“الفتنة” أكثر كلمة على الإطلاق يتم تداولها وترديدها في مجتمعاتنا الخليجية لا سيما في مجتمعنا السعودي، وتبلغ ذورة استخدامها في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية، ولأنها وردت في الكتاب والسنة، فقد جرى توظيفها توظيفًا خبيثًا في الخطابين الشرعي الإعلامي.
يبدأ الاستعمال الشائع لكلمة “الفتنة”
دائمًا عندما يبدأ الناس باستنكار فساد السلطة واستبدادها
يبدأ الاستعمال الشائع لها دائمًا عندما يبدأ الناس باستنكار فساد السلطة واستبدادها، أو في حالة انتقاد سوء إدارتها وفشلها وتقصيرها، فيأتي من يحذّر من الفتنة، وتتناثر الاتهامات على منتقديها من كل اتجاه.
وللأسف كثير من العامّة خُدِعوا بهذا الأمر، والسبب أنَّ هناك لَبس أو بالأحرى تلبيس متعمَّد وقع بشأن مفهوم الفتنة، فقد زرع الإعلام وشيوخ البلاط في عقول الناس أن الفتنة نتيجة لمطالبة الناس بحقوقهم وإنكارهم على المسؤولين.
حين يطالب الناس بزيادة رواتبهم أو عدم رفع الدعم عنهم أو وقف الفساد، ونحو ذلك، يخرج من يقول لهم: “اصبروا واسكتوا، هل تريدون أن تنتشر الفتنة في بلادنا ونصبح مثل سوريا؟”
ولأجل تعزيز هذا “التدليس والاستغفال” وتخويف الناس من عواقب “الإنكار على الظلم والفساد”، جرى استغلال ما يحدث في سوريا أبشع استغلال، فمثلًا حين يطالب الناس بزيادة رواتبهم أو عدم رفع الدعم عنهم أو وقف الفساد، ونحو ذلك، يخرج من يقول لهم: “اصبروا واسكتوا، هل تريدون أن تنتشر الفتنة في بلادنا ونصبح مثل سوريا؟” وهكذا تم قمع كل المطالبات المشروعة تحت شعار “الخوف من الفتنة”.
والحقيقة أن ما حصل ويحصل في سوريا وليبيا والعراق واليمن، ليس نتيجة الاعتصامات السلمية أو مطالبة الناس بحقوقهم وحريتهم، وإنما الذي أحدث الفتنة هو الذي ضربهم بالصواريخ ونكّل بهم وشردهم، وآثر تدمير بلده على إعطاء مواطنيه حقوقهم.
“الفتنة” هي أن يستأثر مجموعة لصوص بالثروات، ويتركون شعوبهم غارقة في بحار الفقر والبطالة والديون، إلى أن تنفجر بشكل طبيعي
“الفتنة” هي السكوت عن الظلم والفساد والسرقات حتى تكبر وتنمو وتصبح جزءًا من ثقافة المجتمع، “الفتنة” هي أن يستأثر مجموعة لصوص على الثروات، ويتركون شعوبهم غارقة في بحار الفقر والبطالة والديون، إلى أن تنفجر بشكل طبيعي، لذلك يقول الكواكبي: “الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًا”، وهذا ما حصل بالضبط في سوريا وتونس ومصر وغيرها، انفجر الناس نتيجة الاستبداد الذي ضغط عليهم لعقود.
وممّا جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة}، فالفتنة في هذه الآية بنَصِّها هو “العذاب” الذي يصيب الناس بسبب سكوتهم عن الظلم وعدم أخذهم على يد الظالم، فهذا العذاب لا يصيب الذين ظلموا فقط، وإنما يعمّ كل من رأى هذا الظلم وسكت عنه، ويؤكد هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الناسَ إذا رأوا الظَّالِمَ فلم يأخُذوا على يَدَيْهِ أوشكَ أنْ يَعُمَّهُمْ اللَهُ بعقابٍ منه”.
يجب على الناس أن يدفعوا الظلم ويرفضوا الفساد، لا أن يسلِّموا له وبه، لأنه كلما طال كانت ضريبة رفعه باهضة ومرتفعة
لذلك يجب على الناس أن يدفعوا الظلم ويرفضوا الفساد، لا أن يسلِّموا له وبه، لأنه كلما طال كانت ضريبة رفعه باهضة ومرتفعة، وعلى المثقفين والمفكرين والعلماء المطالبة بمنع الأسباب الحقيقية للفتنة، فالمظاهرات الاعتصامات وما إلى ذلك، إنما هي نتائج للفتنة وليست أسبابًا لها.