان ثاني سلاطين الدولة العثمانية، السلطة في 1324م، فاستأنف سياسة والده الاستعمارية بمزيد من القوة، فسعى إلى تقوية التنظيم العسكري للعثمانيين، ودفعته إجراءات حصار القلاع الكثيرة بشكل مستمر ولمدد طويلة إلى تأسيس جيش المشاة “يايا” – بشكل مستقل عن الوحدات شبه العسكرية القبلية – الذين كان يجندهم من الفلاحين سكان المدن الخاضعة، وكانوا يقبضون أجورًا معفية من الضرائب نظير خدمتهم العسكرية، وبعد انتهاء الحرب كانوا يعودون لأوطانهم لممارسة الزراعة.
في عهد مراد الأول، ابن أورخان، ضم إلى الجيش الإنكشاري الجديد الشباب المسيحيين أسرى الحروب من أبناء البلاد المختلفة التي وقعت عليها الغزوات، فكان ضمن الإنكشاريين الأوائل أسرى البلغاريين والصرب واليونانيين
ساعد “يايا” الدولة العثمانية على ترسيخ وتطوير تنظيمها العسكري، لكن عندما بدأ عدم الانضباط يسود هذا الجيش، سمح أورخان لأبناء الفلاحين، الذين تبدو عليهم ملامح الرجولة، باللحاق بجيش المشاة بعد اعتناقهم الإسلام، وخلال سنوات جنّد منهم نحو ألف شخص وشاركوا في عمليات القتل والحصار وخُصصت لهم أجور ثابتة، هؤلاء مثلوا نواة الجيش الجديد جيش “يني تشيري” – ومنها كلمة الإنكشارية – الذي لم يزاحم جيش “يايا” في البداية حيث كان يتطور بموازاته.
في عهد مراد الأول، ابن أورخان، ضم إلى الجيش الإنكشاري الجديد الشباب المسيحيين أسرى الحروب من أبناء البلاد المختلفة التي وقعت عليها الغزوات، فكان ضمن الإنكشاريين الأوائل أسرى البلغاريين والصرب واليونانيين، وهنا سجلت إيرينا ملاحظة فتقول إن تضارب الآراء عن نسب إنشاء الفيلق الإنكشاري إلى أورخان أو مراد الأول يعود إلى طول فترة تكوين الجيش الجديد التي امتدت بين عهدهما، لكن المؤكد أنه تكون على يد أورخان وتشكّل بصورة نهائية في عهد مراد الأول، حين توسعت فتوحات العثمانيين في الأراضي الأوروبية.
دور الإنكشاريين في توسع الإمبراطورية العثمانية
نشأ أفراد الجيش الجديد في أجواء عسكرية خالصة، لا مكان فيها لمُتع الحياة، فكل ملتحق بالجيش الإنكشاري، بعد اعتناقه الإسلام، تُقطع صلته بأهله وبيئته الثقافية، وخضعت عمليات تدريبهم – التي كانت تتم في مدينة أدرنة – وبناء قدراتهم القتالية لمعايير صارمة، تحت إمرة “الأغا” رئيس الفيلق الإنكشاري، كما تأثر الإنكشاريون بالطريقة الصوفية “البكتاشية” التي ألزمتهم تعاليمها بالإحجام عن الزواج.
لم يتم تشكيل الجيش الإنكشاري لأغراض عسكرية حربية فقط، فاختص أيضًا بتنفيذ واجبات حرس السلطان الشخصي، ولم يكن هناك صدامًا في البداية بين المصالح العسكرية والسلطة السياسية، حيث كان عدد جنود الفيلق قليلًا، ويخضع لمراقبة السلطة العليا
ساهمت هذه النشأة الصارمة في تكوين قدراتهم القتالية العالية، فكانوا أداة قوية في يد العثمانيين في أغلب معاركهم التوسعية، فحاربوا بقوة مع مراد الأول في غزواته، حتى قُتل في معركة حقل كوسوفو 1389م، كما شاركوا في الحملات على الممالك التركية، وأظهروا شجاعة كبيرة في معركة أنقرة 1402م ضد جيش القائد التتري تيمورلنك، والتي انتهت بمقتل السلطان بايزيد الأول.
كما شارك الإنكشاريون في الإنجاز العثماني الأبرز، وهو فتح القسطنطينية مع محمد الفاتح، وكانت مهمتهم حفر الأنفاق، ويعتبرون أول من دخل المدينة، وكشف هذا الفتح عن قوة الجيش التركي وقدرته على القيام بالمهمات الحربية، كما شاركوا بعد فتح القسطنطينية في كل حروب العثمانيين في أوروبا وآسيا الصغرى، وبرعوا فيها فنالوا امتيازات كثيرة، كذلك شاركوا في القضاء على دولة المماليك نهائيًا.
الانشغال بالسياسة والاقتصاد.. بوابة هلاك الإنكشاريين
لم يتم تشكيل الجيش الإنكشاري لأغراض عسكرية حربية فقط، فاختص أيضًا بتنفيذ واجبات حرس السلطان الشخصي، ولم يكن هناك صدام في البداية بين المصالح العسكرية والسلطة السياسية، حيث كان عدد جنود الفيلق قليلًا، ويخضع لمراقبة السلطة العليا.
بدأت الأمور في الانحراف عندما أدرك الإنكشاريون أهميتهم الاستراتيجية في توطيد أركان الحكم العثماني، بعد استخدامهم من قِبل المتصارعين على السلطة في حسم نزاعهم، مثلما فعل السلطان مراد الأول في حسم نزاعه على السلطة ضد أخوته، كذلك اُستخدموا في النزاع بين أبناء بايزيد، وبعد أن استتبت الأمور لمحمد بن بايزيد أخضع من خلالهم الممالك المتمردة.
كما ثبّت الإنكشاريون تثبيت حكم مراد الثاني ضد محاولات سلبه العرش بعد وفاة والده، وبعد وفاة مراد الثاني استخدمهم محمد الثاني “الفاتح” في إخضاع الممالك المتمردة، وبعد انتصارهم تمردوا مطالبين بمزيد من المزايا المالية، وكان هذا التمرد بداية لتمردات كثيرة هدفها مادي، وعندما توفي السلطان سليمان عام 1566م وخلفه سليم الثاني، لم يُمكِّنه الإنكشاريون من دخول القصر إلا بعد أن وعدهم بزيادة أجورهم.
منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأ الإنكشاريون ينجذبون إلى أعمال تتعارض مع واجباتهم العسكرية، فتدفقوا إلى مجالات الصناعة والتجارة والمضاربة، وأصبح كل إنكشاري يمتهن حرفة ما
هذا الحسم الإنكشاري لمسألة المُلك داخل الإمبراطورية العثمانية، عظّم قوتهم وزاد من استقلالهم عن إرادة الدولة، فتكررت تمرداتهم بعد أن آمنوا العقاب، وأظهروا كثيرًا من عدم الانضباط والنهب والهرب من الخدمة والتعسف ضد الناس، فانعكس كل ذلك على أداء الجيش، الذي تراجعت قدراته القتالية ومُني بهزائم كثيرة، ووصل الأمر بالإنكشاريين إلى رفض أوامر السلطان مثلًا بالحملات على الشرق بحجة ضعف المقدرات المالية، وبعد أن كانوا يستدعون في النزاع السياسي بادروا هم بالتدخل، فأضحت التبدلات في المناصب خاضعة لرغبة الجيش، فظهر ضعف السلطة العليا في مواجهة الجيش الذي أصبح في أواخر القرن السادس عشر القوة السياسية الحاسمة في الدولة، مما خلق تناقضًا بين أهداف سياسة السلطة ومصالح هذه الطبقة العسكرية.
ومن ناحية أخرى، ومنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأ الإنكشاريون ينجذبون إلى أعمال تتعارض مع واجباتهم العسكرية، فتدفقوا إلى مجالات الصناعة والتجارة والمضاربة، وأصبح كل إنكشاري يمتهن حرفة ما، مثل بيع الأطعمة والجزارة وصنع الخبز، وانتشرت الرشاوى داخل الفيلق، فتسلل الغرباء غير المدربين عسكريًا إليه في مخالفة واضحة لقواعد الانضمام الصارمة، كما احترف الأغا الإنكشاري الحصول على رشاوى مقابل ترقي الضباط وزيادة رواتبهم.
هذه الاستهانة السافرة بالواجبات العسكرية والانشغال بالكسب الإضافي والأعمال الاقتصادية أفقدت التنظيم الخبرات القتالية لامتناع أفراده عن التدريبات العسكرية المستمرة، وبمرور الوقت انتشر الاشمئزاز بين الإنكشاريين من الأعمال العسكرية كحرفة، فأصبحوا معنيين فقط برفع أجورهم ودخولهم، وبصفتهم قوة اجتماعية منظمة ومسلحة في المجتمع كافحوا بقوة في سبيل مصالحهم المادية.
فلما حلّت على البلاد أزمة اقتصادية في النصف الأخير من القرن السادس عشر مُني الإنكشاريون – كبقية المجتمع – بعواقب هذه الأزمة، فتحولوا إلى أكثر العناصر الاجتماعية اضطرابًا، فكانوا يلجأون للتمرد في كل مرة يتم فيها العبث بامتيازاتهم الاقتصادية.
مع تولي عثمان الثاني (1618م – 1622م) السلطنة، وبعد أن تعرض الجيش للهزيمة في حملته على بولندا 1621م بسبب تراجع أداء الفيالق الإنكشارية، بدأت المحاولة الأولى للإصلاح العسكري في الدولة
نزاع السلطة العليا والإنكشاريين
أدى انغماس الإنكشاريين في أمور السياسة والاقتصاد، منذ أواسط القرن السادس عشر، وحرصهم على تحويل أنفسهم لطبقة مستقلة بامتيازاتها عن بقية المجتمع تسعى فقط لتزويد دخلها، بجانب السماح لهم بالزواج، وتسلل الغرباء إلى التنظيم، أدى إلى تغير بيئته النفسية وفقدان خصاله العسكرية المحترفة، مما قلّل من فعاليته الحربية.
ونتيجة لفقدان الثقة في القدرات العسكرية للجيش، كان سليم الثاني (1566م – 1574م) أول سلطان عثماني لا يشارك رسميًا في الحملات العسكرية، وشكّل ذلك خطرًا كبيرًا على السلطة العليا، لما يعنيه من تفويض نفوذ السلطان للجيش، فنال عدم وجود نشاط حربي للسلطان من سمعته، وخلق أزمة سياسية على إثرها بدأت الاضطرابات الاجتماعية، وتوقفت الفتوحات، ولم يعد الفيلق الإنكشاري بنية تنظيمية حربية واقعة تحت مراقبة جادة من السلطة العليا، فشكل أفراده في ثكناتهم خطرًا اجتماعيًا غير خاضع للقيادة، وتحولوا لقوة سياسية متمردة، وقادرة على التأثير في تداول السلطة العليا نفسها، وتصاعدت أزمة تلك الأخيرة مع الجيش الإنكشاري بعد أن وصلت لمرحلة اللاعودة بفشل كل محاولات إصلاحه.
فمع تولي عثمان الثاني (1618م – 1622م) السلطنة، وبعد أن تعرض الجيش للهزيمة في حملته على بولندا 1621م بسبب تراجع أداء الفيالق الإنكشارية، بدأت المحاولة الأولى للإصلاح العسكري في الدولة، فعزم على تبديل القوات الإنكشارية الضعيفة بالتشكيلات العسكرية في مصر، والتشكيلات الجديدة من الرماة والمشاة التي بدأ تجنيدها في إسطنبول، فقاوم الإنكشاريون ذلك، واقتحموا قصر السلطان، وعندما طلب منهم الأغا الإنكشاري الخضوع للسلطان قتلوه، ثم وقع في أيديهم السلطان نفسه فداروا به في المدينة على فرس وأرغموه على ارتداء ملابس مبتذلة موجهين له الإهانات أمام العامة، وخلعوه، وهكذا انتقم الإنكشاريون من عثمان الثاني على محاولته الإصلاحية.
كان خلع الانكشاريين للسلطان بهذه الطريقة شهادة على نهاية التطور الذي سلكه الجيش على مدى التاريخ العثماني، فقد تحول الإنكشاريون من السند الأول للسلطة العليا إلى قوة اجتماعية مستقلة مواجهة لها وغير قادرة على تنفيذ واجباتها العسكرية، فكانت أول مرة يتجرأوا فيها على خلع السلطان، صحيح كان يحدث قبل ذلك أن يتدخلوا في قضايا النزاع بين أفراد الأسرة الحاكمة مؤيدين ذلك معارضين لهذا، ولكن هذه المرة الأولى التي يكون فيها النزاع بين الإنكشاريين والسلطان بعد أن أدرك مدى انحلال الجيش، فأظهرت هذه الحادثة التناقض الفج بين المنظمتين الاجتماعيتين: سلطة السلطان وسلطة الجيش، وقد عمقت أزمة السلطة المركزية هذا التناقض وأوصلته إلى العداء.
عندما تولى السلطان محمود الثاني السلطة في 1808م، كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش حالة غير مسبوقة من الضعف، بعد أن فقدت كثيرًا من الأراضي التابعة لها بعد سلسلة هزائم عسكرية
ظل الفيلق الإنكشاري طول القرن السابع عشر أحد أبرز العوامل المُخلة في الدولة العثمانية، بإعاقته التطور السياسي في الدولة والحفاظ على الأنظمة الاجتماعية السائدة، واتجاه فاعليته إلى الحفاظ على امتيازاته، ومع استحالة إصلاحه خشية تمرده ولأنه جزء مهم من التنظيم العسكري للدولة نشر الفوضى في بقية الفيالق، فأدى ذلك الوضع لمزيد من الهزائم العسكرية، والانهيار الاقتصادي بعد أن تسببت إعالة الجيش المأجور في إفلاس خزينة الدولة باستمرار.
نهاية الإنكشاريين.. مذبحة “الواقعة الخيرية“
عندما تولى السلطان محمود الثاني السلطة في 1808م، كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش حالة غير مسبوقة من الضعف، بعد أن فقدت كثيرًا من الأراضي التابعة لها بعد سلسلة هزائم عسكرية، فرأى ضرورة تطوير الجيش العثماني وتحديث جميع فرقه وأسلحته بما فيها بالطبع المجموعات الإنكشارية، لما أصابها من انحلال وتراجع، ولأنه يعلم أن كل محاولات الإصلاح السابقة فشلت، حاول في البداية إقناعهم بضرورة ذلك التطوير، لكنهم رفضوا، فلجأ إلى سياسة الإصلاح الجزئي بإنشاء فرق عسكرية بديلة على نمط حديث.
وبعد شعور الإنكشارية بأن عملية تبديلهم وتفريغهم من سلطاتهم تتم بالفعل، أعلنوا تمردهم وانطلقوا غاضبين في مدينة إسطنبول، فهاجموا المنازل وحطموا المحلات التجارية، هُنا اتخذ السلطان قرارًا نهائيًا بالقضاء على الفيالق الإنكشارية، في ذلك الوقت كان سلاح المدفعية أُعيد تنظيمه وتدريبه، فاستدعاه بجانب عدة فرق عسكرية أخرى استعدادًا للمذبحة.
وفي يونيو 1826م، وبينما كان يحتشد الإنكشاريون المتمردون بميدان الخيل بإسطنبول، داهمتهم قوات السلطان وحاصرت فرقة المدفعية الميدان، وسلّطوا مدافعهم عليهم من كل الجهات، فحصدوهم، وسقط 6 آلاف جندي إنكشاري في هذه المذبحة التي سُميت بـ “الواقعة الخيرية”.
وفي اليوم الثاني للمذبحة أصدر محمود الثاني قرارًا بإلغاء الفيالق الإنكشارية تمامًا، وهكذا أُسدل الستار على الجيش الإنكشاري الذي فتح للعثمانيين قلاعًا كثيرًا ما كانت عصّية على الفتح.