لسنا نخذله أو نعلّمه أو نمنّ عليه مظاهرة سرنا فيها أو كلمة كتبناها (وليت ذلك يخفف عنا عار العجز)، فهو السابق إلى شرف الجهاد، لكنه في ضيق لحظته يرنو إلى عرب يتظاهرون إسنادًا، وربما حدثته نفسه وهو تحت النار أن يعوّل عليهم، لكننا خبرناهم وخبرنا صدقهم ونودّ أن ننصح له ألا يلتفت إلى هذا الجمهور، وأن يعتمد على ربه وذراعه.
في نصيحتنا له نودّه أن يطرح السؤال الآن وغدًا -فللفلسطيني غد بل غد باهر- عن صدق متضامن عربي يناصر بشار والسيسي وحفتر وهم يقتلون شعوبهم، فيقرّهم على ما يفعلون ويمتدح فعلهم ثم يقوم متظاهرًا مع الفلسطيني المقهور، هل بين القتيلَين فارق وهل بين القتلة فارق؟
تراكمات دالة وجبت قراءتها
أنتمي إلى الجيل الذي تظاهر مع قضايا الفلسطينيين والعرب منذ أكثر من 40 عامًا، وما زلت أجد نفسي في النقطة نفسها التي انطلقتُ منها تلميذًا في مظاهرة أولى، وأقول الآن بوعي تاريخي لم يؤثر صوتي ولا أصوات ملايين مثلي، فنحن كنا ولا نزال ملايين في أي واقعة دامية أصابت العرب من المشرق إلى المغرب.
عبر الزمن تحول التظاهر إلى عملية تنفيس للمتظاهرين، يخفّفون بها وزرًا أو يخفّفون بها ضغطًا نفسيًّا، أو يريحون بها ضميرًا منافقًا من نفاقه، فلقد سرنا مع منافقين ظننا بهم خيرًا، حتى كشفتهم الديمقراطية ومنهم الاتحاد العام التونسي للشغل.
لذلك نتابع الآن غزوة غزة 2023، ونتضامن صوتيًّا أو كتابة وهذا دون أضعف الإيمان، لكننا نراجع الجدوى ونتساءل عن البدائل، وقد يقنا ألّا صوت لنا ولا وزن ولا اعتبار في بلداننا، فما بالك بالعالم الذي يشنّ الحرب ويسندها بحاملات الطائرات.
التظاهر مع الفلسطيني لا ينصره ولا يزعج الأنظمة التي تخذله، وقد دأب بعضها مثل النظام الأردني على السماح للشارع المتوتر بتنظيم مليونياته في كل اشتباك في الأرض المحتلة، ثم تعود الملايين راضية إلى مواقعها، ولا ندري ما إذا كان فيها من يطرح السؤال عن النتيجة والأفق وبالتالي عن الجدوى.
يقول البعض إن التظاهر دليل فعّال على حيوية الأمة وعدم استسلامها للقهر، فهي حاضرة بصوتها في كل مصيبة، وهذا سطح شفيف يخفي باطنًا مريضًا، الصوت وإن ارتفع ليس دليل قوة وإن دلَّ على وجود حياة، ولا جدوى من حياة دون قوة، فهذه حرب إبادة من خرج منها حيًّا حكم العالم.
سيقول البعض ما هو البديل إذا سكتنا، وأنا لا أقول بالصمت وبالموت بل بقراءة ما فعل العرب منذ النكبة حتى غزوة غزة 2023.
غربلة الصفوف بالديمقراطية
انتهى بغزوة غزة 2023 دور المظاهرات المليونية التي تدوم ساعات وتبرد مثل كوز ذرة، لأن تأثيرها غير محسوس على الأنظمة وعلى من نصب الأنظمة فوق رؤوس العرب، وجب توجيه الجهد الجماعي نحو استعادة الديمقراطية في كل قطر عربي، طبقًا لمعادلة بسيطة وواضحة: الديمقراطية تأتي بأنظمة منتخَبة، والمنتخَب يحاسَب على مواقفه بالشارع (نعم)، ومن مواقفه الواجبة فتح المعابر وتوصيل الدعم بما فيه الدعم البشري (أي وضع الجمهور العربي على الجبهة)، رغم أن الفلسطيني “مكفّي وموفّي” من ناحية العدد.
في وضع حكم ديمقراطي يمكن للشارع أن يحاسب المتخاذل والعميل، وأن ينظّم المقاطعة ضد الشركات الغازية التي هي جوهر قوة الإسناد الغربي للكيان الغاصب، هذا وضع مثالي (حالم ربما) لا يتحقق في سنة أو عشرية، لكنها الطريق الوحيدة وقد جربَتْ فصحَتْ وأرعبَتْ فتمّت الانقلابات عليها.
في الديمقراطية لا يمكن المرء أن يناصر أنظمة القتلة مثل السيسي وبشار ويتظاهر مع فلسطين، لأن المناخ الديمقراطي يسمح بتصفية النفاق السياسي، فإما أن تكون فعلًا وقولًا مع الديمقراطية أو لا تكون، والبداية من القطر لا من غزة.
في نظام حكم منتخب يمكن للنظام أن يفاوض مسنودًا بشعبه على ترتيب ولاءاته وتحالفاته الخارجية، ولا يخضع لإملاء أمريكي أو غربي ومراكز القوة في العالم تتعدد وتتنوع، فضلًا عن وجود احتمال إنضاج القوة الداخلية المغنية عن الحلف الخارجي (وإن كان هذا لا يزال بعيدًا).
هل هذا من الأحلام؟ نعم، لكن من كان يظن أن يخرج فلسطيني قضى 70 عامًا تحت القهر الصهيوني بسلاحه فيثخن في عدوه. إذا كان هناك من دروس ومن تضامن مع غزة، فليكن هذا الدرس الوحيد وحفظ الشرف للمبادر. أن تتضامن مع غزة الآن هو أن تتعلم درس العزيمة والإصرار، وما أوهن بيوت الأنظمة العربية المعادية للديمقراطية، وقد جربناها ذات ربيع عربي.
في الطريق إلى الحلم
في طريق التحرير نقول للفلسطيني اعتمد على نفسك وعلى قوتك الذاتية، وعلى قلة مؤمنة بعضها يبكي معك صادقًا، ولو فتحت له الطريق لوجدته ينظف لك الطريق نحو التحرير الشامل، وبعضها يخطط ويساعد بما فتح له من سبل، لكن احذر كثيرًا من تضامن بعض العرب الذين يظهرون في المناسبات فيزايدون عليك بالشجاعة، ومنهم بل في مقدمتهم فصائل اليسار العربي وقطعان العرب الشبيحة، وجميعهم أنصار قاتلوا الفلسطينيين في مخيمات الشتات بسوريا ولبنان، وقتلوا من أهلك أكثر ممّا قتلوا من العدو.
هؤلاء أعداؤك وهم الآن في الشارع معك ويعبثون باسمك فلا يسمّونك خوفًا من حقيقة جهادك، لقد قضوا 50 سنة يتحاربون على طبيعة دولتك القادمة، هل تكون عربية أم فلسطينية فقط، وهل تكون علمانية يسارية أم ليبرالية، وكنت طيلة الـ 50 سنة ترزح تحت الاحتلال، وهم يخططون لك ما عليك فعله ولا يمدّون لك كسرة خبز في الأرض المحتلة أو في الشتات.
غزوة غزة تعلمنا ووجب أن نتعلم أن من يناصر دكتاتورًا عربيًّا لا يمكن أن يصدق في تضامنه مع الفلسطيني، بل هو عدو وإن نزل الشارع منافقًا، أيها الفلسطيني على الجبهة ويدك على الزناد اعتمد على نفسك، فقد وفرت لمن خلفك فرصة جبّارة لفرز الأعداء في الداخل، وعلى من يصدقك القول أن يشكرك أيضًا على هذه الفرصة الجبارة للفرز. لقد حررتنا من خونة الداخل.