حالة توتر وترقب تجتاح لبنان، الكل ينتظر المعركة، هل سيتكرر سيناريو عام 2006؟ تبدو الظروف مختلفة هذه المرة وحتى الأولويات، فاللاعبان الأساسيان في حرب تموز 2006 مشتّتان، وكل منهما لديه أفضلياته في الوقت الحالي.
“إسرائيل” اليوم جُلّ اهتمامها تدمير قطاع غزة، وتكرر أنها لا تريد توسيع الصراع، وترسل الرسائل عبر حلفائها لخصومها، لا تقتربوا!
أما “حزب الله” لم ينشف نزيف دماء قواته من سوريا والعراق حتى الآن، لكن رغم هذا لا نستطيع أن ننفي احتمالية حدوث معركة في حال توسعت المعارك واشتركت أطراف أخرى.
اليوم يشهد الجنوب اللبناني المتاخم لـ”إسرائيل” حركة نزوح كثيفة من السكان، تحديدًا من القرى الحدودية، حيث عُلّقت الدراسة في المدارس والجامعات بأمر من وزير التعليم اللبناني تحسُّبًا لأي خطر، خاصة بعد حوادث إطلاق الصواريخ من الجنوب وردّ “إسرائيل” عليها.
يزداد غليان المنطقة مع سقوط قتلى من جنود “حزب الله” وكذلك القوات الإسرائيلية، التي أحبطت بحسب إعلامها محاولة تسلُّل من فصائل فلسطينية.
تردّ “إسرائيل” على كل الهجمات التي يمكن وصفها بالمحدودة والمنتظرة، فجاهزيتها وتقنياتها عالية عند حدودها الشمالية، ولا تبدو أنها تحمل نوايا للتوسع بمعارك تتعدى الحدود المتاخمة لـ”إسرائيل”.
تجري العادة إبّان هذه الأجواء أن يُسمع صوت طائرات حربية إسرائيلية تحلق من ارتفاع منخفض فوق سماء لبنان، لكن ليس هذه المرة، فمن الواضح أن “إسرائيل” لا تريد فتح جبهة أخرى، في الوقت نفسه تبقى متيقظة عند حدودها الشمالية التي تشكّل عينها الثانية.
الموقف اللبناني من عملية “طوفان الأقصى”
تضاربت المواقف في لبنان حول عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها، في البداية لم يصدر موقف رسمي واضح، أولًا لعدم وجود رئيس للجمهورية حتى الآن، ثانيًا لأن موقف لبنان معروف، خاصة أنه وبحسب الدستور يعتبر “إسرائيل” عدوًّا ويعدّ التعامل معها خيانة.
هناك تصريحات أدلت بها شخصيات رسمية وتكتلات حزبية بارزة خرجت إلى الإعلام، نذكر منها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، الذي اعتبر بحسب بيان مجلس الوزراء “أن ما يجري داخل الأراضي الفلسطينية هو نتيجة حتمية لنهج العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني ومطالبه المحقة”.
مكملًا: “أما الحل لهذا الصراع المفتوح على الدم فيبدأ بتحمّل المجتمع الدولي لمسؤولياته في الضغط على “إسرائيل”، لحملها على العودة إلى خيار السلام بمرجعياتها المعروفة، لا سيما مبادرة السلام العربية التي صدرت عن قمة بيروت عام 2002، وما عدا ذلك فهو إمعان في الدوران في دوامة العنف التي لن تفيد أحدًا”.
وكتب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جمبلاط، في حسابه على منصة إكس، عبارة مرفقة بصورة الجنود الإسرائيليين منبطحين على الأرض: “التحية لحركة حماس، التحية للمقاتل الفلسطيني، التحية للمقاتل العربي الذي حطم أسطورة التفوق الإسرائيلي بالأمس واليوم وفي كل ساعة وفي كل ساحة وفي كل زمن”.
وكذلك حيّا مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، في تصريح له “أبطال طوفان الأقصى على المعركة النوعية التي أربكت الاحتلال الإسرائيلي ورفعت رأس الأمة العربية والإسلامية، وأكد أن فلسطين هي أرض عربية مقاومة بأهلها وأمتها”، وأعلنت دار الفتوى اللبنانية تخصيص خطبة صلاة الجمعة عن فلسطين والعدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، بالإضافة إلى إقامة صلاة الغائب على أرواح ضحايا العدوان الغاشم، بحسب بيان دار الإفتاء.
على صعيد آخر، جاءت بعض تصريحات زعماء الأحزاب والتكتلات النيابية بنكهة الاستياء من عملية المقاومة على “إسرائيل”، والذين شددوا على أن لبنان يجب أن يبقى على الحياد، ومن تلك التصريحات تصريح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي كتب عبر منصة إكس: “أهم شيء عدم توريط اللبنانيين بتحمّل ما ليس بطاقتهم، بعد كل الأوضاع الصعبة التي يعيشونها”.
كذلك هاجم بعض الإعلاميين والناشطين “حزب الله”، واعتبروه دولة بحدّ ذاتها، وأنه الوحيد الذي يملك قرار السلم والحرب، واتهموه بتجاهل الشعب ومؤسسات الدولة.
ومن أهم هؤلاء الصحفيين طوني بولس الذي يعمل مع صحيفة “اندبندنت عربية”، الذي قال: “من يريد الحرب ليذهب إلى غزة.. هل يعقل غياب الحكومة اللبنانية ورئيسها نجيب ميقاتي عن التطورات وعدم دعوته لاجتماع أمني عاجل؟ بهذه السهولة يتم تفويض السلطة والسيادة لحزب الله الذي ينتظر ما يقرَّر في إيران لينفّذه؟ أليست مسؤولية الحكومة إعلان حظر تجوال ونشر الجيش على الحدود ولجم أي تصعيد وانزلاق إلى حرب؟”.
انقسام واضح داخل المجتمع اللبناني، بين من لا يمانع الدخول في الحرب ودعم المقاومة في غزة، ومن يرى أن لبنان لم يشفَ من جراح انفجار المرفأ والانهيار الاقتصادي، لكن القرار يبقى مرهونًا بحسابات إقليمية ودولية.
جبهة جنوب لبنان
حتى الآن تعتبر منطقة الجنوب المحاذية لـ”إسرائيل” خطرة وبانتظار الحرب، حيث أُقفلت أغلب المصالح في القرى الحدودية وغادر السكان في موجة نزوح كبيرة نحو مدن أخرى كصيدا وصور، كذلك عُلّق التعليم وتوقفت المدارس والجامعات عن العمل، وكأن الحرب ستبدأ.
لكن رغم المناوشات التي سُجّلت مؤخرًا على جبهة جنوب لبنان، تبقى التحركات والضربات محصورة جدًّا في أماكن شبه خالية، ولم تطل مدنيين بشكل مباشر حتى الآن، تشكّل هذه الضربات تعبيرًا عن ردة فعل أو تضامن، لكن من الواضح أن التنسيق بين جبهة غزة ولبنان غير موجود بشكل دقيق، فيبدو أن “حزب الله” متفاجئًا من العملية المباغتة التي نفّذتها كتائب القسام، وترجّح بعض المصادر أن القسام أخفت عن الحزب العملية خوفًا من تسريبات.
محليًّا، يحاول “حزب الله” من خلال الصواريخ التي أطلقها استعادة مياه وجهه أمام الرأي العام اللبناني، على الأقل الذي يسأل عن بوصلته التي تحولت في السنوات الأخيرة من “إسرائيل” جنوبًا إلى سوريا شمالًا، كذلك ليؤيد حركة المقاومة وأن “إسرائيل” ما زالت العدوة.
https://twitter.com/2e3lammk2020/status/1712834145850659328
سقط للحزب مؤخرًا ما يقارب الـ 6 قتلى، ومن الجانب الإسرائيلي قتيلان بحسب الإعلام، وأن القتيلَين اللذين سقطا من الجيش الإسرائيلي كانا نتيجة عملية التسلل التي نفّذتها فصائل فلسطينية، ولم يتبناها الحزب.
ينتشر على منصة إكس هاشتاغ #لبنان_لا_يريد_الحرب، يعبّر فيه بعض المغردين عن عدم رغبتهم في خوض تجربة حرب، وأنهم يفضلون البقاء بعيدًا عن أحداث غزة، فلبنان لن يقدر على حرب مدمرة مع “إسرائيل”، في المقابل لا تتوسع “إسرائيل” بضرباتها أكثر مع لبنان، لكنها في الوقت ذاته لن تتردد من أن تردَّ الصاع صاعَين.
وتشتعل التهديدات والحرب الإعلامية بين الطرفَين، والتي تفوقت على الحرب الواقعية، لتظهر أن الحزب و”إسرائيل” غير متشجعَين لفتح جبهات، فلكل حساباته الخاصة، ولا يبدو أنهما يلتقيان على خيار حرب قريبة.
أهمية شمال “إسرائيل”
الجميع يقرّ أن “إسرائيل” قد صُفعت بقوة من جنوبها، وهي اليوم على أهبّة الاستعداد لحرب إبادة شرسة تعيد إليها هيبتها، أقلها أمام شعبها الذي شعر للحظات أن دولته في خطر، وأن نبوءة زوال “إسرائيل” حقيقية.
غضب واضح ونقمة على وجه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، كذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كانت هذه السنة عليه قاسية داخليًّا، من مظاهرات واعتصامات ضد حكومته اليمينية، وبعدها عملية القسام التي من شأنها أن تطيح به قريبًا وحكومته.
ورغم حالة الإرباك والفوضى، تحاول “إسرائيل” لملمة بعضها وشحذ تعاطف دولي وشعبي لردع أي هجوم عليها، وهي على استعداد لفتح جبهات عديدة والتعامل بلا راحة أو هوان مع أي خطر يمسّها، خاصة في ظل الدعم الخارجي اللامتناهي من الولايات المتحدة وأوروبا.
ومع هذا الدعم تبدو سلوكياتها الحربية واللوجستية كأنها تنظيم أكثر منه دولة واحدة موحّدة، كتجميع جنودها من أنحاء العالم، وتجنيدهم من أجل ارتكاب مجازر وقتل المدنيين، تمامًا كمؤسسة فاغنر، كلاهما يتعاملان بلا إنسانية وبشراسة وضمّ مرتزقة في صفوفهما.
تغطية صحفية | وقفة أمام السفارة المصرية في العاصمة اللبنانية بيروت تضامنا مع غزة
لمزيد من التغطية تابعونا على تليجرام «رصد»: https://t.co/77l368kpUJ pic.twitter.com/HrO0GxYgfa
— شبكة رصد (@RassdNewsN) October 13, 2023
وبالعودة إلى جبهة الشمال الإسرائيلية اللبنانية، ورغم حشد “إسرائيل” قوتها باتجاه غزة، إلا أنها لم تتوانَ عن إرسال تهديدات إلى لبنان من وقت لآخر كلما سنحت لها الفرصة، وذلك للتذكير بأنها على استعداد لفتح جبهة شمالية في أي وقت.
“إسرائيل” تدرك جيدًا أن جبهة الشمال خطرة ومفتاحها إيران، وهي تبدو مستعدة لها تمامًا، خاصة بعد أن أفرغت المستوطنات المتاخمة للبنان، وأبلغت البعض الآخر بالنزول إلى الملاجئ المجهّزة بكل شيء.
جبهة الشمال رغم وجود قوات حفظ السلام بالإضافة إلى الجيش اللبناني، لا ترى “إسرائيل” في هؤلاء خطرًا جادًّا عليها، فالجيش اللبناني إمكاناته محدودة جدًّا، وقوات حفظ السلام لا تستطيع فعل شيء يذكر سوى إطلاق البيانات، والملعب مفتوح أمامها لفعل ما يحلو لها خاصة مع الدعم الغربي الكبير.
https://twitter.com/Munira1601/status/1712800596720275571
الشمال الإسرائيلي مهم جدًّا، وهو عينها الساهرة ومركز قوتها، ولا يقل أهمية عن الجنوب، فالشمال هو مكان تواجد اليهودي الأشكنازي المدلل عندها، والذي يعتبَر الأهم بين اليهود، فهم العرق الأبيض القادم من أوروبا، وهم الأغنياء العلمانيون القابضون على زمام مراكز الدولة وواجهة “إسرائيل” أمام العالم، على عكس بعض سكان الجنوب المتديّنين الذين يسكنون المستوطنات.=
بالإضافة إلى وجود مدن مهمة في الشمال، مثل حيفا التي تضم المرفأ رئة “إسرائيل” ومحركها، وهو الكنز الذي يدرّ لها أرباحًا طائلة جراء استخدامه لصفقات نقل الغاز والبترول إلى مختلف أنحاء العالم، وبين جبهة الشمال وجبهة الجنوب تبقى هنا جميع الاحتمالات مفتوحة، بانتظار عامل مفاجئ يقلب قواعد اللعبة.