شكّلت عملية “طوفان الأقصى” التي دشنتها كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صدمة في بدايتها على الصعيد العملياتي والأمني والعسكري بالنسبة إلى الحلفاء قبل العدو الإسرائيلي، نظرًا إلى السرية والدقة في التنفيذ.
“حماس سعت للحصول على صورة نصر إلا أنها عادت بألبوم كامل”، كان هذا هو الوصف الذي أطلقه المحلل الإسرائيلي الشهير بن كسبيت، في وصفه للهجوم الأولي الذي نفذته حركة حماس على المواقع والمستوطنات المحاذية لغلاف غزة خلال الساعات الأولى له.
إلا أنه وبعد الهجوم المفاجئ الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية واستعادة الاحتلال الإسرائيلي لحالة التوازن نوعًا ما، وما أقدم عليه من تدمير لأغلب الأحياء في القطاع والتركيز على ضرب البنية التحتية، بدأت بعض الأسئلة تطرح على الطاولة، لعلّ من أبرزها “هل قفزت المقاومة في الظلام؟”.
وللإجابة عن هذا السؤال يجب استحضار مجموعة من العوامل، لعلّ من أبرزها السلوك الميداني الإسرائيلي في المسجد الأقصى، وتصاعد الانتهاكات إلى وتيرة غير مسبوقة أو معهودة، وصلت حدّ نفخ البوق داخل المسجد الأقصى والاعتداء على الأسرى في السجون.
وإلى جانب هذا الأمر، كان الاحتلال يلوح بسلسلة من الاغتيالات التي قد ينفذها بحقّ قيادات في المقاومة الفلسطينية في لبنان وغزة، على خلفية العمليات التي نفذتها المقاومة في الضفة والقدس المحتلتَين خلال الفترة الماضية، والتي استفزت المنظومة الأمنية.
في الوقت ذاته، فإن المذهل في الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول أنه كان خاطفًا، ولم يتمكن الاحتلال من اكتشاف الضربة الأولى أو معرفة تفاصيلها وساعة الصفر، رغم حشد المقاومة لنحو 1000 مقاوم من البر والبحر والجو لتنفيذ عمليتها الهجومية.
غير أن هذا الأمر يطرح مجموعة من الأسئلة، أبرزها هل كان لدى المقاومة الفلسطينية رؤية لما سيحدث؟ هل لديها قدرة على تحمُّل هذه التكاليف؟ هل كان قرارها مدروسًا بكل أبعاده ومضاعفاته؟ وفي ظل التواطؤ الدولي مع الاحتلال الإسرائيلي، على من يعتمد الفلسطينيون؟ وإلى جانب الأسرى وضرب المدن المسلوبة المستعمرة، ما الأدوات أو الخيارات السياسية والعسكرية الأخرى التي يمكن أن توجّهها المقاومة تجاه الاحتلال؟
قراءة من عدة زوايا
حتى ندرك أبعاد ما حدث وأسباب الهزيمة المخزية للاحتلال، يجب معرفة التأثير الكبير للأزمة الداخلية العميقة التي تعيشها دولة الاحتلال في ظل الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، ومساعيها إلى تغيير السمة الخاصة لتصبح دولة ذات طبيعة دينية مسيطَر عليها من أحزاب دينية.
وإلى جانب ذلك، إن ما حصل يعكس كفاءة المقاتل الفلسطيني وشجاعته وتقدمه، وامتلاكه قدرة قيادية بيّنت قدرات على التخطيط والقيادة، والسيطرة والتحكم، والتمويه والتشويش، وكذلك على الخداع الاستراتيجي والاستخباراتي، وهو ما تحقق بفضل عمل وتخطيط مستمرَّين.
وقبل الخوض في الأسئلة، يجب الإشارة إلى ما حققته الضربة الأولى التي تجاوزت في مجموعها 1200 قتيل من المستوطنين والجنود والضباط، إلى جانب أسر العشرات، وسط تقديرات غير رسمية بوجود أكثر من 100 أسير إسرائيلي داخل القطاع لدى المقاومة الفلسطينية.
ومع الولوج إلى الواقع، يجب الإشارة أولًا إلى أنه من المستبعد أن تكون المقاومة قد أقدمت على خطوة العملية هذه، دون إدراك مسبق بالنتائج والعواقب التي قد تدفعها الجبهة الداخلية والحاضنة الشعبية للمقاومة في غزة، على اعتبار أنها ضبطت نفسها عدة مرات منذ عام 2021.
وتشكّل الحالة التي فرضتها المقاومة الفلسطينية في غزة منذ معركة “سيف القدس” عام 2021، أحد أوجُه التحدي مع الاحتلال، وهو ما تكرر في عدة مرات، سعت حركة حماس فيها لتثبيت معادلة “القدس خط أحمر”، فيما بقيت تناور وتلوح بالقوة العسكرية عدة مرات.
أما بالسؤال عن القدرة على تحمُّل هذه التكاليف، فإن ثمة عوامل تطفو إلى السطح هنا، أبرزها الثمن الذي كانت تتحمله المقاومة طوال فترة الصبر من انتقاد من حاضنتها الشعبية، وانتقاد الخصوم السياسيين والاتهام بالتنازل عن المقاومة مقابل التسهيلات الاقتصادية.
وشكّل هذا الأمر مصدر ضغط على المقاومة خلال عامَين، كانت تراكم فيهما القوة وتعمل على تطوير القدرات من أجل الاستعداد للمواجهة وتنفيذ عملية هجومية، توجّه فيها أكبر إساءة لوجه الاحتلال، وتحطم فيها أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” التي لطالما تم الترويج لها.
وللمقارنة، فإنه وحينما نقارن “طوفان الأقصى” بما حدث من معارك وجولات عسكرية وعمليات مقاومة منذ عام 2005 وحتى الآن، يظهر أن الاحتلال خسر خلال 18 عامًا نحو 400 قتيل، بينما سقط منذ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول فقط، باعتراف المصادر الإسرائيلية، حتى كتابة هذه السطور أكثر من 1200 قتيل، وسط تقديرات بأن العدد سيصل إلى 1500 قتيل مع أكثر من 2200 جريح، المئات منهم حالتهم خطرة، ووقع في الأسر ما بين 100 و150 أسيرًا وأسيرة من ضمنهم مجندات وجنود وضباط وقادة.
ومن أجل المقارنة، يُشار إلى سقوط 650 قتيلًا إسرائيليًّا في حرب حزيران 1967 التي خاضتها 3 بلدان عربية، والعدد نفسه في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وأكثر من 1000 قتيل في عمليات تحرير الجنوب اللبناني خلال 18 عامًا، أما في انتفاضة الأقصى فسقط خلال 4 أعوام نحو 1100 قتيل إسرائيلي.
أسباب وعوامل.. لماذا “طوفان الأقصى”؟
تطرق محمد الضيف “رجل الظل”، الذي يصفه الاحتلال بهذا اللقب، في كلمته التي أعقبت العملية إلى مجموعة من الأسباب والعوامل التي سنرصدها في “نون بوست” بنوع من التفاصيل، لعلّ من أهمها وأبرزها:
- تولي الحكومة الحالية للاحتلال الحديث عن تبديل شكل الصراع مع الفلسطينيين بالحديث عن “حسم الصراع” بدلًا من إدارته.
- استمرار إحكام الحصار على قطاع غزة وإبقاؤه بين الموت والحياة وأكبر وأطول سجن في التاريخ، وفرض معادلة هدوء مقابل تسهيلات اقتصادية، وخرق التفاهمات الرامية إلى تخفيف الحصار باستمرار، وعدم الاعتراف بحركة حماس والتلاعب بها من خلال تخفيف الحصار بالقطّارة، وسحبها متى تشاء حكومة الاحتلال؛ ما أدى إلى تدهور وضع قطاع غزة إلى حد أنه كان على حافة الانهيار.
- زيادة عدد المعتقلين والأسرى بمعدلات كبيرة، وسنّ القوانين العنصرية وتشديد القمع والعقوبات ضدهم على يد الوزير الفاشي إيتمار بن غفير، حتى وصل عدد المعتقلين إداريًّا إلى أكثر من 1200 معتقل، ويمضي الكثير منهم فترات طويلة وطويلة جدًّا، في ظل مراوغة الحكومات الإسرائيلية طوال 9 سنوات (منذ العام 2014) من دون إتمام صفقة تبادل أسرى جديدة.
- تقدُّم المباحثات السعودية الإسرائيلية، برعاية أمريكية، للتوصل إلى صفقة تطبيع تتجاهل القضية الفلسطينية، من خلال التعامل معها بوصفها قضية إنسانية.
كل هذه الأسباب دفعت نحو تفجير “طوفان الأقصى” من جديد بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية، التي رأت أن الساحة مهيَّأة لتفجير المواجهة مع الاحتلال من جديد، لتثبيت معادلات جديدة تقوم على “القصف بالقصف” و”الأسر بالأسر” و”التهجير بالتهجير” وفرض واقع جديد.
ما الأدوات أو الخيارات السياسية والعسكرية؟
يمكن القول إن ثمة خيارات عسكرية تمتلكها المقاومة الفلسطينية، أبرزها إشعال الجبهات من لبنان والضفة الغربية المحتلة إلى جانب توسعة رقعة النار من القطاع، سواء عبر الصواريخ التي تطلق بشكل يومي أو المدى الناري الذي يتم إطلاق النار عليه يوميًّا.
وبالتوازي مع ذلك، إن لهذه الخيارات العسكرية عوامل ضغط، خصوصًا مع استمرار تواجد المستوطنين داخل الملاجئ نتيجة الرشقات الصاروخية اليومية التي تطلقها المقاومة الفلسطينية، والتلويح بتنفيذ المزيد من عمليات الإنزال يوميًّا من البر والبحر والجو.
ويمكن القول إن الحركة قد تلجأ إلى فتح جبهة من الحدود الشمالية من خلال الوحدات الموجودة لها على الأراضي اللبنانية، وتقدم على إطلاق رشقات صاروخية بالتنسيق مع “حزب الله” اللبناني، في إطار التخفيف من الضغط عليها على صعيد جبهة قطاع غزة.
وإلى جانب هذا، تمتلك الحركة تحالفات سياسية مع إيران وما يعرَف بـ”محور المقاومة”، وهو الأمر الذي قد يدفع به نحو التدخل سياسيًّا وعسكريًّا في إطار تخفيف الضغط وإشعال جبهات متعددة، دون ولوج الأمريكيين في المواجهة خلال المدى القريب وخلال الفترة الحالية.