جاءت إبستومولوجيا التعقد لتغير طريقتنا في تحليل الظواهر والموضوعات المختلفة وتزداد أهميتها في مجال العلاقات الدولية بحكم شمولية الظواهر في هذا الحقل المعرفي، وهي تستند ابتداءً إلى تجاوز مبدأ الاختزال، فالرؤية الكلاسيكية دربت تفكيرنا على منطق الاختزال بحيث أصبحنا نحذف كل ما يشوش علينا من تناقضات وتفاعلات.
كما تهتم إبستمولوجيا التعقد بطبيعة العلاقة السببية، فالرؤية الكلاسيكية ترى أن كل السلوكيات والأحداث إنما تقوم على وحدة اتجاه العلاقة السببية بين عنصري السبب والنتيجة.
تفترض إبستومولوجيا التعقد أن التفاعلات في الواقع أعقد من ذلك، إذ إن هناك تبادل للأدوار بين السبب والنتيجة
بينما تفترض إبستومولوجيا التعقد أن التفاعلات في الواقع أعقد من ذلك، إذ إن هناك تبادل للأدوار بين السبب والنتيجة، ويضاف إلى ذلك استناد إبستومولوجيا التعقد إلى مبدأ اللاخطية، إذ تفترض الرؤية الكلاسيكية أن الظواهر والأوضاع المختلفة تتطور دائمًا في اتجاه خطي بغض النظر عن بطء أو سرعة هذا التطور، في حين ترى إبستومولوجيا التعقد أن الأوضاع الفعلية لا تتطور بشكل خطي وإنما قد يرتد وضع معين إلى حالة مناقضة لها أو قد يتمدد إلى أوضاع لم تكن متوقعة، وهذه الخصائص في مجملها لا غنى عنها لفهم ظاهرة الإرهاب الدولي.
منطق الاختزال وظاهرة الإرهاب الدولي
لقد كانت هناك محاولات عديدة ومتنوعة لتفسير ظاهرة الإرهاب الدولي تولد عنها بناء مجموعة من النماذج في هذا السياق، فالنموذج الديني يقوم على فكرة منطق الربط بين مقومات العقيدة الإسلامية وظاهرة الإرهاب الدولي، أي أن النصوص الإسلامية في حد ذاتها معادية للديانات الأخرى وهو ما يشكل من وجهة نظر هذا النموذج نسقًا عقيديًا جاهزًا لتبرير السلوك الإرهابي، حيث يرى كآلان مينك ولوران أرتور أن الإسلام دين عنفي بطبعه فهو نسق يقوم على الحرب المقدسة.
إن مشكلة هذا التفسير أنه يختزل الإسلام، تلك الديانة التي قارب عمرها خمسة عشر قرنًا من الزمن، ببعض الظواهر الضيقة والحديثة التي سنجد أمثالها في ديانات وأقوام أخرى، والنموذج الثقافي يرى أن هذا “الإرهاب” أو “الجهاد الإرهابي” كما أسماه توري مونتي يعبر عن انزعاج ثقافي عميق في العالم الإسلامي، ويرمز إلى انهيار أشمل للهوية، حيث يربط البعض الإرهاب بأزمات الهوية عبر التاريخ، ويرى لويس أن الإرهاب هو حالة من الغضب والخيبة والاستعصاء على تقبل قيم الحداثة والديمقراطية.
النموذج السياسي فيرى أن مسبب الإرهاب الوحيد والحصري هو المعاناة السياسية والظلم
أما النموذج السياسي فيرى أن مسبب الإرهاب الوحيد والحصري هو المعاناة السياسية والظلم، ويرون أنه مع الأوضاع المتردية وغلق المجال السياسي كان الإرهاب ردًّا على عنف الدولة، حيث إن العنف السياسي في الشرق الأوسط يتغذى من الدورة الجهنمية (اضطهاد – عنف – اضطهاد)، أما في النموذج الاستراتيجي استحوذت فكرة “التهديد الإسلامي” بديلاً عن التهديد الشيوعي، المتمثلة في الجماعات الإسلامية المقاتلة من إيران إلى طالبان وصولاً إلى أسامة بن لادن، حتى تنظيم داعش، على تصورات الحكومات الغربية.
وفي السياق ذاته يأتي اعتبار أن الأصوليين يريدون بالعنف استعادة مجد الإسلام واسترجاع الأراضي التي فقدها كإسبانيا وصقلية والبلقان وروسيا وحتى جنوب فرنسا إلى بواتيي، ويصور دانيال بايبس أن العدو الذي تواجهه أمريكا وحلفاؤها هو “الإسلام المقاتل”، وأخيرًا النموذج الفلسفي، يتلخص التفسير الفلسفي للإرهاب في وجهتي نظر كل من جان بوديار وجاك دريد.ا تتلخص رؤية جان بوديار أن الإرهاب رد على النظام العالمي، فهذا الأخير هو الذي ولّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف.
إن تفسير ظاهرة الإرهاب الدولي لا يمكن أن تستند بأي حال من الأحوال إلى أحد هذه النماذج وحدها وإنما كلها تملك جزءًا من الحقيقة عن تلك الظاهرة، وبذلك فإن أي استناد على أي من هذه النماذج بشكل معزول هو بالضرورة استناد قاصر يؤثر بشكل سلبي على فهمنا لهده الظاهرة وبذلك يصبح مبدأ تجاوز الاختزال الذي تنادي به إبستومولوجيا التعقد ذو أهمية بالغة في هذا السياق.
اللاخطية وتطور ظاهرة الإرهاب الدولي، إن محاولة البحث في تطور ظاهرة الإرهاب الدولي تشير بشكل مباشر إلى الطابع اللاخطي لهذا التطور، فعلى الأقل إذا تكلمنا عن الفترة المعاصرة، فقد بدأت ممارسة ظاهرة الإرهاب الدولي من خلال “مفهوم التنظيم”، كما يجسده تنظيم القاعدة.
وفي عز الحرب العالمية على هذا التنظيم وحين كان الكل يتوقع نجاح الجهود العالمية في هذه الحرب على القضاء على ظاهرة الإرهاب الدولي، إذ نشهد أن هذه الظاهرة قد أخذت مسارًا آخر غير متوقع من حيث العمل على “مأسسة” هذه الظاهرة مثل نموذج تنظيم الدولة الإسلامية.
حيث أصبح هذا التنظيم الذي احتل مساحات واسعة من دول معينة في منطقة الشرق الأوسط يتصرف وفق سلوك الدول ويبرر ذلك بطرق مختلفة، فمن جهة يدعي أنه ما دام هناك للمكون الشيعي دولة مركزية تحميه فينبغي أيضًا أن يكون لأهل السنة دولة مركزية تحميهم وهي دولة الخلافة التي يدعي هذا التنظيم أنه يجسدها، ومن جهة ثانية من حيث إن دول منطقة الشرق الأوسط يعاد تشكيلها من جديد ولذلك فهي فرصة لتأسيس دولة مستقلة في هذا المشهد الجيبوتيكي المستحدث.
“الذئاب المنفردة” وهي العمليات الإرهابية التي يقوم بها شخص واحد معتمدًا على قدراته الذاتية
وفي أوج اندماجها مع فكرة “مأسسة ظاهرة الإرهاب الدولي” على خلاف صورتها السابقة المرتبطة بمفهوم التنظيم، نجد أن هذه الظاهرة أخذت مسارًا آخر غير متوقع وهو المتعلق بفكرة “الذئاب المنفردة” وهي العمليات الإرهابية التي يقوم بها شخص واحد معتمدًا على قدراته الذاتية دون ظهور مؤشرات تكشف عن وجود علاقة تنظيمية له مع التنظيمات الإرهابية، ويظهر من خلال هذا العرض المختصر لتطور ظاهرة الإرهاب الدولي في الفترة المعاصرة أن مبدأ اللاخطية الذي تستند إليه إبستمولوجيا التعقد هو مبدأ مركزي في استيعابنا لتطور هذه الظاهرة.
الإرهاب سبب أم نتيجة؟
إن فهم ظاهرة الإرهاب سيكون حتمًا فهمًا قاصرًا إذا تعاملنا معها فقط على أنها نتيجة يجب البحث عن أسبابها، بل هي كذلك سبب تتولد عنه نتائج أخرى، ونستطيع في هذا السياق أن نطرح مجموعة من التساؤلات: هل فشل الدول هو الذي يغذي ظاهرة الإرهاب أم أن ظاهرة الإرهاب هي التي تغذي تحول الدول إلى دول فاشلة؟ وهل النظم التسلطية هي التي تغذي الإرهاب أم أن الإرهاب هو الذي يعزز من سطوة هذه النظم؟ وهل صراعات الهوية هي التي توفر البيئة المناسبة لنشاط الإرهابي أم أن هذا النشاط هو الذي يحفز تلك النوع من الصراعات؟
تناول ظاهرة الإرهاب باعتبارها مجرد نتيجة إنما هو تناول قاصر
إنها أسئلة على سبيل التمثيل لا الحصر يستدل من خلالها وبغض النظر عن الأجوبة المتعلقة بها أن تناول ظاهرة الإرهاب باعتبارها مجرد نتيجة إنما هو تناول قاصر بل هذه الظاهرة في حد ذاتها هي سبب تتغذى منه ظواهر وسلوكيات أخرى.
إن هذا الطرح الذي يثبت أهمية الاستناد إلى خصائص إبستمولوجيا التعقد في فهم ظاهرة الإرهاب الدولي يمكن تعميمه على الكثير من الظواهر والسلوكيات في العلاقات الدولية الراهنة، فالتعقد أصبح سمة مركزية لهذه العلاقات تحتاج منا إلى مسايرة منهجية له.