منذ نحو 12 قرنًا، تحديدًا في أول أيام شهر رمضان الكريم من سنة 245 هجرية، الموافق 30 من نوفمبر 859 ميلاديًا، تم بناء أقدم جامعة في العالم، على يد امرأة عربية وفي مدينة عربية، إنّها جامعة القرويين بفاس المغربية، جامعة كانت في البداية مسجدًا صغيرًا يقتصر دوره على العبادة، ليتحول بعد ذلك إلى جامعة كبيرة في الغرب الإسلامي، توفر تعليمًا في شُعب عديدة، تخرّج فيها الكثير من رموز الفلسفة والدين والأدب العربي، إضافة لشخصيات غربية بارزة.
الجامع الأقدم في العالم
لم تكن فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية المعروفة بـ”أم البنين”، تعلم أن المسجد الذي بنته بغية التقرب إلى الله وإقامة الصلاة سيتحول إلى جامعة يحجّ إليها طلاب العلم من كل مكان قصد التعلم وتصنّفها موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأقدم جامعة في العالم، توفّر تعليمًا في شُعب عديدة من طب وفلسفة وعلوم طبيعية وفلك وغيرها.
أخذ الجامع اسمه من مؤسسته السيدة فاطمة التي يعود أصلها إلى القيروان بتونس
تقول كتب التاريخ إنّ فاطمة الفهرية، ابنة مهاجر من عرب الحجاز يسمى محمد بن عبد الله الفهري، أقام في القيروان بعد فتحها على يد عقبة بن نافع الفهري، فترة من الزمان، وكان تاجرًا ثريًا، ثم ذهب الاثنان إلى المغرب ليستقرا في مدينة فاس، لتتزوج فاطمة هناك، إلا أن المنية وافت زوجها وأخوه وأبيها، فورثت ثروة كبيرة قرّرت استثمارها في الإنفاق على بناء جامع وتوسعته، ليتحول من مسجد صغير إلى جامعة كبيرة في الغرب الإسلامي تحمل اسم “جامعة القرويين”، وأخذ الجامع اسمه من مؤسسته السيدة فاطمة التي يعود أصلها إلى القيروان بتونس، وكان أهل القيروان الذين استقروا بفاس يُكنّون بالقرويين.
مدخل الجامع
بعد وفاة فاطمة سنة 878 ميلاديًا، تكفل السلاطين الذين حكموا البلاد برعاية المسجد، فتحوّل من مسجد صغير إلى منشأة ضخمة متعددة المرافق بفضل عمليات التوسيع والترميم الكثيرة، ابتداءً بالأدارسة ووصولاً إلى الدولة العلوية، وكانت بداية التحوّل الفعلي من مسجد إلى جامعة خلال عصر المرابطين، حيث كانت المساجد في كل العالم الإسلامي مكانًا لإلقاء الدروس أيضًا، فأخذ الطلاب يلتفون حول العلماء والفقهاء للاستفادة منهم.
لكنه تحول إلى جامعة حقيقية في العصر المريني حين تم تجهيزه بالكراسي والخزانات، وبنيت حوله المدارس ليستجمع عناصر النهضة ومقومات التطور، فتوفرت له خصائص ومميزات الجامعة، بعد أن تم استقدام الأساتذة واستقبال الطلبة وتقرير المواد والعلوم المدروسة والإجازات، وتكوين مكتبة علمية متنوعة التخصصات.
درس في القرويين عالم الاجتماع التونسي عبد الرحمن بن خلدون ولسان الدين بن الخطيب وابن العربي
جامعة نافست جامع الزيتونة في تونس والأزهر الشريف في مصر، فكانت مشتلاً لظهور العديد من العلماء العرب والغربيين أيضًا، حيث تتلمذ داخلها سلفستر الثاني الذي شغل منصب البابا فيما بعد (999-1003)، ويقال إنه أول من نقل الأعداد العربية إلى أوروبا، كما درس بها عالم الاجتماع التونسي عبد الرحمن بن خلدون ولسان الدين بن الخطيب وابن العربي والطبيب والفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون وابن باجة الذي يقال إنه كان نابغة في علوم كثيرة بينها الطب واللغة العربية، وفيها دوّن النحوي ابن آجروم كتابه المعروف في النحو.
الساحة الخارجية للجامعة
في البداية لم تكن الشروط مشددة للالتحاق بها، إذ كانت مفتوحة لمن تابع تعليمًا أوليًا في المدارس القرآنية، كذلك المقررات ظلت حرة من اختيار المدرسين، حتى عام 1789 حين فكر السلطان محمد الثالث في سَن نظام دراسي عام.
وبفضل هذا الجامع الذي بُني على الطراز الأندلسي، تحوّلت مدينة فاس المغربية إلى مركز علمي ينافس مراكز علمية ذائعة الصيت، كقرطبة وبغداد والقاهرة والقيروان وتونس، وعرفت جامعة القرويين بنظام الكراسي العلمية المتخصصة التي جعلت منها جامعة متعددة الدراسات، وقد كان الطلبة – ولا يزالون – يتحلقون في حلقات حول هذه الدروس في مختلف التخصصات.
عمارة شاهدة على الحضارات التي حكمت البلاد
كان جامع القرويين في البداية يتسم بالبساطة في عمارته وزخرفته وبنائه، فقد كان مربعًا على نحو ما عرف في المساجد الإسلامية الأولى إلا أنه تم تطويره وتوسيعه مع مرور الزمان وتغيرّ حكام المغرب نظرًا لما كان يشكو منه من ضيق، فتفنّن المعماريون في صنع القباب ووضع الأقواس ونقش آيات القرآن والأدعية، خاصة في عهد المرابطين الذي يشهد منبر المسجد الذي ما زال قائمًا إلى اليوم على القفزة العمرانية التي شهدها المسجد.
تعتبر المئذنة المربعة الواسعة التي لا تزال قائمة إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين أقدم منارة مربعة ثبتت في الغرب الإسلامي
بعد ذلك قام الموحدون بوضع الثريا الكبرى التي تزين المسجد إلى اليوم، شاهدة على الحضارة الموحدية وروعة الفن المغربي، ولجامعة القرويين سبعة عشر بابًا، من أبرزها باب الشماعين وهو الباب الرئيسي وباب الحفاة وباب الورد، وتتميز بقبابها الخضراء ومحرابها الخشبي العتيق ونافورتها الدائرية التي تتوسط باحتها، ويتوزع سقفها بين جزء مغطى وجزء مفتوح على السماء.
إحدى نافورات المسجد
وازدان الجامع عبر العصور اللاحقة بمختلف أشكال الثريات والساعات الشمسية والرملية، إضافة إلى مرافق ضرورية مثل غرفة المؤقتين ومقصورة القاضي وخزانة الكتب والمصاحف وغير ذلك، وتعتبر المئذنة المربعة الواسعة التي لا تزال قائمة إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين أقدم منارة مربعة ثبتت في الغرب الإسلامي.
الثريا الكبرى لجامع القرويين معروضة بمتحف اللوفر بباريس
بلغت مساحة الجامعة في بادئ الأمر 250 مترًا مربعًا، لتصل اليوم إلى نحو 5845 مترًا مربعًا، نتيجة عمليات التوسعة المتكررة التي شهدتها على مرّ العصور، منذ تأسيسها إلى الآن، وتتألف الجامعة اليوم من عدد من الكليات تدرس علوم الشريعة الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وفيها خمسة أحياء جامعية يحتوي كل منها على مكتبة ويصل مجموع المخطوطات والكتب الثمينة التي تضمها مكتبات الجامعة إلى أكثر من 45 ألف مخطوطة وكتاب.