لا يُبدِعُ الإنسانُ خارجَ لُغتِه، وإن غالبَ الواقعَ تهاوى ولم يقوَ على المداومة، كما أنه يشعرُ بمرارةِ التبعيةِ والمهانةِ التي لا فِكاكَ منها إلا بالعودةِ إلى رحابِ لغته والاغترافِ من مَائِها القَراح ومِسكِها الفَواح، ولا يُمكِنُ لِعاقلٍ أن يُنكِرَ ما تُعانيه الضادُ في عصرنا الحالي من تهميشٍ مؤسِفٍ على أيدي أبنائِها في شتى أصقاعِ الأرض.
أضحى التعبيرُ فيه بغيرِ الضادِ سِمةً من سِماتِ النُخبة ومن على شاكِلتِهم ممن يتطلعون لمراقي الكمال، بينما الحديثُ بالعربية قاصِرٌ على من لا باعَ لهم في مواكبةِ ركبِ النهضةِ والعلم
فباتت تُطِلُ على ألسُنِ السوادِ الأعظمِ منهم على استحياءٍ شديد، وينطِقُ بها المرءُ على عُجالةٍ ومن وراءِ حجابٍ حتى لا يُشارَ إليه بالتردي في غياهبِ الماضي السحيقِ والانفصالِ عن العصرِ الحديثِ الذي أضحى التعبيرُ فيه بغيرِ الضادِ سِمةً من سِماتِ النُخبة ومن على شاكِلتِهم ممن يتطلعون لمراقي الكمال، بينما الحديثُ بالعربية قاصِرٌ على من لا باعَ لهم في مواكبةِ ركبِ النهضةِ والعلم، ومن لم يقطعوا شوطًا في طريقِ الحضارةِ ولا يزالون يرسِفون في أغلال الماضي المُظلِم.
يَنقِلُنا هذا على جَناحِ السُرعةِ إلى الموقفِ الذي تَبنَاه نُخبةُ الأمس، وعلى رأسهم قاسم أمين وسلامة موسى وفرح أنطوان وغيرهم، حيثُ سعوا سعيًا حثيثًا لنزعِ الحركاتِ الإعرابية عن اللغة، تزامُنًا وتناغُمًا مع دعوتهِم لنزعِ حجابِ المرأة، أراد هؤلاءِ أن يُجرِدوا الضادَ من حِجَابِها!
مرَّ على بن أبي طالبٍ – كرم الله وجهه – على رجلٍ يقرأُ القرآنَ فقال له: أتُحسِنُ العربيةَ؟ قال: لا، فقال علي: هلكْتَ وأهلكت
وهو مطلبٌ غريبٌ مُغرِقٌ في العجب، بَيدَ أن هذا العجبَ سُرْعان ما يزول إذا ما أدركنا أنه ثمرةٌ مُرَّة من ثمارِ التبعيةِ والتغريبِ المتعصبِ الأعمى، وللموازنةِ بين ما يرمي إليه هؤلاءِ وما ينبغي أن يكون فقد مرَّ على بن أبي طالبٍ – كرم الله وجهه – على رجلٍ يقرأُ القرآنَ فقال له: أتُحسِنُ العربيةَ؟ قال: لا، فقال علي: هلكْتَ وأهلكت.
وربما يتوهمُ البعض أن الدعوةَ للتعبيرِ بالضادِ في مجالِسِنا ومنازِلِنا هى دعوةٌ للدخولِ في كهفٍ مُظلِم، وأنها دعوةٌ للحديث بلسانِ أبي علقمة ومن يدورُ في فلكِه من المُتقعِرِين والمُتكلِفِين مما يجعلها لغةً مستغلِقة على الأفهام، ولا تُناسبُ الإيقاعَ المتسارعِ للعصر الذي نحياه، فضلًا عن كونها عاجزة عن اللِحاقِ بغيرها في مناحي الحياةِ المتنوعة، ومن ثَّم فإن تَحَوُّلَ الاهتمام عن الضادِ أمرٌ لا غضاضةَ فيه ما دامت مغلولةَ الأيدي حِيالَ واقعنا الحديث ولا حيلةَ لها في هذا السباق.
ويستدلُ هذا الفريق على أن المجالاتِ الحديثةَ في الإدارة والمبيعات والتسويق والعلاقات العامة وغيرها تَرْكَنُ إلى منهلٍ لا يَنْضَبُ في اللغات الأخرى بينما لا يجدونَ بُغيتِهُم في الضاد، وهذا الفهمُ يحتاجُ إلى تنقيح حيثُ أن قعودَنا عن مهامِنا تِجاهَ لُغتِنا لا يَقدَحُ فيها، وإنما يشيرُ إلى فتورِ الهمةِ وتوسيعِ قاعدةِ التواكُلِ وغيابِ موضوعيةِ تناول المسألة.
تعلُّم الضاد ليس من قبيلِ الكماليات أو أحد جوانب الترفيه، بينما يمثلُ مصيرَ أمةٍ بأسرِها
إن تعلُّم الضاد ليس من قبيلِ الكماليات أو أحد جوانب الترفيه، بينما يمثلُ مصيرَ أمةٍ بأسرِها، وأتساءلُ بهدوء: أيهما أصعبُ علينا إيقاظ لُغةِ من سُباتِها أم إحياء لغةٍ مَوَات؟! لقد قامَ اليهودُ بإحياء لغتِهم من الموت، فحين وضعت أمريكا دستورها الحديث عام 1974 تقدَّم اليهود بطلب للكونجرس الأمريكي يطالبون فيه بإعفائهم من الدراسة في المدارس العامة، وأن يكتفوا بالدراسة في المدارس اليهودية بدعوى الحفاظ على اللغة العبرية والهُوية اليهودية، فقوبِلَ طلبُهم بالرفضِ مما دفعهم للرضوخِ للأمر، ولكنهم أسسوا مدارسَ لتدريس العبرية يومي العطلة الأسبوعية، وهو ما ساعدهم على احتفاظهم بالعبرية.